هوامش
1- وسائل الشيعة (آل البيت)، ج5 ص6.
2- م. ن.
3- وسائل الشيعة (آل البيت)، ج4، ص 455.
4- م. ن، ج5، ص 5.
5- وسائل الشيعة (آل البيت)، ج20، ص 107.
6- المدثر:4.
7-وسائل الشيعة، ج 3، ص 41.
8-انظر: م. ن، ج5، ص 11.
9- الاعراف: 32.
10- أنظر: وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 5، ص 7.
11- وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 20، ص 22.
12- الكافي، ج5، ص567.
13- نهج الفصاحة.
14- الكافي، ج5، ص494.
ديباجة
التوجيهات والتبريرات التي ذكرناها آنفاً للحجاب تُمثِّل في الأغلب ما اصطنعه خصوم الحجاب من حجج، وأرادوا بذلك أنْ يطرحوه بوصفه أمراً غير منطقيّ وغير معقول حتّى في صورته الإسلاميّة.
من الواضح أنّ الإنسان إذا افترض أنّ مسألةً ما خرافة، فالتبرير الذي سيذكره لها يتناسب مع كونها خرافة.
لكنّ الباحثين إذا تناولوا المسألة بشكلٍ حياديٍّ فسوف يُدركون أنّ الستر والحجاب الإسلاميّ لا يرتكز على تلك التبريرات الخاطئة والفارغة.
إنّنا نرى فلسفة خاصّة ومتميّزة للحجاب الإسلاميّ تُوجّه الحجاب وتبرّره عقليّاً، ويُمكن أنْ نُعدّها من زاوية تحليليّة الأساس لنظريّة الحجاب في الإسلام.
مصطلح الحجاب
قبل أنْ نعرض اجتهادنا في الكشف عن أساس هذا المصطلح ومدلوله يلزمنا أنْ نذكّر بمسألة في هذا المجال، وهي: ما هو المدلول
الّلغوي لكلمة "الحجاب"، التي تعني في عصرنا ستر المرأة؟.
كلمة الحجاب تعني الستر، كما أنّها تعني البُردة والحاجب. لكنّ استعمالها في الأعمّ جاء بمعنى البُردة. وتدلّ هذه الكلمة على مفهوم الستر هنا باعتبار أنّ البُردة وسيلة للستر. ولعلّنا يُمكننا القول: إنّ كلّ ستر ليس بحجاب في أصل اللغة، بل ما يُدعى حجاباً هو الستر الذي يفصل تماماً في فصل البُردة عمّا وراءها. فيصف القرآن غروب الشمس بقوله: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾1. يعني بعد الفصل التامّ بينها وبين الرائي. والغشاء الحاجز بين القلب والجوف يُدعى "الحجاب الحاجز". وفي عهد الإمام عليه السلام لمالك يقول: "فلا تطولنّ احتجابك عن رعيّتك". فالحجاب هنا الخفاء والعزلة.
إنّ استخدام كلمة الحجاب بمعنى ستر المرأة استخدام جديد نسبيّاً. فقديماً وعلى الخصوص في مصطلح الفقهاء كانت كلمة "الستر" تُستخدم بدلاً من الحجاب. لقد استخدم الفقهاء "الستر" حينما تعرّضوا لذلك في كتاب النكاح والصلاة ولم يستخدموا كلمة "الحجاب".
وقد كان الأفضل أنْ لا تُستبدل الكلمة، وأنْ نستخدم دائماً كلمة "الستر"، إذ إنّ معنى الحجاب الّلغويّ - كما قلنا - هو البردة. وحينما تُستخدم في مورد الستر فذلك باعتبار أنّ جسد المرأة يكون خلف سترها، ومن هنا تخيّل جمع أنّ الإسلام أراد أنْ تبقى المرأة خلف حائل، ووراء البردة، وتُحبس في دارها ولا تخرج منه!
إنّ الستر الذي فرضه الإسلام على المرأة لا يعني أنْ لا تخرج المرأة من بيتها. ولم تُطرح في ثقافة الإسلام مسألة حبس المرأة وسجنها في الدار. نعم كان هذا العُرف سائداً في بعض الحضارات القديمة كما في الهند وإيران، ولكن لا وجود لهذا العرف في الإسلام.
حجاب المرأة في الإسلام يعني: أنْ تستر المرأة بدنها حينما تتعامل مع الرجال، وأنْ لا تخرج أمامهم مثيرة. النصوص القرآنيّة تُثبت هذا المعنى ولم تستخدم كلمة الحجاب فيها، كما تُؤيده فتاوى الفقهاء، وسنذكر حدود الستر في ضوء إفادتنا من القرآن والسنّة.
إنّ الآيات القرآنيّة التي ألقت الضوء هنا ـ سواء في سورة النور أو سورة الأحزاب ـ ذكرت حدود ستر المرأة وطبيعة تعاملها مع الرجال الأجانب، دون أن تستخدم كلمة "الحجاب". نعم هناك آية في القرآن استخدمت كلمة "الحجاب"، وهي خاصّة في نساء النبيّ صلى الله عليه واله وسلم. نحن نعلم أنّ هناك أحكاماً خاصّة بنساء النبيّ صلى الله عليه واله وسلم وردت في القرآن الكريم.
فالقرآن الكريم يُخاطب نساء النبيّ صلى الله عليه واله وسلم صراحةً: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾. وقد أراد بذلك أنْ يحول دون أنْ تتحوّل "أمّهات المؤمنين"، بحكم ما لهنّ من احترام وتقدير في قلوب المسلمين، إلى أدوات بيد العناصر الأنانيّة المخرّبة يستغلّونهنّ على طريق مطامحهم السياسيّة والاجتماعيّة كما حدث لأمِّ المؤمنين "عائشة" بعد أنْ خالفت هذا الحكم، فحدث الانقسام السياسيّ الذي ترك آثاراً مفجعة في تاريخ الإسلام. وقد كانت نفسها تُظهر أسفها على ما حدث وتتمنّى لو كان
لها جمع من الأبناء يُقتلون ولا يحدث ما حدث. وسرُّ منع نساء النبيّ صلى الله عليه واله وسلم عن الزواج بعد وفاته - كما أرى - هو عين ما تقدّم، يعني: أنّ الزوج اللاحق يُمكنه أنْ يُسيء الاستفادة من مركز زوجته فيحدث ما يحدث. من هنا فإذا كان هناك حكم أشدّ وآكد في خصوص نساء النبيّ فيعود لعوامل سياسيّة واجتماعيّة.
على أيّة حالة فالآية التي استخدمت فيها كلمة "الحجاب" هي الآية (53) من سورة الأحزاب إذ تقول: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاء﴾. وحينما يُستخدم مصطلح "آية
الحجاب" في التاريخ الإسلاميّ يُراد به هذه الآية لا غيرها.
أمّا كيف شاعت كلمة "الحجاب" في العصر الأخير بدلاً من اصطلاح الفقهاء الشائع "الستر"، فإنّ أمر هذه المسألة مجهول عندي، ولعلّه نشأ جرّاء الخلط بين الستر الإسلاميّ والحجاب الذي تعارفت عليه أمم أخرى. وسنوضح هذه المسألة بشكل أكبر فيما بعد.
فلسفة الحجاب
ترجع فلسفة الحجاب الإسلاميّ ـ بنظرنا ـ إلى عدّة عوامل، بعضها ذو جانب نفسيّ، والآخر ذو جانب أُسريّ، وبعضها ذو بُعدٍ اجتماعيّ، وآخر يرتبط برفع مستوى المرأة واحترامها، والحيلولة دون ابتذالها. وتنبثق كلُّ هذه العوامل من قاعدة أعمّ وأشمل وهي أنّ الإسلام يُريد حصر ألوان المتعة الجنسيّة سواء كانت بصريّة أو سمعيّة أو لمسيّة في محيط الأُسرة والزواج القانونيّ، ويبقى المحيط الاجتماعيّ العامّ
ميداناً للعمل والإنتاج. خلافاً لنظام الغرب في عالمنا المعاصر، حيث يخلط العمل والإنتاج بالّلذة الجنسيّة. فالإسلام يُريد فصل هذين المُحيطَين أحدهما عن الآخر بشكل كامل.
