كربلاء المقدسة ومنذ الثورة الحسينية الخالدة مأوى الثائرين ومنزل العلماء وأصحاب الكلمة الصادقة، لقد صيرت كربلاء كالأم المباركة تنجب الأفذاذ تلو الأفذاذ فلا يمر زمان إلا ويبزغ فيها نجوم تنير الآفاق وتعلن للبشرية صوت الحسين من كربلاء، واليوم نحن مع نجم زاخر من تلك الشموس الكربلائية الخالدة الذي بلغت شهرتها الأقطار وسقى بعذب كلماته وسلاسة منطقه ورخيم صوته آذان الإنسانية ماءاً غدقاً صافياً حسيني المنبع والصفاء ألا وهو فضيلة الخطيب الحسيني الكربلائي الشهير الشيخ عبد الزهراء الكعبي ـ قدس سره ـ .
الولادة والنشاة ::
ولد الشيخ عبد الزهرة الكعبي في يوم ولادة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام من عام 1327هـ لذا سمي عبد الزهراء، وقد نشأ في قرية كانت مستريحة بجوار ربوة من روابي كربلاء، التراب الطاهر والطقس المقدس، حيث تنمو الكرامة والعزة ويرتفع الشرف وتكتمل الأخلاق متألقة عالية تحت ظلال الشهادة والبطولة.. تحت قباب أبي الأحرار ومعلم الثائرين أبي عبد الله الحسين عليه السلام .
فهو ـ أي الكعبي ـ أبن العزة والكرامة والإباء... عاش بين الجوع والريح والمطر... تذوق مرارة الحرمان، ومرارة السجون ومرارة الغربة كل ذلك من أجل الحق.. من أجل العدالة الإجتماعية.. من أجل أن يكون للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً، كان في سن الخامسة عندما أدخله أبوه في الكتّاب (وهي عبارة عن مدرسة صغيرة تجمع عدد من الأطفال تلقى عليهم فيها دروس الدين والأخلاق والعقيدة وتغرس في نفوسهم الصغيرة المبادئ الكبيرة لينشأوا أقوياء أشداء، في عقيدتهم وأخلاقهم ونظرتهم للحياة).
نشأ شيخنا الكعبي في ذلك الوسط الكربلائي المشحون بالعلماء والخطباء وخدام الحسين عليه السلام فترعرع وتدرج في سلم التكامل والأدب حتى برع في الفصاحة والبلاغة والقدرة على البيان منذ نعومة أظفاره، فكان يحفظ القرآن الكريم بأكمله، فضلاً عن عشرات الألوف من القصائد والأشعار والأمثال العربية مع دراية عميقة للأحاديث النبوية الشريفة ولفكر أهل البيت عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام.
خُلقه وأخلاقه:
كان ـ رحمه الله ـ رَبعةً، أسمر اللون، نحيف الجسم، سريع الخطو، كثير التوقف في الطريق حيث لا يحب ان يمر مرور الكرام أمام المعارف والأصدقاء دون أن يسأل أو يُسأل، وهبه الله سبحانه صوتاً صيِّتاً، ذا نغم متميز عن أصوات معاصريه كافةً، فهو الصوت الذي لا تظهر عليه مظاهر التعب مهما طال هذا المجلس أو ذاك، بل كان آخر الأصوات تعباً في عشرة محرم حيث صارت مجالسه تعد بالمئات، تبدأ منذ الصباح الباكر، وتختم في وقت متأخر من الليل.
أما أخلاقه ـ قدس سره ـ فقد تمتع بخلق رفيع تحسه متجسداً في تواضع ملحوظ، مع الصغير والكبير إليك القصة التالية مبينة لمدى عطف الشيخ على الصغير ونبل أخلاقه ينقل أحد تلامذة الشيخ عن أحد الشباب الذين التقوا الشيخ وجرت له القصة التالية:-
قال الشاب: كنت في سن الثامنة من عمري وكنت يومها في الصف الرابع الابتدائي، وكان عندي امتحان وكان عليّ أن أذهب مبكراً إلى المدرسة، لأكون هناك قبل موعد الامتحان.. وفي هذا الجو.. وأنا أريد أن أذهب إلى المدرسة فأجابني أبي وهو يطلب مني أن أذهب إلى الخباز، لتأمين الخبز إلى العائلة لأنهم يريدون الإفطار وليس عندهم خبز.
