- سماحة العلامة المحقق [السيد جعفر مرتضى العاملي] دامت إفاضاته. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ورد في الكافي في باب البداء عن أحد المعصومين [عليهم السلام] الحديث التالي: «ما عبد الله بشيء مثل البداء». وفي رواية أخرى: «ما عظم الله بمثل البداء». السؤال: يفهم من هذه الرواية أن البداء يحتل مكانة دقيقة وعظيمة في الاعتقاد وإلا لم يوصف بهذا الوصف الوارد في الرواية فما هو السر الموجود في البداء والذي يمكن من خلاله أن نفهم بعض أسرار ما جاء في الرواية. ملاحظة: نرجو أن يكون الشرح والإيضاح بشكل موسع نظراً لحاجتنا إلى ذلك في بعض محاوراتنا مع بعض الأخوة السنة فضلاً عن أن يكون الشرح صالحاً للنشر من جهة المصادر والحواشي. ودمتم ذخراً لهذه الأمة ووتداً لهذا المذهب الحق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين..
وبعد..
فقد جاء في الروايات: «ما عبد الله بشيء مثل البداء»( التوحيد للشيخ الصدوق ص332 بتعليق هاشم الحسيني الطهراني طبع جماعة المدرسين قم المقدسة) وفي رواية أخرى: «ما عظم الله بمثل البداء»( المصدر السابق ص333).
ولتوضيح معنى البداء، نقول: لا يمكن أن يكون هناك شيء خافياً على الله سبحانه، وإنما هو يخفى على غيره تبارك وتعالى..
والبداء هو الإخبار عما تقتضيه الحكمة في أمر ما، كالخلق، والرزق، والصحة، ونحو ذلك.. مع السكوت عما يعرض على هذا الأمر من موجبات ومقتضيات أخرى، فيخبر الله سبحانه ملائكته من خلال الكتابة في لوح المحو والإثبات، أو يخبر نبيه بواسطة الوحي إليه، بأن عمر فلان من الناس هو سبعون سنة، وفق ما تقتضيه حكمة الخلق، ولكنه لا يكتب أو لا يخبر النبي عن أن هذا الشخص سيصل رحمه، فيزاد في عمره ثلاثون سنة، أو سيتناول السم أو سيقتل وهو ابن عشرين، أو سيقطع رحمه، فينقص من عمره ثلاثون سنة، بسبب تأثير هذه المقتضيات والموجبات العارضة، أو المنضمة..
وقد دلت الروايات على أن أم الكتاب هو الذي يكون فيه العلم المخزون المكنون الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه، ومنه يكون البداء.. وهذا هو المطابق لعلمه سبحانه وتعالى.
والبداء حين يُطلق ويضاف إلى غير الله فلا مانع من أن يراد به الظهور بعد الخفاء، ولكنه حين يُطلق ويضاف إلى الله سبحانه، فإنما يراد به معنى ظهور وتجسد الحقيقة المطابقة للوح المحفوظ على صفحة الواقع، وقد قال تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا)( سورة الزمر الآية 48).
تماماً كما هو الحال بالنسبة لكلمة علم، التي أريد بها في كثير من الآيات التعبير عن هذا التجسد والظهور، وتحقق ما علم على صفحة الوجود. فقد قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)( سورة البقرة الآية 143).
وقال: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً)( سورة الكهف الآية 12).
ويقول: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)( سورة محمد الآية 31).
فالبداء حقيقة وواقع لا ريب فيه، وللاعتقاد به تأثير عظيم على كل حياة البشر، وعلى علاقتهم بالله تعالى: وذلك لأن الاعتقاد بالبداء إنما يعني:
1 ـ رفض عقيدة أن الله سبحانه محكوم بقدره، مغلول اليد، وأنه قد جف القلم، بعد أن كتب ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، ولم يعد هناك أية إمكانية للتصرف، تماماً كما حكاه الله تعالى عن اليهود، حيث قال: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)( سورة المائدة الآية 64)..
وقد روي عن الإمام الصادق [عليه السلام]، أنه فسر قوله تعالى: (وَقَالَتِ
الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) بقوله: قد فرغ من الأمر(تفسير القمي علي بن ابراهيم ج1 ص171 ط3 سنة 1404 دار الكتاب قم).
ومعنى ذلك هو: أن الله سبحانه عاجز عن التصرف، وحين يرى الإنسان ربه عاجزاً عن أي تصرف، فلماذا يرتبط به، ولماذا يطلب منه حوائجه، أو يتوسل إليه لكشف الضر عنه، أو يدعوه لشفاء المريض، ولزيادة الرزق، ولغير ذلك؟!.. إنه سيشعر أنه في غنى عنه.. وأنه لا مبرر للارتباط به.. وبذلك يرى نفسه غير مطالب بتحقيق رضا الله، ولا بالتزام الحدود الشرعية والإيمانية..
2 ـ إن الاعتقاد بالبداء يذكي الطموح في الإنسان، ويدعوه إلى أن يرسم الخطط، ويضع البرامج، وأن يسعى للتخلص من العوائق، وتغيير المعادلات.
3 ـ قد ذكر المجلسي [رحمه الله] أيضاً، ثلاث فوائد للبداء، هي:
ألف ـ أن يظهر الله سبحانه للملائكة الكاتبين في اللوح، والمطلعين عليه، لطفه تعالى بعباده، وإيصالهم في الدنيا إلى ما يستحقونه، فيزدادوا به معرفة..
