قال تعالى : «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاةً ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير» (1) .
قال الطبري في تفسير هذه الآية : «إلا أن تتقوا منهم تقاةً» ، قال : (إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم ، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة .
وقد حدث عن عكرمة ومجاهد في قوله : «إلا أن تتقوا منهم تقاةً» ، أي ما لم يهرق دم مسلم ولم يستحل ماله .
وعن الضحاك وابن عباس : التقية باللسان ، ومن حمل على أمر يتكلم به وهو لله معصية ، فتكلم مخافة على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان فلا إثم عليه ، إنما التقية باللسان) (2) .
قال الرازي بعد أن ذكر ستة أحكام للتقية في تفسير هذه الآية : ظاهر الآية يدل على أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبيين ، إلا إن مذهب الشافعي أن الحال بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة عن النفس .
(1) آل عمران : آية 28 .
(2) جامع البيان : ج 3 ، ص 229 .
وقال أيضاً : التقية جائزة لصون النفس ، ثم تساءل الرازي بقوله : (وهل هي جائزة لصون المال) ؟ فحكم بالجواز احتمالاً اعتماداً على قوله صلى الله عليه واله وسلم : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ، وقوله صلى الله عليه واله وسلم : «من قتل دون ماله فهو شهيد» ، ثم جعل الرازي التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة ، وقال : ( لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان) (1) .
ثم جاء القرطبي ، فنقل قول الحسن البصري (التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة) (2) .
وقال تعالى : «من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم» (3) .
واتفق الشافعي في أحكامه (4) وابن الجوزي في زاده (5) والقرطبي في جامعه على دلالة الآية على مورد التقية ، ونحن نكتفي بذكر كلام القرطبي ، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى ما شرنا إليه من المصادر .
قال القرطبي مفسراً للآية : (هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر في قول أهل التفسير ، لأنه قارب بعض ما ندبوه إليه) ، ونقل قول ابن عباس : وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : «كيف تجد قلبك» ؟ قال : مطمئناً بالإيمان ، فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : «فإن عادوا فعد» (6) .
وقال تعالى : «وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب» (7) .
(1) التفسير الكبير : ج 8 ، ص 12 .
(2) الجامع لأحكام القرآن : ج 4 ، ص 57 .
(3) النحل : آية 106 .
(4) الشافعي ، أحكام القرآن : ج 2 ، ص 114 ـ 115 .
(5) زاد المسير : ج 4 ، ص 496 .
(6) الجامع لأحكام القرآن : ج 10 ، ص 181 .
(7) غافر : الآية 28 .
قال الرازي مفسراً للآية :
(إنه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنه كان يكتم إيمانه ، والذي يكتم كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون ؟ ولهذا السبب حصل هنا قولان :
الأول : أن فرعون لما قال : ذروني أقتل موسى ، لم يصرح ذلك المؤمن بأنه على دين موسى ، بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه ، إلا أنه زعم المصلحة تقتضي ترك قتل موسى ، لأنه لم يصدر عنه إلا الدعوة إلى الله ، والإثبات بالمعجزات القاهرة ، وهذا لا يوجب القتل ، والإقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بأقبح الكلمات .
الثاني : أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه أولاً ، فلما قال فرعون «ذروني أقتل موسى» أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى وشافه فرعون بالحق) (1) .
المهم من القولين أن الرجل كتم إيمانه ، وهذا يكفي لإثبات التقية التي اتبعها الرجل خوفاً على نفسه .
وقال تعالى : «وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين» (2) .
وكل مورد يتخلص العبد فيه من إلقاء نفسه في التهلكة أي يظهر خلاف ما يكتم هو مصداق الآية ، وهذه هي التقية ، وهذا المعنى يصدق على الآيات : «لايكلف الله نفساً إلا ما آتاها» (3) ، «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» (4) ، «ادفع بالتي هي أحسن» (5) .
وقال تعالى أيضاً : «ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه» (6) .
(1) التفسير الكبير : ج 27 ، ص 53 .