وعبثاً حاولت الاعتذار من أبي، فلقد كان أباً قاسياً لا يرحمني أبداً، فرأيت إني إذا لم أمتثل لأمره فإن جزائي سيكون الضرب المبرح.. وإذا امتثلت لأمره وذهبت إلى الخباز فإن الوقت يفوتني ولن أستطيع الوصول إلى المدرسة في الوقت المحدد، وهذا أيضاً فيه ما فيه من التعنيف والإهانة والضرب من قبل المعلمين والمشرفين على المدرسة.. فرأيت نفسي بين نارين: نار أبي، ونار قوانين المدرسة الصارمة. وحين وجدت نفسي مضطراً ومكرهاً لامتثال أمر أبي ذهبت إلى الخباز وأنا أحمل كتب المدرسة بيدي، وأشعر أني أتمزق من الداخل، وكم كانت الصدمة قوية عليّ عندما وجدت صفاً طويلاً من الناس ينتظرون دورهم على باب المخبز، فما كان مني إلا ان وقفت معهم في آخر الصف، ومن محاسن التقدير ان الشيخ الكعبي كان في أول الصف ليس بينه وبين أن يصل إليه الدور إلا شخص واحد، فنظر الشيخ إلي وأدرك حيرتي وارتباكي، لقد عرف كل الحكاية من دون أن أشرحها له، فما كان منه إلّا أن ناداني بصوته: بابا.. تعال ابني إلى هنا. وحين جئت إليه رأيته يعطيني دوره ويذهب هو ليقف في آخر الصف.
أجل.. لقد أعطاني حقه، ونوبته من أجل أن أرجع إلى الدار مسرعاً فلا تفوتني المدرسة.. وبالفعل أخذت الخبز ورجعت راكضاً إلى البيت وأعطيت الخبز إلى أهلي، ثم ذهبت إلى المدرسة فوصلت في الموعد المقرر، وأنا مأخوذ بأخلاق الشيخ الجليل الذي ضحى بوقته، وآثرني بحقه، وأعطاني دوره ونوبته في الصف، حتى يخفف عني ما لا طاقة لي بحمله.
وتابع يقول: ومن ذلك الوقت إلى اليوم وأنا كلما أذكر هذا الصنيع تفيض عيناي بالدموع، لأنني بعد أن كبرت وبلغت سن الرشد، وأدركت ماذا تعني تلك اللفتة المهذبة من الشيخ الكعبي وماذا تعني الأخلاق.. وأدركت ماذا يعني أن يعطف الكبير على الصغير..
الكعبي والخطابة الحسينية:
ان رسالة المنبر في فكر الشيخ الكعبي تتلخص في هدف الإصلاح فتبدأ من إصلاح النفس ـ نفس الخطيب ـ لتتوسع بعد ذلك لتشمل المجتمع بأكمله فأن كان الخطيب هادفاً من وراء منبره مصالح آنية شخصية فإن التوفيق يغلق في بابه ويرفع بنفسه القهقرى فلن تغني خطابته عنه شيئا، كان ـ رحمه الله ـ يوصي طلابه وتلامذته بقوله: «ان الخطيب لا يؤثر في الناس بكلامه فقط، وإنما يؤثر فيهم بألفاظه ونظراته ولسانه، فإذا كان غاضاً بصره عن محارم الله، ووقف سمعه على العلم النافع له، فإنه يهز القلوب بقوة التأثير التي تتدفق من بيانه وسجاياه وأخلاقه»، كما وكان يوصيهم أيضاً بعدم قصد المال من وراء المنبر يقول أحد طلبته: علمني الشيخ الكعبي إلا أطلب المال وأفتش عن الثراء وراء المنبر وكان دائماً يردد على سمعي هذه العبارة فيقول: اقرأ يا بني إذا شئت قول الله عز وجل (اتَّبِعُوا مَن لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مَّهْتَدُونَ)يس:21، ثم يضيف قائلاً: ان طبيعة الناس وفطرتهم قد جبلتا على المشي وراء من لا يطلب منهم مالاً ولا حطاماً.. إن الخطيب صاحب رسالة ورسالته مقدسة، فلا تصعد المنبر بقصد جمع المال وإنما أصعده بنية التقرب إلى الله سبحانه.