ب ـ أن يعلم العباد ـ بواسطة إخبار الرسل والحجج لهم ـ أن لأعمالهم الحسنة مثل هذه التأثيرات، وكذلك لأعمالهم السيئة تأثيراتها. فيكون ذلك داعياً لهم إلى فعل الخيرات، وصارفاً لهم عن فعل السيئات..
(1).
ج ـ إنه إذا أخبر الأنبياء والأوصياء [عليهم السلام]، أحياناً عن لوح المحو والإثبات، ثم أخبروا بخلافه يلزم الناس الإذعان به، ويكون في ذلك تشديد للتكليف عليهم، وتسبيب لمزيد من الأجر لهم. إذ لا شك أنهم يؤجرون على هذا التسليم(راجع سفينة البحار مادة البداء)..
أما عدم الاعتقاد بالبداء ففيه السلبيات التالية:
1 ـ إنه يجر الإنسان إلى حالة من الكسل والخنوع، ويفقده كل حيوية ونشاط وقوة، حتى لا يكون إنساناً فاعلاً في الحياة ولا مؤثراً فيها..
2 ـ إنه يجر الإنسان إلى اليأس القاتل، وإلى الخيبة، والفشل الروحي الذريع..
3 ـ إن عدم الاعتقاد بالبداء يفقد الإيمان بالغيب مضمونه ومعناه.. لأنه يحوله من غيب حي، وفاعل، ومؤثر، إلى غيب قاس قاهر، يبعث الجمود والشلل في الحياة الإنسانية.. أي أن الاعتقاد بعدم البداء المساوق للاعتقاد بالجبرية الإلهية، هو المسبب لتلك السلبيات. فأما الشيعة الجاهلون بالبداء فإنما يعملون بمقتضى فطرتهم التي تقودهم إلى انتهاج سبيل من يؤمن بهذه الحقيقة الفطرية الراسخة. ولعل هذا هو السبب في أن الذي يُخرج من المذهب هو إنكار البداء..
أما عدم الاعتقاد به، بسبب الجهل، أو عدم الالتفات فلا محذور فيه.. لكن ذلك يوجب حرمان الإنسان من فوائد وعوائد رصدها الله لمن يلتفت ويعتقد بهذا الأمر بصورة تفصيلية.
وأما بالنسبة للغربيين: فإن عدم اعتقادهم بالبداء قد لا يكون واضح الانطباق عليهم.. إذ أن من يعتقدون بالله من الغربيين إما أنهم لا يعتقدون بالجبرية الإلهية، بسبب غفلتهم عن هذا الأمر مطلقاً فيكون حالهم حال الشيعة الجاهلين بهذا الأمر.. أو لا يعتقدون بالله. وهؤلاء أيضاً لا يرون جبرية في مسيرة الكون والحياة، بل هم يعيشون فكرة إطلاق اليد وامتلاك حرية التصرف في كل شيء في هذا الكون.. فيكون حالهم حال من يعتقد بالبداء من حيث عدم شعوره بالخيبة، وبالفشل واليأس.
وأما أهل السنة فإن أكثرهم أيضاً يعيشون حالة الغفلة والجهل بتفاصيل عقائدهم. وذلك يفسح المجال أمام الفطرة والوجدان ليقودا مسيرة هذا النوع من الناس في مثل هذه الأمور، المغفول عنها أو التي تغافل علماؤهم عنها، فلم يعملوا على تركيزها في نفوسهم وفي حياتهم لسبب أو لآخر.
أما الذين عاشوا عدم الاعتقاد بالبداء منهم فإنهم ولا شك متأثرون به، مستسلمون، خاضعون، خانعون للجبارين وللمستعمرين.
هذا.. وقد استفاد الاستعمار والحكام عبر التاريخ من اعتقادات كهذه، واتخذوا منها وسيلة لاستمرارهم في إذلال الناس، والتسلط عليهم.
أما حقيقة البداء فنبينها كما يلي:
إن الله سبحانه قد خلق لوحين:
أحدهما: اللوح المحفوظ وأم الكتاب، وهو المطابق لعلمه تعالى.. فلا تغيير فيه ولا تبديل..
الثاني: لوح المحو والإثبات، فيكتب فيه مثلاً: أن عمر زيد خمسون سنة، أي بحسب عمره الطبيعي الذي معناه: أن الحكمة تقتضي أن يكون له هذا المقدار من العمر.. إذا لم يصل رحمه، فإذا وصله زِيد في عمره ثلاثون مثلاً.. وإذا لم يقطع رحمه، فإذا قطعه نقص من عمره ثلاثون.. فالتغيير الواقع في هذا اللوح بعد حصول صلة الرحم أو قطيعتها، هو ما نسميه بالبداء..
وقد ظهر بذلك أن الذين ينكرون البداء، بحجة أنه يستبطن الجهل من الله، وأنه لم يكن يعلم بالشيء فعلمه.. لم يفهموا حقيقة البداء على النحو الذي بيناه، من أن ما يكتب في اللوح هو ما يوافق الحكمة، بغض النظر عما يرد على ذلك من موانع، أو ما يستجد من مقتضيات، من خلال فعل الإنسان الاختياري الذي يتمثل بالصدقة، أو الدعاء، أو الاستشفاع، أو ما إلى ذلك..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..