(2) البقرة : آية 195 .
(3) الطلاق : آية 7 .
(4) البقرة : آية 185 .
(5) فصلت : الآية 34 .
(6) الأنعام : آية 119 .
والاضطرار يحصل من كل المواقع والجهات ، فقد يقع العبد مضطراً أمام الظالم ، فيكون مستثنى ، وعليه إظهار خلاف ما يكتم .
فهذا هو جواب القرآن الكريم حول موقفه من التقية .
مصاديق التقية في التأريخ
أما الموارد التي حدثت فيها التقية في زمن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأجازهم عليها ،فهي كثيرة جداً ، منها أن النبي أرسل مجموعة من المسلمين لقتل كعب بن الأشرف ، فقالوا : يا رسول الله ، أتأذن لنا أن ننال منك ؟ فأذن لهم (1) .
ويقول الطبري : (إن الحجاج بن غلاط السليمي وبعد فتح المسلمين لخيبر استأذن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم للذهاب إلى مكة لجمع أمواله ، وأذن له النبي ، فلما قرب من مكة رأى رجالاً من المشركين يتصيدون الأخبار ، ولم يعلموا بإسلامه ، فسألوه عن ذلك ، فقال لهم : وعندي من الخبر ما يسركم ، قال : فالتاطوا بجنبي ناقتي يقولون : إيه يا حجاج ، قال : قلت : هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط ، وأخبرهم بأن المسلمين قد هزموا في خيبر ، واسر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، مع علمه بأن المسلمين فتحوا خيبر) (2) .
ويقول البخاري نقلاً عن عائشة : (إن رسول الله استأذن عليه رجل للدخول عليه ، فقال : «ائذنوا له ، فبئس ابن العشيرة ـ أو ـ بئس أخو العشيرة» ، فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت له : يا رسول الله ـ والكلام لعائشة ـ قلت ما قلت ، ثم ألنت له في القول ؟ فقال صلى الله عليه واله وسلم : «أي عائشة ، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه») (3) . ونقل البخاري رواية اخرى تدل على التقية من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (4) .
(1) ابن العربي ، أحكام القرآن : ج 2 ، ص 1257 .
(2) تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 305 ، حوادث سنة 7 هـ ؛ الكامل لابن الأثير : ج 2 ، ص 223 .
(3) صحيح البخاري : ج 8 ، ص 38 ، كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس ؛ سنن أبي داود : ج 4 ، ص 251 ، ح 4791 .
(4) صحيح البخاري : كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس ، 5780 .
أضف إلى ذلك ما نطق به رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من أحاديث تكشف عن براءة من يكتم أمراً ويظهر خلافه خوفاً من خطر محتمل ، مثل : «رفع عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (1) ، وحديث «لا ضرر» (2) .
فالتقية محاطة بهذا الحجم الغفير من الآيات والروايات ، التي لا يستطيع أحد إنكارها ، لنقلها في امهات الكتب السنية والشيعية ، وتسالم عليها فحول الفقهاء والمحدثين من الطرفين .
التقية عند أئمة أهل البيت عليهم السلام
يقول الإمام علي عليه السلام : «وآمرك أن تستعمل التقية في دينك . . . . . وتصون بذلك من عرف من أوليائنا ، فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك . . . . وإياك وإياك أن تترك التقية التي أمرتك بها . . . » ، إلخ (3) .
لقد تحدث الباقر عليه السلام عن التقية معاتباً الكميت على قوله :
فالآن صرت إلى اميــة ** والامور إلى المصائر
وبعد اعتذار الكميت عن قوله هذا بقوله : نعم ، قد قلت ذلك ، ما أردت به إلى الدنيا ، لقد عرفت فضلكم .
فأجابه الإمام عليه السلام : «أما إن قلت ذلك تقية ، إن التقية لتحل» (4) .
وتحدث الإمام الصادق عليه السلام عن التقية بقوله مخاطباً أبا عمر الأعجمي : «يا أبا عمر ، إن تسعة أعشار الدين في التقية ، ولا دين لمن لا تقية له» (5) .
