"شاء الله أن يراهُنّ سبايا"
حتى سنة 61للهجرة، كانت الدولة الأموية تتظاهر بانتمائها الى الإسلام، لكنها كانت ملتزمة بعادة جاهلية في الحرب وهي؛ سبي النساء، رغم إن الاسلام حارب هذه العادة، ونظم لها رسول الله قوانين تحفظ كرامة المرأة الأسيرة في حروبه وغزواته، وليس كما كانت عليه حالها في الأمم السابقة، مثل؛ الرومان، والاشوريين، والبابليين، فقد كانت المرأة ضمن الغنائم الى جانب المال والمقتنيات الشخصية، و ربما يكون عرب الجاهلية قد تأثروا بثقافات تلكم الأمم في عهد ما قبل الاسلام.
والامثلة عديدة عن منهج الاسلام في التعامل مع المرأة، ونساء المقاتلين من الطرف المقابل، وكيف كان رسول الله يقدم الفرص والخيارات لنساء المقتولين من أعدائه بالعيش الكريم، وعدم تعريضهن للإهانة والتشفّي كونهنّ ينتمين الى جهة الاعداء، فمجرد انتهاء المعركة، يتحول حال المرأة تماماً وهي بين افراد المجتمع الاسلامي.
صحيح؛ أن الاسلام شرّع في بداية الأمر، مواكبة للثقافة الاجتماعية السائدة آنذاك، أمر العبيد والإماء من أتباع المشركين والكفار المهزومين في المعركة، وفي نفس الوقت حدد أحكاماً خاصة للعبيد من الرجال، والإماء من النساء بما يجعلهم يعيشون حياة طبيعية، حتى ما يتعلق بالمسألة الجنسية فان الأمَة (المرأة الأسيرة) كانت تعيش في بيت سيدها كأحدى نسائه، إنما كانت ملزمة بالقيام ببعض الاعمال الاضافية كونها مملوكة، ولا تملك أمر نفسها كما المرأة الحرّة، ربما العلّة في هذا الحكم؛ مسألة اللغة، وغربة المكان والأهل، وأي مساس او تجاوز على شرف هذه الأمة كان يمثل انتهاكاً لحرمة سيّدها، فكانت تجري عليها كل أحكام النساء في مسائل النكاح.
ومن أجمل ما شرّع الاسلام لهذه المرأة الأسيرة والمملوكة، تسميتها بـ "أم ولد" عندما يتزوجها المسلم الحُر، فيكون ابنها حُراً، وبفضل هذا المولود تستحق الحرية وتكون مثل أية امرأة مسلمة، بل واكثر من هذا عندما سنّ النبي الأكرم، سنّة الزواج من هذا النوع من النساء، كما حصل مع ماريا القبطية (المسيحية)، و صفية بنت حيي بن أخطب (اليهودية)، وعلى خطاه سار الأئمة المعصومين، عليهم السلام.
ولعل من الصورة المضيئة من عهد رسول الله إزاء النساء الأسيرات في حروبه مع الكفار، ما جرى بينه وبين سفانة ابنة حاتم الطائي التي كانت مع جيش الكفار، وبأيّ أخلاق تعامل معها النبي عندما عرفها وعرف منزلة أبيها في المجتمع العربي آنذاك، وأطلق مقولته الشهيرة: "ألف عين لأجل عين تُكرم"، واستجاب لشرطها بأطلاق سراحها مع جميع أفراد قبيلتها.
كيف نفهم المشيئة الإلهية؟
أشار الى هذا المآل العديد من المقربين الى الإمام الحسين، عليه السلام، وهو متجه صوب الكوفة، بأنه اذا كنت نواياً على الموت دون الرضوخ لبيعة يزيد، "فما حملك النساء والاطفال"؟ أجابهم: "شاء الله أن يراهن سبايا".