لذا نجد ان شيخنا الجليل الكعبي خطيباً مفوهاً ومتكلماً لامعاً ينفعل بما يقول كأنه يخرج كلامه ممزوجاً بعصارة قلبه ولهذا كان لقوله تأثير كبير في النفوس لان ما يخرج من القلب يقع في القلب، ينشر الفضيلة بين الناس ويدعو إلى الإصلاح والتمسك بالقيم الإنسانية القيمة، وينهي عن الفرقة والاختلاف، ويبث العلم والمعرفة بين سائر طبقات الأمة، ويحث على الالتزام بمكارم الأخلاق والتحلي بالصفات الحسنة وينهي عن كل ما يشين الإنسانية من الرذائل والعادات السيئة وبجهد نفسه على ذكر الأخبار الصحيحة والتأريخ المعتبر ويتجنب ذكر الأخبار التي لم يتثبت من صحتها وكانت مجالسه كثيرة ينتقل من مجلس إلى آخر دون ان يكرر ما قاله، يتصرف بالكلام ويحلل الأخبار ويستخلص النتائج، وقد ساعد الكعبي على تكوين شخصيته المنبرية الفريدة صوته الرخيم وحفظه الكثير وسرعة بديهيته وانتقاله من موضوع إلى آخر يربط بينها بذكاء خارق ويعود إلى أصل موضوعه بعد أن يشد المستمعين إليه باسلوب نادر يكثر من ذكر الأمثلة لتوضيح أفكاره ويتبسط بتذليل المعلومات المعقدة متبعاً في ذلك الاسلوب القرآني في ضرب الأمثال وتقريب المعاني إلى الأذهان.
خاتمة حياة:
ليلة الخامس عشر من شهر جمادى الأولى 1394هـ، كانت ليلة أليمة في كربلاء المقدسة، فقد توفي فيها سماحة العلامة والخطيب الشهير والأديب الشاعر الشيخ عبد الزهراء بن فلاح الكعبي، تغمده الله برحمته الواسعة وأسكنه الفسيح من جناته، وحشره مع النبي المختار والأئمة الأطهار عليهم الصلاة السلام.
ويوم الخامس عشر من شهر جمادى الأولى 1394هـ كان يوماً مشهوداً في مدينة كربلاء المقدسة، فقد زحفت الجماهير من كل حدب وصوب للاشتراك في تشييع جثمان الفقيد الراحل عبر الخط الطويل من بيته في (حي الحسين) إلى مرقده في (الوادي) مروراً بـ(المغتسل) في محلة (المخيم)، وبالروضتين الحسينية والعباسية المطهرتين، وقال شهود عيان: إن مراسيم تشييعه كانت مشابهة لمراسم تشييع المراجع الكبار، من وضع جثمانه في العماري وانطلاق المسيرات العزائية الحزينة في مقدمة الجنازة.
وحيث أن الفقيد الراحل كان أحد أكبر الخطباء البارزين في العراق والخليج، وحيث أن زوار الإمام الحسين عليه السلام من الأقطار الإسلامية كافة كانوا قد استمعوا إلى منابره في مدينة كربلاء المقدسة وخصوصاً عند تلاوة القسم الأول من (مقتل الإمام الحسين) يوم العاشر من شهر محرم الحرام من كل عام، وحيث أن أكثر من إذاعة كانت تبث يوم العاشر من محرم الحرام من كل عام تسجيلاً بصوته للقسم الأول من (المقتل)، وحيث أن أكثر من إذاعة كانت تبث يوم العشرين من شهر صفر من كل عام تسجيلاً بصوته للقسم الثاني من (المقتل)، فقد ضجَّ لوفاته كثير من البلاد الإسلامية، فكتبت عنه الصحف والمجلات وأُقيمت على روحه الطاهرة مجالس الفاتحة في العديد من المدن، وأذكر على سبيل المثال: كربلاء المقدسة، بغداد، السماوة، البصرة، الكويت، بيروت، طهران وقم المقدسة.
فسلام عليه من مجاهدٍ وداعية إلى الإصلاح داعية إلى الإسلام ومذهب أهل البيت فتغمده الله برحمته الواسعة جنات تجري من تحتها الأنهار.