نأتي الآن إلى شرح الأبعاد الأربعة المتقدِّمة
1 - التوازن النفسيّ:حريّة الاختلاط بين الرجل والمرأة دون قيد أو شرط، وارتفاع الحاجز بينهما، يرفع نسبة الأمراض الجنسيّة، ويُحوّل طلب الجنس إلى عطش روحيّ وحاجة غير قابلة للإشباع. فالغريزة الجنسيّة قويّة وعميقة، وكلّما استجاب الإنسان لها ازداد هيجانها، كالنّار، فكلّما أُطعمت ارتفع أوارها. ولأجل إدراك هذه الحقيقة ينبغي الالتفات إلى أمرين:
أ - كما أنّ التاريخ يُذكِّر بذوي الجشع الماليّ، وأنّ هؤلاء كانوا يسعون لجمع المال والثروة بحرص محيّر، وكلما كثُرت ثروتهم ازداد حرصهم، فهو يُذكّر أيضاً بالجشعين في المسائل الجنسيّة، فهؤلاء أيضاً لم يقفوا عند حدٍّ على الإطلاق في اقتنائهم للحسناوات، فذوو الحريم، وجميع أصحاب النفوذ الذين كانوا مقتدرين على ذلك كانوا كذلك.
يقول "كريستنس" في الفصل التاسع من كتابه "إيران في العصر الساسانيّ":"نُلاحظ على رسوم الطاق الأثريّ بعضاً من صور الثلاثة آلاف
امرأة التي كانت لدى "خسرو برويز"، فلم يُشبع هذا الملك ميله هذا أبداً فهو يجلب كلّ فتاة أو ثيّب أو ذات بعل يصفونها له إلى حرمه. وكلّما حصل لديه ميل لتجديد زوجته، يكتب إلى عمّاله في البلدان كتاباً يصف فيه خصائص المرأة الكاملة. ثُمّ يعمد عمّاله إلى جلب هذه المرأة إليه في أيِّ مكان وجدوها وكانت مواصفاتها متطابقة مع ما جاء في كتاب الملك".
ويُمكننا العثور على مثل هذه الحكايات بشكل كثير في التاريخ القديم. وقد استُبدل شكل هذه الحكايات في الواقع الجديد، مع فارق وهو أنّ الواقع الجديد لا يوجب أنْ يتوفّر الشخص على إمكانات خسرو برويز أو هارون الرشيد ليستطيع أنْ يتوفّر على هذا العدد الكبير من النساء، فبفضل الثقافة الجديدة يُمكن للشخص الذي يتمتّع بعُشر إمكانات برويز أو هارون أنْ يتمتّع بالجنس الأنثويّ بمقدار ما تمتّعا.
ب - هل تساءلت: إلى أيِّ صنفٍ من الإحساس ينتمي "الغزل"؟ فبعض النصوص الأدبيّة العالميّة تختصّ بالعشق والغزل، وفي هذا القسم، يتغزّل الرجل بمحبوبته ويُقدّرها، ويُقدِّم بين يديها حاجته، ويُشعرها بعظمتها وصغره أمامها، وهو أحوج ما يكون لالتفاتة من قِبَلها. ويبثّها لواعج الشوق والحنين على فراقها.
ماذا يعني هذا؟ لِمَ لا يُمارس البشر بشأن سائر حاجاتهم مثل هذا العمل؟ هل رأيت حتى الآن إنساناً يُحبّ الثروة أو الجاه قد تغزّل بالثروة أو الجاه؟ لِمَ يستطيب الإنسان غزل الآخرين؟ لِمَ نلتذ كثيراً بديوان حافظ؟ هل هناك غير أنّ الإنسان يجد أنّ هذه الأشعار تتطابق
مع غريزة عميقة تملأ وجوده؟ كم هو خطل أولئك الذين يقولون: إنّ العامل الأساس لنشاط البشر هو الاقتصاد!!.
للبشر موسيقى خاصّة بالنسبة لحبّهم الجنسيّ، كما أنّ لهم موسيقى خاصّة بالنسبة للمعاني والقيم المثاليّة، في حين ليست لديهم موسيقى بالنسبة لحاجاتهم الماديّة البحتة كالماء والخبز.
أنا لا أُريد أنْ أدّعي أنّ كلّ العشق جنسيّ، ولا أقول أبداً إنّ حافظاً وسعدي وسائر الشعراء الغزليّين أنشدوا الشِّعر لأجل الغريزة الجنسيّة. فهذا بحث آخر، ينبغي دراسته بشكل مستقلّ. لكنّ الثابت أنّ الكثير من العشق والغزل هو عشق وغزل الرجال بالنسبة للمرأة، وهذا المقدار كافٍ لكي نعرف أنّ اهتمام الرجل بالمرأة ليس من قبيل اهتمام الخبز والماء، فيقتنع بإشباع بطنه، بل يظهر هذا الاهتمام بصورة حرص وجشع وتنويع، أو بصورة عشق وغزل. وسوف نتناول لاحقاً البحث حول الظروف التي يقوى بها هذا الاهتمام على صورة حرص وجشع جنسيّ، والظروف التي يظهر بها على صورة عشق وغزل، ويلبس ثوباً معنويّاً.
على أيِّ حال فقد اهتم الإسلام اهتماماً كاملاً بطاقة هذه الغريزة الحادّة. وقد وردت نصوص كثيرة في صدد خطر "النظر" والخلوة بالمرأة، وبالنتيجة خطر الغريزة التي تربط الرجل والمرأة أحدهما بالآخر. ولقد اتخذ الإسلام تدابير لتوجيه هذه الغريزة، وحدّد في هذا المجال تكاليف للرجال وللنساء.
فقد كلّفهما معاً بالنسبة للنظر:﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ... وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾2.
وخلاصة حكم هذه الآية هو: لا ينبغي للرجل والمرأة أنْ يتفحّصَ كلٌّ منهما الآخر في النظرة، وعليهما أنْ يتجنّبا النظر بشهوة، فلا يجوز لهما النظر بشهوة. كما قرّر تكليفاً خاصّاً بالنساء وهو أنْ يستُرنَ أجسادهن أمام الرجال الأجانب، وأنْ لا يظهرنَ في الملأ العام متبرِّجات، وأن لا يُمارسنَ بأيِّ عذر وبأيّة صورة عملاً يؤدّي إلى إثارة الرجال الأجانب.
إنّ روح الإنسان مؤهّلة للإثارة بشكل كبير. ومن الخطأ أنْ نظنَّ أنّ قابليّة الروح الإنسانيّة على الإثارة محدودة بحدٍّ خاصّ، تهدأ بعد تجاوزه. فكما أنّ البشر ـ أعمّ من الرجل والمرأة ـ لا يشبعون من الثروة والجاه، كذلك الأمر بالنسبة للجنس. فليس هناك رجل يشبع من مصاحبة الحسناوات، كما ليس هناك امرأة تشبع من لفت أنظار الرجال وامتلاك قلوبهم. وبالتالي كلُّ قلب لا يشبع.
ومن ناحية أخرى، فالطلب اللامحدود لا يمكن تلبيته سواء أردنا أم لم نُرد، وهو توأم مع لون من الإحساس بالحرمان. وعدم نيل الأماني بدوره يؤدّي إلى اضطرابات وأمراض نفسيّة. لِمَ تزداد نسبة الأمراض النفسيّة في الغرب؟
علّة ذلك: الحريّة الجنسيّة والإثارة الجنسيّة التي تحصل عن طريق الصحف والمجلّات والحفلات والسينما والاجتماعات الرسميّة وغير الرسميّة.
أمّا علّة اختصاص حكم الستر في الإسلام بالنساء فهو: أنّ الميل نحو التجمُّل أمر خاصّ بالنساء. فالرجل صيد - من زاوية القلوب - والمرأة صائد. والمرأة صيد - من زاوية
الأجساد - والرجل صائد. وينشأ ميل المرأة نحو الظهور الأنيق جرّاء نزوعها لصيد قلوب الرجال.
لم يحدث في أيِّ مكان من العالم أن ارتدى الرجال ألبسة تحكي عن أبدانهم، وتأنّقوا بشكل مثير. فالمرأة بحكم طبيعتها الخاصّة تُريد أنْ تجلب قلب الرجل وتجعله أسيراً للارتباط بها. لذا فإنّ
التبرُّج والعريّ انحرافان خاصّان بالنساء، وحكم الستر مقرّر لهنّ.
سوف نتناول بالبحث قابليّة الغريزة الجنسيّة على الطغيان، خلافاً لادّعاء أمثال "راسل". فبترك الغريزة الجنسيّة حرّة بشكل كامل خصوصاً مع توفّر أسباب الإثارة لا يحصل لها إشباع. كما سنتناول انحراف "النظر" لدى الرجال، وانحراف "التبرُّج" لدى النساء.