وهذا يبرهن على أن الامام الحسين لم يكن يحمل معه برنامجاً سياسياً للحكم في الكوفة، كما لم يكن يخطط لخوض القتال مع جيش ابن زياد، إنما كان يحمل معه خطة متكاملة للإصلاح الفردي والاجتماعي في أمة ظلت طريق الرشاد بسبب فقدانها البوصلة، فظنّت أن الشرعية مع الحكم الأموي كونه يمتلك قوة المال والسلاح.
والسؤال هنا، ما دمنا نتحدث عن عائلة الامام الحسين في هذه الايام المعتلقة بهم في فترة ما بعد الواقعة الأليمة؛ هل كان الامام الحسين يحتفظ بتلك الخطة والبرنامج المتكامل لوحده، أم أن اخته العقيلة زينب، وابنه الامام زين العابدين، كانا على علم بذلك، بل و شركاء في المسيرة من بدايتها؛ من المدينة ومروراً بمكة، ثم التوجه الى كربلاء، وما جرى فيها، ثم التعرّض للسبي، وحتى العودة ثانية الى مدينة رسول الله؟
إن السبي الذي أراده الأمويون برهاناً على قوتهم القاهرة تحول الى معركة ثانية، ومن نوع آخر كان يجهله الأمويون ايضاً؛ فقد خسروا المعركة العسكرية معنوياً، كما خسروا المعركة النفسية ثقافياً عندما قامت العقيلة زينب والامام السجاد بدور مشترك أثبتوا فيه نجاحاً باهراً في كشف البوصلة للأمة، وفي نفس الوقت كشف الزيف والخداع عن وجه الحكم الأموي المتستّر برداء الدين.
فقد كان الأداء فائق الدقّة والحكمة في خطاب الإصلاح، ففي الكوفة كان الخطاب نفسياً واجتماعياً لأهل الكوفة الناكثين ببيعتهم للإمام الحسين، والمتخاذلين عن نصرته، بينما في الشام كان الخطاب سياسياً –إن صحّ التعبير- موجهاً لشخص يزيد في تلك الخطبة العصماء التي ألهبت بها العقيلة زينب أسماع هذا الطاغية والحاضرين في مجلسه، بل والتاريخ بأسره، وكذلك فعل الامام السجّاد في خطبته المعروفة على المنبر عندما عرّف نفسه لأهل الشام وعرفهم بمن يكون يزيد الحاكم عليهم والذي أعطوه الشرعية للحكم.
هنا تكمن فرص الهداية بين البشر يتيحها الله –تعالى- كما هو شأنه مع سائر الأقوام البشرية منذ فجر التاريخ، وأهل بيت رسول الله، هم امتداد للرسالة السماوية، ولعل عظمتهم تكمن في هذه النقطة تحديداً؛ بأن يكونوا وسيلة هداية للناس وهم مكبلين بالسلاسل والقيود في وضع نفسي لا يوصف، وآلام مبرحة لاسيما على النساء والاطفال.
إن التاريخ من شأنه تهميش أحوال المعارضين للظلم والطغيان، بالمقابل؛ تضخيم صورة الحكام مهما كانت مساوئهم وجرائمهم، لذا لم يسجل سوى مواقف معدودة من انعكاسات قافلة السبي على مجتمع الكوفة والشام، فمن ذلك الرجل الطاعن في السن الذي أراد التشفّي بالامام السجاد في الكوفة، وكيف أنه، عليه السلام، أرشده الى البوصلة بآيات القرآن الكريم، وعرّفه بمنزلته عند الله –تعالى-، او ذلك الرجل الذي صُدم بحقيقة هوية الأسرى من عائلة الامام الحسين، وهم في مجلس يزيد، فثارت ثائرته واطلق صرخة الاحتجاج بوجه يزيد وكان مصيره القتل فوراً، أما غير هذه المواقف لم نقرأ شيئاً آخر، وإلا من المؤكد أن أهل البيت، عليهم السلام، مرّوا بمنازل عديدة، فضلاً عن وجودهم في الكوفة والشام، والتقوا باشخاص عديدين، وحصلت محاورات مختلفة فيما كان التاريخ آنذاك نائماً.