(1) كنز العمال : ج 4 ، ص 233 ، ح 10307 .
(2) من لا يحضره الفقيه : ج 4 ، ص 243 ، ح 777 .
(3) الإمام الصادق ، محمد أبو زهرة : ص 241 ـ 242 .
(4) الأغاني : ج 17 ، ص 25 .
(5) الكافي : ج 2 ، ص 225 ، باب التقية ، ح 2 .
ويقول الكليني ، بسنده عن معمر بن خلاد ، قلا : سألت أبا الحسن عليه السلام عن القيام للولاة ، فقال : قال أبو جعفر عليه السلام : «التقية من ديني ودين آبائي ، ولا إيمان لمن لا تقية له» (1) .
وغير ذلك من الأحاديث التي نقلها الشيعة في كتب الحديث المعروفة عندهم تحت باب التقية .
[
ونسب للإمام السجاد قوله :
إني لأكتم من علمي جواهـره ** كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقـد تقدم في هذا أبو حـــــسـن ** إلى الحسين وأوصاه قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبـــــــوح بـه ** قيل لي أنت ممن يعـبد الوثـنا ولاستحل رجال مسلمون دمي ** يرون أقبـح ما يأتونـه حسـنا
التقية في الفكر الإسلامي
ونقصد بالفكر الإسلامي هو ما دار في أذهان الصحابة والتابعين من أقوال وآراء حول هذه المسألة ، فهذا ابن عباس يصرح بأن التقية باللسان من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله ، فيتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإيمان ، فإن ذلك لا يضره ، إنما التقية باللسان .
ثم قال ابن عباس : (التكلم باللسان والقلب مطمئن بالإيمان) (2) .
ويقول عبد الله بن مسعود : (ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلا كنت متكلماً به) ، وأيد ابن حزم كلام عبد الله بن مسعود هذا بقوله : (لا يعرف له من الصحابة مخالف) (3) .
ويقول حذيفة بن اليمان راداً على من قال له : إنك منافق ! : فقال : (لا ، ولكني أشتري ديني بعضه ببعض ؛ مخافة أن يذهب كله) (4) .
(1) الكافي : ج 2 ، ص 228 ، باب التقية ، ح 12 .
(2) الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ، ص 57 ، في تفسير الآية 28 من سورة آل عمران .
(3) المحلى : ج 8 ، ص 336 ، مسألة 1409 .
(4) المبسوط للسرخسي : 24 / 46 .
ويقول جابر بن عبد الله الأنصاري : (لا جناح علي في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها) (1) .
وبالتقية درأ ابن عمر الخطر عنه من الحجاج مستعيناً بحديث رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : « </b>لاينبغي للمؤمن ان يذل نفسه » فيقول ـ ابن عمر ـ سألت الرسول صلى الله عليه واله وسلم وكيف يذل نفسه ؟ قال : «يتعرض من البلاء لما لا يطيق» (2) .
وكذلك فعل مسروق بن الاجدح عندما بعث معاوية بن أبي سفيان بتماثيل من صفر تباع بأرض الهند ، فمر بها على مسروق فقال : (والله لو أني أعلم أنه يقتلني لفرقتها ، ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني) (3) .
وقد حدثنا التاريخ أن الوليد بن عبد الملك الأموي (86 ـ 96 هـ ، 705 ـ 715 م) كان يبث جواسيسه بين الخلق ليأتوه بالأخبار ، وذات يوم جلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حياة ، فسمع بعضهم يقول في الوليد ، فرفع ذلك إليه ، فقال : يا رجاء أذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير ، فقال : ما كان ذلك يا أمير المؤمنين ، فقال له الوليد : قل : الله الذي لا إله إلا هو ، قال : الله الذي لا إله إلا هو ، فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطاً ، فكان الجاسوس يلقى رجاء فيقول : يا رجاء بك يسقى المطر وسبعون سوطاً في ظهري ، فيقول رجاء : سبعون سوطاً في ظهرك خير لك من أن تقتل رجلاً مسلماً .