2 - إحكام الرابطة الأسريّة:لا شكّ في أنّ كلَّ أمر يؤدّي إلى إحكام العلاقة الأُسريّة، ويُفضي إلى خلق روح المودّة الصميمة بين الزوجين هو أمر نافع للأُسرة، يجب بذل أكبر ما يُمكن من جهد لتحقيقه. وعلى العكس كلُّ أمر يؤدّي إلى إضعاف العلاقة بين الزوجين، وإخماد جذوة الحبّ بينهما، أمر مضرّ بالحياة الأُسريّة، ويجب محاربته.
إنّ انحصار المتع والّلذّات الجنسيّة في محيط الأُسرة وتحت ظلِّ
الزواج المشروع يُعمِّق العلاقة بين الزوجين، ويؤدّي إلى تلاحمهما بشكلٍ أكبر.
إنّ حكمة الستر ومنع المتع الجنسيّة مع غير الزوجة الشرعيّة - على المستوى الأُسريّ - هي: أنّ الزوجة الشرعيّة تُصبح من زاوية نفسيّة عامل إسعاد للرجل. في حين تكون الزوجة
الشرعيّة من زاوية نفسيّة - في ظل الإباحة الجنسيّة - مراقباً مُزعِجاً وبالتّالي يقوم بناء الأُسرة على أساس العداء والتنافر.
وهذا الوضع هو علّة ما نراه لدى شباب اليوم، حيث يتهرّبون من الزواج، وكلّما اقتُرح عليهم الزواج يُجيبون بأنّ الوقت لم يحلّ ولا نزال أطفالاً، أو يطرحون معاذير أخرى... في حين كان الزواج قديماً أحلى أماني الشباب. وقد كان الشباب - قبل أنْ تتحوّل المرأة، بفضل العالم الغربيّ، إلى سلعة رخيصة ومتوافرة - لا يفضّلون حياة الملوك على ليلة الزفاف.
كان الزواج قديماً يتحقّق بعد مرحلة من الانتظار والتمنّي، وفي ضوء ذلك يُصبح كلٌّ من الزوجين عاملاً في سعادة الآخر. أمّا اليوم فلا مبرّر لذاك الشوق وتلك الرغبة، بعد أنْ أصبحت المتعة الجنسيّة خارج إطار الزواج متوافرة في حدِّها الأعلى.
إنّ العلاقات الحرّة، دون قيد أو شرط، بين الفتيات والشباب حوّلت الزواج إلى تكليف وتقييد، لا بُدّ من تحميله للشباب عن طريق الوصايا والمواعظ الأخلاقيّة، وأحياناً - كما تقترح بعض الصحف عن طريق القوّة.
يختلف المجتمع الذي يحصر العلاقات الجنسيّة بمحيط العائلة وتحت ظلِّ الزواج الشرعيّ عن المجتمع الّذي يُبيح الاختلاط الجنسيّ الحرّ، في أنّ الزواج في المجتمع الأوّل نهاية الحرمان والانتظار، بينما يكون الزواج في المجتمع الثاني بداية التقييد والحرمان. ففي ظلِّ النظام الحرّ يضع عقد الزواج نهاية لمرحلة حريّة الفتاة والشاب، ويُلزمهما بالوفاء أحدهما للآخر. وفي ظلِّ النظام الإسلاميّ يضع الزواج نهاية للحرمان والانتظار.
يؤدي النظام الحرُّ إلى أوّلاً: امتناع الشباب عن الزواج وبناء الأُسرة ما أمكنهم، ويُقدمون على الزواج في حالة مشارفة نشاطهم وحيويّتهم الشابّة على الضعف والانحلال. وتكون المرأة عندئذٍ وسيلة إنجاب فقط، أو يطلبونها لأداء الخدمات.
ثانياً: يؤدّي إلى تفكيك عُرى العلاقات الزوجيّة، وبدلاً من بناء العائلة على أساس الحبّ العميق والعشق الخاصّ، وبدلاً من أنْ يجد كلٌّ من الزوجين في الآخر عامل إسعاد، تُبنى الأُسرة على أساس الرقابة، ويجد كلٌّ من الزوجين الآخر عاملاً في سلب حريّته وتقييده.
فحينما يريد الفتى أو الفتاة أنْ يقول: تزوّجت، يقول: اتّخذت حارساً لحبسي. لِمَ ذلك؟ لأنّهما كانا قبل الزواج حرَّيْن، يذهبان حيث يرغبان، ويرقصان مع من يُريدان، دون حدٍّ، وبلا رقيب.
أمّا بعد الزواج فتُحدّ هذه الحريّة. فإذا تأخّر ليلاً تُحاسبه زوجته وتسأله: أين كنتَ؟ وإذا
رقص مع فتاة في حفل صاخب، تعترض عليه زوجته، ومن الواضح إلى أيِّ حدٍّ تتحلّل العلاقة الأُسريّة
في ظلِّ هذا النظام، وإلى أيِّ حدٍّ تُصبح موضع شكٍّ وريبة.
ظنَّ بعضهم أمثال "راسل" أنّ الحيلولة دون العلاقات الحرّة إنّما تكون لتطمين الرجل على سلامة نسله وعدم اختلاط نسبه. فاقترحوا لحلِّ هذا الإشكال موانع الحمل، في حين أنّ المسألة لا تنحصر في سلامة النسل. فالأهمّ من ذلك هو خَلْق أنبل وأشدّ العواطف الإنسانيّة بين الزوجين، وتحقيق الوحدة والانسجام في محيط الأُسرة. ويُمكن تحقيق هذا الهدف حينما ينصرف الأزواج والزوجات عن ألوان المتعة الجنسيّة مع غير زوجاتهم وأزواجهنّ الشرعيّين. فلا يكون للرجل عين طمع بغير زوجته، ولا تخرج المرأة مُثيرة مهيّجة لغير زوجها، ورعاية قاعدة المنع عن ألوان المتعة الجنسيّة خارج محيط الأُسرة، قبل الزواج أيضاً.
مُضافاً إلى أنّ المرأة المتطوِّرة، التي تُقلِّد أمثال "راسل" وتلتزم بمدرسة "الأخلاق الجنسيّة الحديثة"، تلتمس الحبَّ والعشق - مع كونها ذات زوج ثانوي - في مجال آخر، وتُمارس الجنس مع معشوقها. وما هو الضمان لأنْ لا تستخدم المرأة وسائل منع الحمل مع زوجها الشرعيّ الّذي لا تربطها معه علاقة حبّ أكيدة، وتفسح المجال أمام معشوقها لأنْ تحمل منه، وتُلحق الولد بالزوج الشرعيّ؟! من المقطوع به أنّ مثل هذه المرأة ترغب بأنْ تحمل من الرجل الذي تعشقه، لا من زوجها الشرعيّ، الّذي تربطها معه علاقة شرعيّة فقط، والّذي لا يجوز
أنْ تحمل من غيره بحكم الشرع. كما أنّ الرجل بالطبع يُريد أنْ يُنجب من المرأة التي يُحبّها، لا من المرأة التي تربطه معها رابطة شرعيّة فقط. وقد أثبت العالَم الأوروبي أنّ إحصائيات الأبناء غير الشرعيّين مُذهِلة، رغم توافر وسائل منع الحمل.
3 - التماسك الاجتماعيّ:إنّ جرَّ الممارسات الجنسيّة من محيط الأُسرة إلى المحيط الاجتماعيّ العام، يؤدّي إلى إضعاف النشاط الإنتاجيّ والفعّاليّة الاجتماعيّة. خلافاً لتمحّلات معارضي الحجاب، حيث يقولون: "إنّ الحجاب يؤدّي إلى تعطيل نصف الطاقات الاجتماعيّة".
فالسفور وترويج العلاقات الجنسيّة الحرّة يؤدّي إلى إضعاف الطاقة الإنتاجية للمجتمع.