عاشوراء ما تزال قائمة
الدور المشترك للعقيلة زينب وللامام السجاد، عليهما السلام، شقّا طريقاً طويلاً مع الزمن لتبقى عاشوراء في الوجدان، وعلى الأرض أينما وجد الظلم والانحراف والطغيان، ومن يتحدث عن اختلاف الظروف، وأن العصر الراهن أعقد بكثير مما كان عليه الحال قبل ثلاثة عشر قرناً، وأن الامكانات المتاحة بيد الطرف المقابل، أقوى وأكثر مما كان عند الدولة الأموية، نقول:
إذا نظرنا الى الامكانات والقدرات لدى الطغاة والحكام في تلك الفترة، علينا أن ننظر ايضاً الى الامكانات المتاحة لدينا نحن في عصرنا الراهن، وهل يمكن مقايستها بما كان لدى العقيلة زينب والامام السجّاد؟!
القيود الحديدية في الايدي والأرجل، وكان في عنق الإمام السجاد طوق حديدي، كما جاء في التاريخ، فضلاً عن أننا نتحدث عن امرأة، وليست رجل، وهي في وضع مغاير تماماً لما يجب عليه أن تكون مصونة، مكرمة، عزيزة في بيتها، كل هذا الى جانب الحرب النفسية التي مارسها الحكم الأموي بواسطة التضليل والاعلام المدفوع الثمن، فقد ورث يزيد من أبيه معاوية –مما ورثه- سنّة لعن أمير المؤمنين على المنابر، وعدّها بمنزلة التعقيب خلف كل خطبة في مساجد المسلمين في مشارق الارض ومغاربها لفترة امتدت الى حوالي عشرين سنة، بمعنى أن الشباب والرجال في الشام –مثلاً- وجدوا في هذا اللعن ما يشبه الواجب في الشريعة، فاعتادوا عليه، ومن الصعب عليهم الاقتناع بأنهم على باطل، وأنهم مخدوعون.
فاذا كان ذلك الشيخ الذي صادف الامام السجاد في الكوفة وهو في قافلة السبايا، وتهجم عليه، رغم احتمال أن يكون قد سمع و رأي غير ما يسمع من الحكام الأمويين، نظراً لمعايشته عهد أمير المؤمنين –مثلاً- قبل عشرين سنة، وقبل ان يُسنّ اللعن، فكيف بالشباب الذين لم يروا أمير المؤمنين، ولا حتى الامام الحسن، وقد كانت البلاد الاسلامية مترامية الاطراف، وكان الوالي على هذه المدينة وتلك البلدة هو الذي يشكل الجهاز الاعلامي والسلطة التنفيذية، بل وحتى السلطة القضائية، فضلاً عن سلطة الجيش والأمن (القمع)؟
هنا السؤال:
اذا لم تنفع كل تلك الامكانات والقدرات في تغييب الحقيقة، فما القوة لدى أهل البيت، عليهم السلام، مكنتهم من فضح الزيف الأموي، ونشر رسالة الامام الحسين المقتول في وادي الطف؟
إنه منطق الحق والفضيلة والأخلاق الممتد من معركة الطف نفسها، وهي بدورها متصلة بجذورها بسيرة رسول الله ورسالة السماء، وليس منطق السلاح والمال، فهو موجود بيد أهل الحكم على مر التاريخ، لكن السُنّة الإلهية في الحياة قضت بأن تكون الغلبة دائماً للأول، وللثاني الهزيمة والخسران، وهي الثقافة التي سعى النبي الأكرم، وأمير المؤمنين، والأئمة والأولياء الصالحون تكريسها في الواقع الاجتماعي والسياسي في الامة لتكون مصداق الآية الكريمة: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ}.
من شبكة النبا المعلوماتية
محمد علي جواد تقي