فنكر رجاء أمراً كان واقعاً ، مخافة هدر دم رجل مسلم من قبل حاكم ظالم ، فالفكر الإسلامي مليء بهذه الحوادث ، وتلك المواقف والأقوال للصحابة والتابعين حول مسألة التقية .
أما أئمة المذاهب ، أمثال مالك وأبي حنفية ، فقد بايعا المنصور وقالا : ليس على مكره يمين بعدما خرجوا عليه .
(1) المبسوط للسرخسي : 24 / 47 .
(2) كشف الأستار عن زوائد البزارعلى الكتبة الستة : ج 4 ، ص 112 ، ح 3323 .
(3) السرخسي ، المبسوط : 24 / 46 .
وأخيراً يقول اجنتس جولد تسيهر : (ولم تتضح هذه النظرية للشيعة في مبدأ الأمر ، غير أن من عداهم من المسلمين أخذوا بها استناداً على الآية القرآنية : «إلا أن تتقوا منهم تقاة» (1) .
الشيعة والتقية
لقد عانى أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم على مر التاريخ مختلف ألوان التعذيب والقتل والتشريد الوحشي ، ووصل الأمر إلى عدم قبول شهادة الشيعي ومحاصرته اقتصادياً ، كما أمر معاوية عماله فقال : (أن برئت الذمة ممن يروي شيئاً في فضائل علي وأهل بيته ، وأن لا يجيزوا للشيعة شهادة ، وأن يمحوا كل شيعي من ديوان العطاء ، وينكلوا به ويهدموا داره) (2) .
هذه الوثيقة التي ظلت وصمة عار على جبين الأمويين على مر التاريخ وإلى يوم القيامة ، حيث سنت محاربة الشيعة وقتلهم وتشريدهم ومحاصرتهم اقتصادياً واجتماعياً ، كما حدث مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأصحابه عندما حوصروا في شعب أبي طالب ، وبدأ مسلسل القتل والإعدامات ، فقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهم في حياة معاوية ، ثم جاء ابنه يزيد ليعلن بصراحة كفره وعدم إيمانه ، فراح في ثلاث سنوات من حكمه ، الأولى قتل فيها الحسين وأصحابه ، والثانية أغار على المدينة ، والثالثة على مكة ، فكانت أسوأ سنين في الإسلام ، وطارد الشيعة في كل مكان ، وارتكب تلك الجريمة البشعة بقتل سيد الشهداء وريحانة الرسول وسبطه أبي عبد الله عليه السلام مع ثلة من المسلمين الذين نصحوا للإسلام وللحسين عليه السلام .
وفي عهد زين العابدين عليه السلام لم يتحسن من الوضع شيء ، بل ازدادت المحنة والفتن ، حتى قال الحسين بن عبد الوهاب : (وصارت الإمامة في عصر الإمام زين العابدين مكتومة مستورة إلا من اتبعه من المؤمنين) (3) .
(1) العقيدة والشريعة في الإسلام : ص 202 .
(2) شرح نهج البلاغة : ج 11 ، ص 44 ـ 45 .
(3) عيون المعجزات : ص 67 .
واستمر الأمويون في عدائهم لأئمة أهل البيت وشيعتهم ، وما إن ضعفت دولتهم ليتنفس الشيعي وإمامه الصعداء ، حتى جاء العباسيون الذين نادوا بشعارات أهل بيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، في بداية الأمر لكسب الشرعية والسيطرة على الناس ، وبعد أن استتب لهم الأمر لجأوا إلى سياسات القتل والتعذيب بحق الشيعة ، يقول أحمد محمود صبحي : (لكن ذلك المثل الأعلى للعدالة والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين قد أصبح وهماً من الأوهام، فشراسة المنصور والرشيد وجشعهم ، وجور أولاد علي بن عيسى وعبثهم بأموال المسلمين يذكرنا بالحجاج وهشام ويوسف بن عمرو الثقفي ، وعم الاستياء أفراد الشعب بعد أن استفتح أبو عبد الله المعروف بالسفاح وكذلك المنصور بالإسراف في سفك الدماء على نحو لم يعرف من قبل) (1) .