إنّ الذي يؤدّي إلى تعطيل قوى المرأة وحبس استعداداتها هو الحجاب؛ إذا جاء على صورة سجن المرأة وحرمانها من الفعاليّات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وليس هناك في الإسلام شيء من هذا القبيل. فالإسلام لا يقول: على المرأة أنْ لا تخرج من دارها. ولا يقول: ليس للمرأة حقّ في التعلُّم وتحصيل العلم. بل على العكس فالإسلام يرى أنّ طلب العلم فريضة مُشترَكة يتحمّلها كلٌّ من الرجل والمرأة. كما أنّه لم يُحرِّم نشاطاً اقتصاديّاً خاصّاً على المرأة. الإسلام لا يُريد إطلاقاً أنْ تكون المرأة عضواً عاطلاً وكلّاً. فستر البدن باستثناء الوجه والكفّين لا يحول دون أيِّ نشاط ثقافيّ أو اجتماعيّ أو
اقتصاديّ. إنّ الذي يؤدّي إلى تعطيل الطاقة العمليّة للمجتمع هو تلويث محيط العمل بالممارسات الشهوانيّة.
أيُّهما أفضل لاقتدار الطلّاب على التحصيل العلميّ والإصغاء لمحاضرة الأستاذ: أنْ يعكف الفتى والفتاة على تحصيل العلم في صفوف مستقلّة، أو يحصّلان العلم معاً في صفٍّ دراسيٍّ مُشترَك مع ستر الفتيات لأجسادهن، دون أيِّ تجميل أو زينة، أم أنْ يجلس الفتى إلى جانب الفتاة المتزيّنة المرتدية ثياباً سافرة عن ساقيها؟ وهل أنّ الرجل العامل في الأزقّة والأسواق والمعامل والمؤسّسات الإداريّة، الذي يواجه الفتيات المثيرات، أقدر على العمل، أم الرجل الذي لا يواجه الإثارة؟. إذا لم تُصدِّق فسل العاملين في هذه الميادين. أجل، فكلُّ مؤسسة أو شركة تُريد أنْ تسير أعمالها بجدّية، تحول دون مثل هذا الاختلاط. وإذا لم تُصدّق إذهب وحقّق!.
الحقيقة هي: أنّ الوضع القائم بيننا من السفور والتحلُّل، والّذي نتقدّم به على أوروبا وأمريكا، هو من مختصّات المجتمعات الرأسماليّة الغربيّة المنحطّة، وهو إحدى النتائج السيّئة للممارسات الغربيّة، بل إحدى الوسائل الّتي يستخدمونها لتخدير المجتمعات الإنسانيّة وتحويلها عنوةً إلى مستهلِك لبضائعهم.
نشرت صحيفة اطّلاعات تقريراً (قبل عشر سنوات من انتصار الثورة) نقلته عن الإدارة العامّة للإشراف على الموادّ الاستهلاكيّة، جاء فيه بصدد ميزان استهلاك الموادّ التجميليّة ما يلي: " استوردت البلاد في بحر سنةٍ واحدة (210,000) كيلوغرام من الموادّ التجميليّة،
وقد بلغت المساحيق الدهنيّة (181,000) كيلوغرام...".
أجل، لأجل أنّ تكون المرأة الإيرانيّة مستهلِكاً جيّداً لبضائع المعامل الأوروبيّة، عليها باسم "التجدُّد" و"التقدُّم" و"التطوُّر الزمنيّ" أنْ تعرض نفسها كلَّ يوم وكلَّ ساعة متجمِّلة بالمساحيق الّتي يصنعها عالم الرأسماليّة. وإذا أرادت المرأة الإيرانيّة أنْ تكون لزوجها فقط، أو تتجمّل للحضور في المجالس النسائيّة الخاصّة فسوف لا تكون مستهلِكاً جيّداً للرأسماليّة الغربيّة، وسوف لا تقوم بدورٍ آخر وهو عبارة عن الحطّ من خُلُق الشباب وإضعاف إرادتهم، وتجنيد الفعاليّات الاجتماعيّة، لمصلحة الاستعمار الغربيّ.
قليلاً ما تسمع في المجتمعات غير الرأسماليّة ذات الحسّ الدينيّ، المآسي والكوارث الّتي تقع في عالَم الغرب باسم حريّة المرأة.
4 - رفعة المرأة واحترامها:قُلنا سابقاً إنّ الرجل بشكلٍ عام متفوِّق جسميّاً على المرأة. ومن زاوية فكريّة وعقليّة يبقى تفوُّق الرجل - على الأقلّ - محلّ بحث وشكّ. فعلى هذين
المستويين لا تستطيع المرأة مجابهة الرجل، ولكنّ المرأة أثبتت على الدوام أنّها قادرة على السيطرة على الرجل عاطفيّاً وقلبيّاً.
إنّ وضع حاجز وحدٍّ بين المرأة نفسها والرجل من جملة الوسائل الغامضة الّتي تستفيد منها المرأة لحفظ مقامها أمام الرجل.
لقد حضّ الإسلام المرأة على الاستفادة من هذه الوسيلة، خصوصاً
تأكيده على أنّه كلّما تحرّكت المرأة بشكل أكثر وقاراً وعفّةً، وامتنعت عن عرض نفسها أمام الرجل، كلّما ازداد احترامها لدى
الرجل.
وسنرى لاحقاً في تفسير آيات سورة الأحزاب أنّه بعد توصية النساء بالستر يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ﴾، فيكون الحجاب علامة على عفاف المرأة وعزّتها على الرجال، وبالتالي لا تقع مورداً لأذى الطائشين.
هوامش
1- ص : 32.
2- النور: 30- 31.
الحجاب وأصل الحريـّة
الاعتراض الّذي أُخذ على الحجاب، أنّه يسلب حقّ الحريّة الذي هو حقٌّ طبيعيٌّ للإنسان، ويُعتبر نوعاً من الإهانة للكرامة الشخصيّة للمرأة. ويزعمون أنّ مسألة الاحترام لكرامة الإنسان وشرفه تُشكِّل إحدى موادّ لائحة حقوق الإنسان وأنّ كلَّ إنسان هو حرٌّ وشريف، بغضِّ النظر عن لونه وجنسه وجنسيّته أو مذهبه، وأنّ فرض الحجاب على المرأة هو إغفال لحقِّ الحريّة وامتهان لكرامتها الإنسانيّة، وبعبارة أخرى: إنّه ظلم فاحش بحقِّ المرأة وعزّتها وكرامتها وحقِّ حريّتها، وكذلك أنّ الحكم المطابق للعقل والشرع يرفض حجز أحدٍ أو أسر حرّيّته، كما أنّه لا يقبل إلحاق الظلم بأحدٍ بكافّة أسبابه وأشكاله وتحت كافّة الذرائع، ويجب رفع الظلم عنه.
الجواب: يلزم التذكير ثانية بالفرق بين حبس المرأة في المنزل وبين إدراكها ما يتوجّب عليها حين تواجه الرجل الأجنبيّ، وهو أنْ تكون مُحجّبة.
إنّ مسألة سجن المرأة أو أَسرِها لا وجود لها في الإسلام. الحجاب في الإسلام هو وظيفة تقوم بها المرأة عند مقابلتها أو مواجهتها للرجل.
فعليها حينما تتعامل مع الرجل أنْ تُراعي أسلوباً خاصّاً في لباسها. وهذه المسؤوليّة لم يُحمِّلها الرجلُ للمرأة! وليس أمراً يتناقض مع كرامتها الإنسانيّة، كما لا تُعدّ هذه المسؤوليّة تجاوزاً لحقوقها الطبيعيّة التي منحها الله إياها.
إذا كانت رعاية بعض المصالح الاجتماعيّة تؤدّي إلى تحديد حريّة الرجل أو المرأة، كالتزامها بأسلوب خاصّ في التعامل، واتباعها شكلاً خاصّاً في الحركة، بحيث لا تُربك الآخرين، ولا تفقد التوازن الاخلاقيّ، فلا يُمكن تسمية ذلك سجناً أو عبوديّة، كما لا يُمكن اعتباره منافياً للكرامة الإنسانيّة والحريّة.
هناك في دول العالم المتمدِّن مثل هذه التحديدات في وقتنا الحاضر، سواء للرجل أو للمرأة. فإذا خرج الرجل عارياً أو خرج بلباس النوم إلى الشارع فسوف تُلقي الشرطة القبض عليه، لأنّه ارتكب عملاً يتناقض وقيم المجتمع.
حينما تقضي المصالح الاجتماعيّة والأخلاقيّة بإلزام الفرد برعاية أسلوب خاصّ في التعامل كأنْ يُمنع من الخروج بلباس النوم، فمثل ذلك لا يُعدّ عبوديّة ولا حبساً، ولا يتناقض مع الحريّة والكرامة الإنسانيّة، وليس بظلم، ولا يُعدّ بالتالي متعارِضاً مع حكم العقل.
