قال ( عليه السلام ) : ( يا ابن جندب ، يهلك المتكل على عمله ، ولا ينجو المجتري على الذنوب برحمة الله ) .
قال : فمن ينجو ؟ ، فقال ( عليه السلام ) : ( الذين هم بين الخوف والرجاء كأن قلوبهم في مخلب طائر، شوقاً إِلى الثواب وخوفاً من العذاب .
يا ابن جندب ، مَن سرَّه أن يزوّجه الله من الحور العين ويتوجّه بالنور فليُدخل على أخيه المؤمن السرور .
يا ابن جندب ، إِن للشيطان مصائد يصطاد بها ، فتحاموا شباكه ومصائده ، قال : يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ) .
قال : وما هي ؟ ، قال ( عليه السلام ) : ( أمّا مصائده فصدّ عن برّ الاخوان ، وأمّا شباكه فنوم عن أداء الصلاة التي فرضها الله ، أما أنه ما يعبد الله بمثل نقل الأقدام إلى برّ الاخوان وزيارتهم ، ويلٌ للساهين عن الصلاة النائمين في الخلوات المستهزئين بالله وآياته في القرآن ، أولئك الذين لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .
يا ابن جندب ، الساعي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة ، وقاضي حاجته كالمتشحّط بدمه في سبيل الله يوم بدر وأحد ، وما عذّب الله أمَّة إِلا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم .
يا ابن جندب ، إِن أحببت أن تجاور الجليل في داره ، وتسكن الفردوس في جواره ، فلتهن عليك الدنيا ، واجعل الموت نُصب عينيك ، ولا تدّخر لغد ، واعلم أنَّ لك ما قدَّمت ، وعليك ما أخّرت .
يا ابن جندب ، من حرَم نفسه كسبه فإنما يجمع لغيره ، ومن أطاع هواه فقد أطاع عدّوه ، ومن يتّقِ الله يكفِه ما أهمّه من أمر دُنياه وآخرته ، ويحفظ له ما غاب عنه ، وقد عجز مَن لم يعدّ لكل بلاءٍ صبراً ، ولكلّ نعمةٍ شكراً ، ولكلّ عُسرٍ يُسرا .
اصبر نفسك عند كل بليّة ، وفي ولد أو مال أو ذريّة ، فإنما يقبض عاريته ، ويأخذ هبته ، ليبلو فيهما شكرك وصبرك ، وارج الله رجاءً لا يجرّيك على معصيته ، وخِفهُ خوفاً لا ييؤسك من رحمته ولا تغترّ بقول الجاهل ولا بمدحة فتكبر وتجبر وتغترّ بعملك ، فإن أفضل العمل العبادة والتواضع .
ولا تضيع مالك وتصلح مال غيرك ما خلفته وراء ظهرك ، واقنع بما قسمه الله لك ، ولا تنظر إِلا ما عندك ، ولا تتمنَّ ما لست تناله ، فإن مَن قنع شبع ، ومَن لم يقنع لم يشبع ، وخُذ حظّك من آخرتك ، ولا تكن بطراً في الغنى ، ولا جزِعاً في الفقر ، ولا تكن فظَّاً غليظاً يكره الناس قُربك ، ولا تكن واهناً يحقرك من عرفك .
ولا تشارَّ من فوقك ، ولا تسخر بمن هو دونك ، ولا تنازع الأمر أهله ، ولا تطع السفهاء ، وقف عند كلّ أمر حتّى تعرف مدخله ومخرجه قبل أن تقع فيه فتندم ، واجعل نفسك عدواً تجاهده .
وإِن كانت لك يد عند إِنسان فلا تفسدها بكثرة المنّ والذكر لها ، ولكن اتبعها بأفضل منها ، فإن ذلك أجمل في أخلاقك وأوجب للثواب في آخرتك ، وعليك بالصمت نعدّ حليماً ، جاهلاً كنت أو عالماً ، فإن الصمت زين عند العلماء وسترة لك عند الجهّال .
يا ابن جندب ، صِل مَن قطعك ، واعط مَن حرمَك ، وأحسن الى مَن أساء اليك ، وسلّم على مَن سبَّك ، وانصف من خاصمك ، واعف عمَّن ظلمك كما أنك تحبّ أن يعفى عنك ، فاعتبر بعفو الله عنك ، ألا ترى أن شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار ، وأن قطره ينزل على الصالحين والخاطئين .
يا ابن جندب ، الإسلام عريان فلباسه الحياء ، وزينته الوقار ، ومروّته العمل الصالح ، وعماده الورع ، ولكل شيء أساس وأساس الإسلام حبنا أهل البيت ) [ بحار الأنوار : 78 / 279 / 1 ] .
ولما كاد أن يلفظ النفس الأخير من حياته أمر أن يجمعوا له كل مَن بينه وبينهم قرابة ، وبعد أن اجتمعوا عنده فتح عينيه في وجوههم فقال ( عليه السلام ) مخاطباً لهم : ( إِن شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة ) [ بحار الأنوار : 47 / 2 / 5 ، محاسن البرقي : 1 / 80 ] .
وهذا يدلنا على عظم اهتمام الشارع الأقدس بالصلاة ، فلم تشغل إِمامنا ( عليه السلام ) ساعة الموت عن هذه الوصية ، وما ذاك إِلا لأنه الإمام الذي يهمه أمر الأمة وإِرشادها إلى الصلاح حتى آخر نفس من حياته ، وكانت الصلاة أهم ما يوصي به ويلفت إليه .
وكانت زوجته أم حميدة [ أم الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ] تعجب من تلك الحال ، وأن الموت كيف لم يشغله عن الاهتمام بشأن هذه الوصية ، فكانت تبكي اذا تذكرت حالته تلك [ محاسن البرقي : 1 / 80 / 6 ] .
وأمر ( عليه السلام ) أيضاً وهو بتلك الحال لكل واحد من ذوي رحمه بصلة ، وللحسن الأفطس بسبعين ديناراً ، فقالت له مولاته سالمة : أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك ؟ ، فقال ( عليه السلام ) : ( تريدين ألا أكون من الذين قال الله عزَّ وجل فيهم : ( والذين يَصِلون ما أمَرَ الله به أن يوصل ويخشون ربَّهم ويخافون سُوء الحساب ) [ الرعد : 21 ] ، نعم يا سالمة إِن الله خلق الجنة فطيَّب ريحها ، وإِن ريحها ليوجد من مسيرة ألفي عام ، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ) [ المناقب : 4 / 273 ، والغيبة للشيخ الطوسي : 128 ] .
وهذا أيضاً يرشدنا إلى أهمية صِلة الأرحام بعد الصلاة ، وقد كشف ( عليه السلام ) في بيانه عن أثر القطيعة .
وما اكتفى ( عليه السلام ) بصِلة رحمه فقط ، بل وصل من قطعه منهم بل مَن همَّ بقتله ، فهذه هي الأخلاق النبوية .