وبالطبع إن هذا الإسراف في القتل نصيب الشيعة منه حصة الأسد ، فقد قتل أبو مسلم (600,00) ستمائة ألف ، من المسلمين ، وهذا الاعتراف قد كشف النقاب عنه عندما أراد المنصور أن يقتل أبا مسلم ، فقال المنصور له : أخبرني عن ستة مئة ألف من المسلمين قتلتهم صبراً ، فأجابه أبو مسلم بقوله : لتستقيم دولتكم (2) .
حتى وصل الأمر بالأئمة أن يحذروا أصحابهم من التصريح بأسمائهم ، وهذا ما قاله الإمام موسى بن جعفر لأحدهم : «سل تخبر ، ولا تذع ، فإن أذعت فهو الذبح» (3) .
وظل هشام بن سالم يلوم نفسه عندما كلم رجلاً بالإمامة خائفاً لإظهار الأمر ، كما يقول السيد الخوئي (4) .
وراح المنصور يبث جواسيسه في المدينة ينظرون إلى من تتفق شيعة جعفر عليه وأمرهم بضرب عنقه ، كما يقول الكليني (5) . هذا من ناحية المطاردة والقتل والتشريد .
(1) نظرية الإمامة : ص 381 .
(2) طبيعة الدعوة العباسية : ص 245 ، عن العيني في دولة بني العباس والطولونيين والأخشيدين ص 30 .
(3) الكافي : ج 1 ، ص 413 ، ح 7 .
(4) معجم رجال الحديث : ج 19 ، ص 298 .
(5) الكافي : ج 1 ، ص 412 ، ح 7 .
أما من ناحية الحصار الاقتصادي ، فقد نصت وثيقة معاوية على حذف اسم الشيعي من ديوان العطاء وهدم داره (1) . ويكفيك قول الإصفهاني في مقاتل الطالبيين ، حيث قال : (العلويات كن يتداولن الثوب الواحد من أجل الصلاة) (2) .
فلأجل تلك المطاردة والقتل وهذا الحصار والتجويع ، التجأ أهل البيت عليهم السلام إلى بنود القرآن وما قامت عليه السنة ؛ ليفعلوا بنداً من بنودها وضع للاضطرار ، ولكن هذا الاضطرار أصبح دستوراً للشيعة في حياتهم لما لاقوه من التشريد والقتل ، ولهذا قال محمد أبو زهرة شارحاً حديث الإمام الصادق عليه السلام «التقية ديني ودين آبائي» ، قال : (مبدؤنا ومبدأ آبائنا ، وقد اتخذناه على أنه دين لكي نمتنع من الجهد بما نراه في حكام الزمان حتى لا تكون فتنة وفساد كبير ، إذ النفوس ليست مهيأة للنصرة) (3) .
واعترف أبو زهرة بهذا الضغط عندما قال : (فليس هناك من ريب في أنه كان للتقية في عصر الإمام الصادق عليه السلام وما جاء بعده ، وهي كانت مصلحة للشيعة وفيها مصلحة الإسلام ، لأنها كانت مانعة من الفتن المستمرة) (4) .
وهذا الخوف والحالة الطارئة هي حياة الشيعة على مر التاريخ ، ففعلوا هذا البند وجعلوه يعيش معهم من دون كل المسلمين ، فشن أعداؤهم والذين لا ينظرون في بحوثهم إلا إلى ما يريدون إثباته ، لا ينظرون إلى الواقع المرير الذي عاشته الشيعة على مر التاريخ ، فرموا الشيعة بتهمة الغش والنفاق ، فقال من لا دين له ، ولا موضوعية في بحوثه : (التقية على ما الشيعة غش في الدين) (5) .
ولكن صاحب هذا الكلام يؤمن بهذا الغش في مواقع الاضطرار والإكراه ، فالتقية التي تقول بها الشيعة قال بها الأحناف ، وصححوا التقية في موارد الإكراه في الصلاة ،
(1) شرح نهج البلاغة : ج 11 ، ص 44 ـ 45 .