بل الأمر عكس ذلك، فستر المرأة في الحدود الّتي قرّرها الإسلام يُفضي إلى رفع كرامتها وتعزيز احترامها، إذ يُحرزها ويصونها.
إنّ الشرف الإنسانيّ للمرأة يقتضي حين الخروج من المنزل أنْ تكون وقورة تُثقل الأرض بمشيتها، وأنْ تتجنّب كلَّ ممارسة تستهدف
الإثارة، فلا تدعو الرجل لنفسها عمليّاً، وأن لا تلبس اللباس الحاكي وتمشي المشية الناطقة، وأنْ لا تعتمد الحديث المثير. فمشية الإنسان تحكي، وأسلوبه في الحديث يحكي أمراً آخر غير الكلام نفسه.
خُذِ الضابط العسكريّ مثالاً، فالآمر حينما يستعرض جنوده، وهو يحمل على كتفيه وصدره الرتب والميداليّات والأوسمة العسكريّة، يتبختر في مشيته، ويتنفّس الصعداء، ويعلو صوته متهدّجاً فخماً، فهو يحكي بكلِّ هذا الوضع دون لسان ينطق فيقول: ارهبوني، وليتّخذ الرعب موقعاً في قلوبكم.
والحال كذلك بالنسبة للمرأة، فمِنَ الممكن أنْ تلبس لوناً من الثياب أو تمشي بطريقة خاصّة، بحيث يحكي لباسها ومشيتها، فتدعو الرجل بصوت مرتفع لمتابعتها والّلقاء والتغزّل بها، وإظهار الحبّ والعشق.
فهل أنّ كرامة المرأة تقتضي أنْ تكون على هذه الحالة؟
وإذا سارت المرأة في طريقها هادئة طبيعيّة، لا تُثير الأنظار إليها، ولا تدعو الرجال للنظر الى جسدها نظرة ملوّثة، فهل يكون ذلك متناقِضاً مع كرامتها أو مع كرامة الرجل، أم أنّه متعارض مع مصلحة الجماعة، أو يكون ناقضاً للحريّة؟
نعم إذا قال أحدٌ: يجب حبس المرأة في دارها وغلق الأبواب عليها، والحيلولة دون خروجها من الدار بأيِّ وجه.. فمثل هذه المقولة تتعارض مع الحريّة الفطريّة والكرامة الإنسانيّة والحقوق الإلهيّة الّتي تتمتّع بها المرأة. وهي مقولة الحجاب الجاهليّ وليس لها في نظام الإسلام وجود.
إذا سألتَ الفقهاء: هل يحرم خروج المرأة من دارها؟ يُجيبون: لا.
وإذا سألتهم: هل يجوز للمرأة أنْ تبيع وتشتري وتتعامل تجاريّاً مع الرجال؟ يُجيبون: نعم.
وإذا سألتهم: هل يجوز اشتراك المرأة في الفعاليّات الاجتماعيّة العامّة؟
فالجواب: نعم، كما يجوز للمرأة حضور المساجد وممارسة النشاطات الدينيّة. وليس هناك من يقول إنّ مجرّد مشاركة المرأة في الأماكن الّتي يوجد فيها رجال أمرٌ حرام.
وإذا سألتَهم: هل يجوز للمرأة أنْ تتعلّم، وأنْ تُمارِس الفنّ، وبالتّالي ترتفع بمستوى استعداداتها الّتي منحها الله؟.
الجواب: نعم.
والجواب بـ"نعم" في كلِّ ما تقدّم مشروطٌ بأمرين فقط
1 - أنْ تتوفّر المرأة على الحجاب، وأنْ يكون خروجها من منزلها خروجاً عفيفاً، لا تُثير الرجال.
2 - إنّ مصلحة الأُسرة تقتضي أنْ يكون خروج المرأة من دارها مصحوباً برضا الزوج وتقديره. والزوج بدوره ملزم بأنْ لا يتجاوز حدود مصالح الأُسرة.
فمِنَ الممكن أنْ يكون ذهاب الزوجة حتّى إلى بيت أهلها أمراً مُتعارِضاً مع مصلحة الأُسرة. افترضي أنّ الزوجة أرادت أنْ تذهب إلى بيت أختها، وكانت الأخت امرأة مخرِّبة تسعى لتهديم كيان أسرة أختها
فتسيّرها بهذا الاتّجاه. والتجربة أثبتت أنّ هذا الفرض ليس نادراً.
ويتّفق أحياناً أنْ يكون ذهاب الزوجة إلى بيت أمِّها مُتعارِضاً مع مصالح الأُسرة. ففي مثل هذه الموارد يحقّ للزوج أنْ يحول دون هذه اللّقاءات الضارّة، والّتي يكون ضررها غير منحصِر بالزوج بل يعمُّ الزوجة والأبناء.
أمّا في الأمور الّتي لا علاقة لها بمصلحة الأُسرة لا يبقى هناك وجه ومورد لتدخّل الزوج.
الحجاب وتجميد الطاقات
الاعتراض الثاني على الحجاب هو: أنّ الحجاب يؤدّي إلى تعطيل الفعاليّات النسويّة، الّتي خلق الله في المرأة الاستعداد لها.
فالمرأة كالرجل تتمتّع بذوق، وفكر، وفهم، وذكاء واستعداد للعمل. وهذه الاستعدادات منحها الله تعالى لها، ولم يكن ذلك عبثاً، وعليه يلزم استثمارها. فكلُّ استعداد طبيعيّ - من حيث الأساس - يدلُّ على وجود حقٍّ طبيعيّ. فحينما يُمنح كائن ما استعداداً ولياقة لعملٍ ما، فهذا يُمثِّل سنداً ودليلاً على أنّ لهذا الكائن حقّاً في تنشيط وترشيد الاستعداد، والحيلولة دون ذلك ظلم وعدوان.
لِمَ نقول إنّ لكلِّ أبناء البشر حقّاً في التعليم سواء كانوا رجالاً أو نساءً، ولم نُعط الحقّ للحيوانات؟
ذلك لأنّ استعداد التعلُّم موجود لدى البشر، دون الحيوانات. فالحيوان يتمتّع باستعداد التغذية والإنجاب، وحرمانه من ذلك يُعتبر عملاً مخالفاً للعدالة.
إنّ الحيلولة دون ممارسة المرأة للفعاليّات والاستعدادات الّتي منحتها لها يدُ الإبداع والخلق ليس ظلماً للمرأة فحسب، بل خيانة للأمّة أيضاً. فكلُّ عمل يؤدّي إلى تعطيل قوى الإنسان التكوينيّة، الّتي منحه الله إيّاها، فهو عمل ضارٌّ للجماعة. فالعامل الإنسانيُّ أكبر رأسمال اجتماعيّ، والمرأة إنسان أيضاً، فيلزم أنْ ينتفع المجتمع بعمل وفعاليّة هذا العامل وقواه الإنتاجيّة. فركود هذا العامل وتضييع طاقات نصف أبناء المجتمع يتناقض والحقّ الطبيعيّ الفرديّ للمرأة، كما يتناقض وحقّ المجتمع، ويؤدّي إلى جعل المرأة عالة وكَلّاً على الرجل.
الجواب: إنّ الحجاب الإسلاميّ - الّذي سنُوضِّح حدوده عاجلاً - لا يؤدّي إلى تضييع قُدرات المرأة وتعطيل استعداداتها الفطريّة. إنّ الإشكال أعلاه يَرِد على الحجاب الذي كان متداوَلاً بين الهنود والإيرانيّين قبل الإسلام أو الحجاب اليهوديّ. لكنّ حجاب الإسلام لا يقول: يلزم حبس المرأة في دارها، والحيلولة دون فعاليّاتها ونموّ استعداداتها. فأساس الحجاب في الإسلام - كما قلنا - هو: أنّ المتعة الجنسيّة يلزم حصرها في محيط المنزل وبالزوجة الشرعيّة، وأنْ يُترك المحيط الاجتماعيّ محيط عمل وإنتاج. ومن هنا لا يُسمح للمرأة حين خروجها من الدار أنْ تُهيّئ موجبات الإثارة الجنسيّة للرجال، كما لا يُسمح للرجل أنْ يتصيّد بنظراته النساء. إنّ هذا اللون من الحجاب لا يُعطِّل طاقات المرأة كما أنّه يؤدّي إلى تدعيم قُدراتها على العمل الاجتماعيّ أيضاً.
إذا قصر الرجل متعته الجنسيّة على زوجته الشرعيّة، وصمّم بعد
خروجه من منزله ووطئت قدمه المحيط العامّ على أنْ لا يُفكِّر في مسائل الجنس، فمِنَ المقطوع به أنّه يستطيع العمل بشكلٍ أفضل ممّا
لو كان جلّ همّه منصبّاً على ملاحقة الفتيات ومعاشرة النساء والتمتّع بهنّ.
هل أنّ خروج المرأة إلى ميدان العمل بوضع اعتياديّ غير مثير أفضل، أم خروجها بعد ساعات من التجميل والوقوف أمام المرآة، ثُمّ تخرج ليكون كلُّ سعيها باتّجاه جذب قلوب الرجال إليها، وتحويل الشباب - الذين ينبغي أنْ يُمثِّلوا المظهر الحقيقيّ لإرادة وحزم وفعاليّة الأمّة - إلى موجودات طائشة شهوانيّة لا إرادة لها؟.
إنّه لأمر غريب، فبحجّة أن الحجاب يُعطِّل نصف أبناء المجتمع نركن إلى السفور والتحلُّل لنُعطِّل النصفين - الرجال والنساء -!! فيضحى عمل المرأة التأمّل طويلاً أمام المرآة وصرف الوقت في التجمُّل، ويكون عمل الرجل في الركض خلف الشهوات وتصيّد الفتيات!.
لا بأس هنا بنقل نصّ شكوى زوج من زوجته، وقد نُشرت هذه الشكوى في إحدى المجلّات النسويّة، ليتّضح كيف أنّ الوضع القائم للنساء حوّلهنّ إلى موجوداتٍ من لون آخر.
جاء في هذه الرسالة ما يلي:"تتحوّل زوجتي أثناء النوم إلى موجودٍ غريب، يجثم إلى جواري، فلأجل أنْ لا ينفرط انتظام شعرها أثناء النوم تلبس على رأسها قبّعة كبيرة، ثم تلبس ثياب نومها، حيث تجلس أمام المرآة وتطلي
وجهها بمساحيق طبيّة، وبعد أنْ تُدير وجهها لي يواجهني موجود لا أعرفه، وكأنّها لم تكن زوجتي، إذ تبدّلت صورتها من حيث الأساس فحاجباها ليس لهما وجود بفعل
المساحيق. ويبثّ وجهها روائح كريهة، بفعل المساحيق الطبيّة الّتي تستخدمها، والّتي تُعطي رائحة الكافور، فتنقلني إلى عالم القبور. ويا ليت الأمر ينتهي عند هذا الحدّ! لكنّ ذلك مقدّمة لما يأتي، فبعد ذلك تمشي عدّة خطوات داخل الغرفة وتجمع ما تناثر من أسبابها، ثُمّ تُنادي الخادمة وتطلب منها أنْ تأتي بالأكياس، فتأتي الخادمة بأربعة أكياس، فتنام على السرير وتأخذ الخادمة بوضع الأكياس في يديها ورجليها وتشدّ أطرافها بخيط، وذلك للحفاظ على سلامة الأظافر المستطيلة، وتنام زوجتي على هذه الحالة"!
أجل، هذه هي المرأة بعد تحرُّرها من الحجاب، حيث تتحوّل إلى عنصر فعّال، وطاقة اقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة!!
إنّ ما لا يُريده الإسلام هو أنْ تكون المرأة كهذا الموجود المهمل، ويكون عملها مُنحصِراً في استهلاك الثروة وإفساد أخلاق المجتمع وتخريب بناء الأُسرة. إنّ الإسلام لا يُعارض - على الإطلاق - نشاط المرأة الواقعيّ في المجتمع والاقتصاد والثقافة، والنصوص الإسلاميّة وتاريخ الإسلام شاهدان على هذا الادّعاء.
ففي ظلِّ الأوضاع القائمة الّتي تنزع إلى تجديد لا منطق له، لا نعثر على امرأة تصرف طاقتها - واقعاً - في النشاطات الاجتماعيّة، أو الثقافيّة أو الاقتصاديّة المثمرة، إلّا في بعض القرى، ولدى بعض
العناصر المتديّنة الّتي تلتزم بأحكام الشرع الإسلاميّ التزاماً حقيقيّاً.
نعم، هناك لون من النشاط الاقتصاديّ الرائج، الّذي يلزم أنْ نُعدّه ثمرة التحرُّر من الحجاب وهو: أنْ يسعى صاحب المعرض - بدلاً من تهيئة السلعة الجيّدة والأفضل لزبائنه - إلى استخدام فتاة بعنوان "البائعة"، فيستثمر قدرتها النسويّة ورأسمالها المتمثّل في العفاف والشرف، ويُحوِّلها إلى أداة لتحصيل المال، واستغلال زبائنه. فالبائع يعرض السلعة على الزبون كما هي، إلّا أنّ الفتاة البائعة الجميلة تجذب الزبون بألوان من التغنُّج النسويّ، وعرض مفاتنها الجنسيّة. فيُقبل العديد من الأفراد الّذين لا ينوون شراء شيء من المعرض، لأجل التحدُّث مع البائعة بعض الوقت، ثم يشترون شيئاً من المعرض!.
فهل هذا العمل فعاليّة اجتماعيّة؟ هل هذا العمل تجارة أم أنّه تحايل ورذالة؟.
يقولون: لا تُعبِّئوا المرأة في كيس أسود.
نحن لا نقول لأحدٍ ضع زوجتك في كيس أسود. ولكنْ هل ينبغي للمرأة أنْ ترتدي لباسها، وتظهر أمام الملأ بحيث تُظهر نهديها أمام نظرات الرجال الشهوانيّة، وتُخرجهما بشكل ألطف ممّا هما عليه؟. هل ينبغي للمرأة أنْ ترتدي تحت ثيابها الوسائل الاصطناعيّة الّتي تزيد في جمالها، لأجل سرقة قلوب الـرجـال؟ فـهل تـرتـدي الفتيات هذه الملابس لأزواجهنّ؟ لِمَ ترتدي الأحذية ذات الأكعاب؟ فهل هناك غير إظهار حركات ردفيها؟ وهل أنّ ارتداء الملابس الحاكية عن مواضع
الحسن في الجسد يستهدف أمراً غير إثارة الرجال وتصيّدهم؟ وعلى الأغلب فالنساء الّلواتي يستعملن أمثال هذه الملابس والأحذية لا يضعن أزواجهنّ فقط في حسبانهنّ، دون سائر الرجال.
يُمكن للمرأة أنْ تستعمل ما تشاء من لباس وتجميل أمام محارمها، وأمام النساء، ـ بالحدود الشرعيّة ـ ولكنّ المؤسف أنّ تقليد الغرب يستهدف هدفاً آخر.
إنّ غريزة التظاهر والتصيّد غريزة لدى المرأة، والويل إذا دعا الرجال لذلك أيضاً وساهم مصمّمو الأزياء في تكميل ما ينقص، وحضَّ المصلحون الاجتماعيّون على ذلك!
إذا ارتدت الفتيات ألبسة اعتياديّة في التجمّعات العامّة، وارتدينَ أحذية عاديّة وسترنَ شعورهن، ثُمّ ذهبنَ إلى المدرسة أو الجامعة، فهل أنّ تحصيلهنّ الدراسيّ أفضل، أم أنّه أفضل في الوضع القائم؟ لو لم تكن هناك متعة جنسيّة منظورة، فلِمَ هذا الإصرار على خروج المرأة بهذا الشكل؟ لِمَ يُصرّون على جعل المدارس الإعدادية مختلطة؟. سمعت أنّ العادة في باكستان - ولا أدري هل هي قائمة الآن أم لا - هي أنْ يُفصل قسم البنين بحاجز وبردة عن قسم البنات، ويبقى الأستاذ وحده مُشرِفاً على القسمين من وراء المنصّة، فأيُّ إشكال في ذلك؟.
الحجاب وهيجان الثورة الجنسيّة
الاعتراض الآخر الذي أوردوه على الحجاب هو: أنّ إيجاد الحاجز بين الرجل والمرأة يؤدّي إلى ارتفاع نسبة الثورة الجنسيّة. وعلى قاعدة "الإنسان حريص على ما مُنع" فإيجاد الحاجز والمانع يزيد
في حرص ورغبة الرجل والمرأة بالجنس. مُضافاً إلى أنّ قمع الغرائز يُفضي إلى ألوان من الاضطراب النفسيّ والأمراض النفسيّة.