(2) مقاتل الطالبيين : ص 479 .
(3) الإمام الصادق : ص 243 ـ 244 .
(4) المصدر نفسه .
(5) الشيعة وتحريف القرآن : ص 35 .
وحتى في الزنا وأكل الميتة وشرب الخمر (1) ، وكتب الفقه الحنفي مليئة بموارد تجويز التقية في حالات الإكراه (2) .
وقالت بها الشافعية ، قال النووي : (فإن يمين الكره غير لازمة عند مالك والشافعي وأبو ثور ، وأكثر العلماء) (3) .
وقال الشافعي : (إذا استكره الرجل المرأة اقيم عليه الحد ، ولم يقم عليها لأنها مستكرهة) (4) . فلماذا لا يقام عليها الحد ؟ ما ذاك إلا للإكراه والخوف .
وقال بالتقية الفقه المالكي ، يقول مالك بن أنس : (ما من كلام يدرأ عني سوطين من سلطان إلا كنت متكلماً به) (5) .
وقال بالتقية الفقه الحنبلي ، يقول ابن قدامة : (وإنما ابيح له فعل المكره عليه دفعاً لما يتوعده به من العقوبة فيما بعد) (6) .
فإذا كان الحنبلي والمالكي والشافعي والحنفي يقولون بالتقية ، فيظهر من الأخ الذي قال : (إن التقية غش في الدين) أنه ليس من المسلمين ، أضف إلى ذلك أن كلاً من الفقه الظاهري والفقه الطبري والفقه الزيدي ورأي المعتزلة والخوارج ، كلهم قالوا بالتقية (7) .
(1) المبسوط للسرخسي : 24 / 48 ـ 51 ، كتاب الإكراه .
(2) الهداية : ج 3 ، ص 275 ؛ شرح فتح القدير : ج 8 ، ص 165 ؛ اللباب : ج 4 ، ص 107 ؛ النتف في الفتاوي : ج 2 ، ص 696 ، وغيرها .
(3) المجموع شرح المهذب : 18 / 3 .
(4) الام : ج 6 ، ص 155 .
(5) المدونة الكبرى : ج 3 ، ص 29 ، ح 6 ، كتاب الإيمان بالطلاق وطلاق المريض .
(6) المغني : ج 8 ، ص 262 .
(7) دفاع عن الكافي : ج 2 ، ص 628 ـ 634 .
وكان أهل المدينة قد استفتوا مالك بن أنس في الخروج مع محمد ذي النفس الزكية ، وقالوا : (إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر ، فقال : إنما بايعتم مكرهين ، وليس علي مكره يمين ، وأسرع الناس إلى محمد ولزم مالك يمينه) (1) .
ويقول ابن حزم : (وقد أباح الله عزوجل كلمة الكفر عند التقية) (2) .
وفي حديث لأبي الدرداء : (إنا لنكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا تلعنهم) (3) .
فالشيعة لم يكونوا وحدهم القائلين بالتقية ، بل الفكر الإسلامي من محدثين وفقهاء وعلماء آمنوا بهذا البند في حالات مخصوصة ، وبما أن تلك الحالات المخصوصة كانت هي الحياة الطبيعية للشيعة على مر التاريخ ، فاضطروا إلى أن يتعايشوا جنباً إلى جنب مع التقية لحفظ دماءهم وأموالهم وأعراضهم . كل ذلك تجاهله الكاتب وشنع على التشيع في مورد التقية وجعلها من مدعيات الشيعة لتفسير ظاهرة التناقض بين أقوال الأئمة من أهل البيت وسيرتهم العلنية على حد زعمه (4) .
(1) الكامل في التاريخ : ج 5 ، ص 532 .
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل : ج 3 ، ص 111 .
(3) تفسير المنار : ج 3 ، ص 281 .
(4) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي :ص 78 .
وآخـــر القول وخــــلاصته :
«لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاةً ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير»
والســـــــــــــــــــــلام