علماء النفس المحدثون - وخصوصاً المذهب الفرويديّ - يتذرّعون كثيراً بالحرمان والفشل، فيقول فرويد: إنّ الإحباط معلول بالقيود الاجتماعيّة. ويقترح ترك الغريزة حرّة قدر الإمكان، لكي لا يُعاني الفرد من الإحباط وآثاره النفسيّة.
يقول "راسل" في كتابه "العلم الذي أعرفه" في الصفحتين 69 - 70 من ترجمته الفارسيّة:"الأثر الطبيعيّ للحرمان عبارة عن إثارة الإحساس العامّ للبحث. وهذا الأثر سلبيٌّ على الآداب، كما أنّه سلبيٌّ في مجالات أخرى... لنضرب مثالاً على أثر التحريم: كان الفيلسوف اليوناني "أمبيذكلس" يعتبر علس1 أوراق شجرة الغار عملاً مخزياً وقبيحاً جدّاً، وكان يستولي عليه الفزع والجزع باستمرار لأنّه لا بُدَّ أن يبقى في ظلمات الجحيم آلاف السنين بسبب علسه لورقة شجرة الغار. ولم ننهَ نحن على الإطلاق عن علس ورقة شجرة الغار، وحتّى الآن لم أعلس ورقة هذه الشجرة. ولكن لُقِّن "أمبيذكلس" حرمة هذا العمل، وهو قد علس ورقة شجرة الغار".
ثم يطرح "راسل" السؤال التالي: هل تعتقد أنّ نشر المواضيع المنافية للعفّة لا يزيد ارتباط الناس بها؟ فيُجيب:"إنّ علاقة الناس بهذه المواضيع سوف تنقص. افترض أنّ طبع
ونشر
اللّوحات المنافية للعفّة أصبح مجازاً، ولو حصل ذلك فإنّ هذه اللوحات بعد الترحيب بها سنة أو سنتين من قِبَل الناس، يحصل لديهم إشباع، ومن ثم تُهمل وحتّى لا يُلقي عليها أحد نظرة".
الجواب عن هذا الإشكال هو: صحيح أنّ الإحباط، وخصوصاً الإحباط الجنسيّ، ذو آثار سلبيّة، وسليم أنّ محاربة الغريزة في حدود الحاجة الطبيعيّة أمرٌ خاطىء، لكنّ رفع القيود الاجتماعيّة لا يحلّ المشكلة، بل يزيدها تعقيداً. فرفع القيود أمام الغريزة الجنسيّة وبعض الغرائز الأخرى يُميت العشق بمفهومه الواقعيّ، ويُطلق الطبيعة هائجة، وكلّما ازداد العرض أمامها ازداد هيجانها واحتدّ الميل للتنوّع.
إنّ مقولة (راسل): "إذا سمحنا بانتشار الصور المنافية للعفّة، فسوف يملّها الناس بعد فترة ولا ينظرون إليها" صحيحة بالنسبة إلى صورة خاصّة ونوع خاصّ من اللاعفّة. ولكنّه لا يصدق على مطلق الانحراف والتحلّل، يعني: يملّ الإنسان ممارسة لون من الانحراف، ولكنّه لا يميل الى العفاف بعد الملل، بل ينتقل بحاجته الغريزيّة إلى ممارسة لون آخر من الانحراف. وهذه الحاجة لا تنتهي على الإطلاق. فراسل نفسه يعترف في كتابه "الأخلاق والعلاقة الجنسيّة" بأنّ العطش النفسيّ في مسائل الجنس يختلف عن الحرارة الجسديّة، فما يسكن بالإرضاء هو حرارة الجسم، لا العطش النفسيّ.
يلزم الالتفات إلى مسألة: وهي أنّ الحريّة في المسائل الجنسيّة تؤدّي إلى اضطرام الشهوة بجشع وحرص، نظير جشع وحرص أصحاب الحريم الرومان والفرس والعرب الذين نعرفهم. لكنّ الحجاب
والحاجز يُثير ويُرشد الإحساس بالعشق والخيال والغزل على مستوى إنسانيٍّ رفيع، وحينئذٍ فقط يتحوّل ذلك الإحساس إلى مُنطلَق للإبداع والفنّ والفلسفة.
الفارق بين ما يُسمّى العشق، وعلى حدِّ تعبير ابن سينا "العشق العفيف"، وما يظهر على صورة هيجان حريص وجشع - رغم كونهما أمرين روحيّين لا نهائيّين - فارق كبير. فالعشق عميق، يُمركز القوى، وموحّد، أمّا الهيجان فهو سطحيٌّ، مشتّت، وتعدّدي، وطارىء.
الحاجات الطبيعيّة على قسمين: حاجات محدودة وسطحيّة، نظير الأكل والنوم، وبمجرّد إشباع هذه الحاجات، ترتفع رغبة الإنسان فيها، ومن الممكن أنْ تتحوّل إلى انزجار ونفرة، والقسم الآخر حاجات عميقة وغير محدودة، كطلب المال والجاه.
الغريزة الجنسيّة تتمتّع بخصائص كلا القسمين، فجسميّاً هي من القسم الأوّل، لكنّها بوصفها ميلاً نفسيّاً بين الجنسين ليست كذلك، ولأجل إيضاح هذه الفكرة نُقدِّم بين يدي قرّائنا الكرام المقارنة التالية:
كلُّ بلد يحتاج إلى حدٍّ معيّن من الطعام، مثلاً: إذا كان تعداد سكان البلاد عشرين مليوناً فسوف يكون مقدار الطعام الّذي يحتاجونه محدّداً حسب تعدادهم، لا ينقص وإذا زاد فهو زائد عن الحاجة.
فإذا استفهمنا: ما هو مقدار الطعام الذي يحتاجه هذا البلد؟ يأتي الجواب مقداراً محدّداً. ولكنْ إذا استفهمنا عن المقدار الّذي يحتاجه البلد من الثروة بالنظر لطلب أبناء البلد للمال، يعني: ما هو المقدار اللازم
من المال لإشباع رغبة وميل أبناء الشعب للمال، بحيث إذا دفعنا لهم مالاً، يقولون: شبعنا، ولا رغبة لنا، لا نستطيع تناوله؟ الجواب هو: إنّ الطلب لا حدّ له.
وحبُّ العلم لدى الأفراد يُشبه حبَّ المال من هذه الناحية. فقد جاء في حديثٍ عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال". وحبُّ الجاه مصداق لهذه الناحية أيضاً، فقابليّة البشر في طلب المقام والجاه لا نهاية لها، فكلّما حصل الإنسان على مقام رفيع فهو يطلب ويرغب في المقام الأعلى والأرقى.
أمّا الغريزة الجنسيّة فلها جانبان: الجانب الجسميّ، والجانب الروحيّ. فمِنَ الناحية الجسميّة هي محدودة، حيث إنّ حاجة الرجل العضويّة يُمكن أنْ تُشبع بامرأة واحدة أو امرأتين. أمّا من حيث طلب التنوّع والشوق النفسيّ، فالمسألة ذات شكل آخر.
الشكل الآخر من العطش الروحيّ، وهو ما يبرز على صورة جشع وحرص، حيث يرتبط بطلب الملكيّة، أو طلب الملكيّة ممزوجاً بالشهوة الجنسيّة. وهذه الحالة هي عين ما يحصل لدى أصحاب الحريم قديماً، وما يوجد لدى الأثرياء وغيرهم حديثاً. وهذا الشكل من العطش يميل إلى التنوّع، فبعد أنْ يشبع صاحبه من واحدة، يلتفت إلى الأخرى، فهو في نفس الوقت الذي يتوفّر فيه على عشرات النساء، تأسره العشرات الأخريات. وهذا اللون من العطش ينمو في ظروف التحلُّل الجنسيّ وحريّة الاختلاط. وقد أطلقنا على هذا اللون من العطش "الهوس". وكما أشرنا: فالعشق عميق، تتمركز فيه القوى، ويُثري قوّة الخيال،
ووحدة المحبوب. أمّا الهوس، فهو سطحيٌّ ضائع، مشتِّت للقوى، ويميل إلى التعدُّد.
هذا اللون من العطش الذي أسميناه "الهوس" لا يشبع. فإذا سقط رجل في هذا الطريق، وافترضنا أنّه امتلك من النساء الحسناوات بعدد ما كان في حريم هارون الرشيد وخسرو برويز، بحيث لا يأتي دور بعضهنّ خلال السنة الكاملة، وسمع أنّ حسناء أخرى في أقصى الأرض فسوف يطلبها، ولا يقول: كفى، لقد شبعت. فهو كجهنّم، ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾.
فالإشباع في مثل هذه الحالات أمرٌ غير ممكن، وإذا أراد شخص أنْ يرد هذا السبيل فهو يُشبه تماماً من يُريد أنْ يُشبع النار بالحطب.
وبشكلٍ عامّ، فالطبيعة الإنسانيّة غير محدودة في مطالبها الروحيّة. فالإنسان، روحاً، طالب لا نهاية لطلبه. وحينما تختلط المطالب الروحيّة بمسير الأمور الماديّة فلا نصل عندئذٍ إلى نهاية، فكلّما بلغنا مرحلةً، يطلب الإنسان الوصول الى مرحلة أخرى.
لقد أخطأ الذين حسبوا أنّ طغيان النفس الأمّارة وهيجان الإحساسات الشهوانيّة معلول فقط للحرمان والعقد الناشئة عنه. فكما أنّ الحرمان سبب لإضرام نار الشهوات، كذلك اتّباعها والتسليم المطلق لها سبب إضرام نار الشهوات. فأمثال "فرويد" قرأوا وجهاً واحداً من العُمْلَة، وأغفلوا الآخر.
يقول البوصيري في قصيدته المشهورة "نهج البردة"
النفس كالطفل إنْ تُهمله شبَّ على
حبِّ الرضاع وإنْ تفطمه ينفطمِ
ويقول الآخر
النفس راغبة إذا رغّبتها
وإذا تُردّ إلى قليل تقنع
يكمن خطأ "فرويد" وأمثاله في أنّهم حسبوا أنّ سبيل تهدئة الغرائز هو إشباعها بلا حدٍّ ولا قيد. فقد التفت هؤلاء إلى المنع والحرمان وآثاره السلبيّة فقط، فادّعوا أنّ تقييد الغريزة وحجزها يؤدّي إلى العصيان والانحراف والثورة. فقدّموا حلّهم لأجل تهدئة هذه الغريزة، وذلك بالذهاب إلى ضرورة إعطاء هذه الغريزة حريّة مطلقة، دون منع المرأة من أيّة زينة، والرجل من الاختلاط مع أيّة امرأة.
إنّ هؤلاء لم يلتفتوا - بحكم ملاحظتهم المسألة من جانبٍ واحد - إلى أنّه: كما أنّ الحرمان يقمع الغريزة، ويولّد العقد النفسيّة، فإطلاق الغريزة والتسليم لها، وتركها في عالم المثيرات، يُجنّنها ويهيّجها، وحيث تستحيل الاستجابة لكلِّ مطلب من كلِّ فرد، بل تستحيل الاستجابة لكلِّ مطالب الإنسان الواحد - طول حياته - فسوف تُقمع الغريزة حينئذٍ بشكلٍ أسوأ، وتتولّد العقد النفسيّة.
نحن نعتقد أنّ هناك أمرين لازمين لتهدئة الغريزة: أحدهما إرضاء الغريزة في حدود الحاجة الطبيعيّة، والآخر الحيلولة دون تهييجها وإثارتها.
فحاجات الإنسان الطبيعيّة تُشبه بئر النفط، حيث إنّ تراكم الغازات وتجمّعها داخل البئر يؤذن بخطر انفجارها، وحينئذٍ لا بُدّ من تفريغ الغازات وإشعالها، لكن شعلة الغاز لا يُمكن إشباعها بإطعامها الحطب الكثير.
فحينما يُهيّئ المجتمع أسباب إثارة الغريزة السمعيّة والبصريّة واللمسيّة، لا يُمكنه بإرضاء الغريزة أنْ يُسكت ثورة المجنون. إذ يستحيل إيجاد الرضا والسكينة بهذا الأسلوب. بل يزيد في اضطراب وإحباط الغريزة مضافاً إلى زيادة آلاف الآثار النفسيّة السلبيّة الّتي تنشأ عن الإحباط.إنّ إثارة وتهييج الغريزة الجنسيّة بشكله غير المعقول يؤدّي إلى نتائج وخيمة أخرى، نظير البلوغ المبكر، والشيخوخة المبكرة، وانحلال القوى.
أمّا ما يُقال من "أنّ الإنسان حريص على ما مُنع منه" ففكرة سليمة، لكنّها بحاجة إلى إيضاح. إنّ الإنسان يحرص على شيء مُنع منه، وأُثير باتّجاهه أيضاً، فيحصل لديه تمنّي ذلك الشيء ويُمنع منه بعد ذلك. أمّا إذا لم يُثر باتّجاه شيء، فرغبته وحرصه على ذلك الشيء سوف تنقص وتقلّ.
إنّ صاحب النظريّة الجنسيّة "فرويد" نفسه التفت إلى أنّه بالغ في الموضوع. ولذا اقترح تحويل سبيل التنفيس عن هذه الغريزة عن طريق الفنّ والعلم وغيرهما من الفعاليّات، إذ أثبتت التجربة أنّ رفع القيود الاجتماعيّة رفع معه نسبة الأمراض والآثار النفسيّة السلبيّة لغريزة الجنس.ولكنّني لا أدري كيف يُحوّل "فرويد" سبيل ومجرى الغريزة الجنسيّة، فهل هناك طريق غير التحديد؟
كان يشيع بعض الجهلة في الماضي أنّ الانحراف الجنسيّ "اللواط"
ينتشر بين الشرقيّين فقط، وعلّة ذلك هو عدم إمكانيّة الحصول على المرأة على أثر القيود الاجتماعيّة والحجاب. ولكنْ لم يطل الزمن حتى اتّضح أنّ انتشار هذه الممارسة المنحطّة بين الأوروبيّين يزيد مئة مرة على انتشاره بين الشرقيّين.
نحن لا نُنكر أنّ عدم الحصول على المرأة يؤدّي إلى الانحراف، ولا بُدَّ من تيسير مستلزمات الزواج الشرعيّ. ولكنْ - وبلا شك - التبرُّج وسفور المرأة وحريّة الاختلاط تؤدّي إلى الانحراف الجنسيّ أكثر ممّا يؤدّي إليه الحرمان بمراتب.
إذا كان الحرمان باعثاً على الانحراف الجنسيّ "اللواط" في الشرق، فإنّ هيجان الشهوة في أوروبا أدّى إلى هذا الانحراف. فقد أضحى "اللواط" عملاً قانونيّاً في بعض الدول - كما قرأنا خبراً عن ذلك في بعض الصحف - وقيل: بُحكم أنّ الشعب الانجليزيّ وافق عمليّاً على هذه الممارسة، تلزم السلطة التشريعيّة الموافقة عليه. أي أنّه حصل استفتاء قهريّ على هذا العمل.
والأنكى من ذلك، قرأت في مجلّة، أنّ البنين يتزوّج بعضهم بعضاً في بعض البلدان الأوروبيّة.
ولم يكن المحرومون في الشرق سبباً لشيوع "اللواط" بمقدار ما أشاعه أصحاب الحريم. فقد انطلق هذا الانحراف من بلاطات الملوك والسلاطين.
هوامش
1- علس: تأتي بمعنى أكلَ.
الحجاب في القرآن
نبدأ هذا البحث من القرآن الكريم. وقد جاءت الآيات المتعلِّقة بهذا الموضوع في سورتين من القرآن إحداهما سورة النور، والأخرى سورة الأحزاب. ونحن هنا نأتي على تفسير الآيات، ثُمّ نعكف على بيان بعض المسائل الفقهيّة، وعرض الروايات، ونقل فتاوى الفقهاء.
الآية المتعلِّقة بموضوع بحثنا من سورة النور هي الآية (31)، الّتي تسبقها عدّة آيات تستعرض مسؤوليّة الاستئذان للدخول إلى المنازل:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ*فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ * قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ
أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
العين والبصر:استعملت الآية - أعلاه - كلمة "الأبصار" التي هي جمع "البصر". وهناك فرق في الدلالة بين كلمة "بصر" وكلمة "عين". فكلاهما يُطلق على العضو الباصر، غير أنّ كلمة "عين" تُطلق دون أنْ تتضمّن دلالة على الإبصار، في حين أنّ كلمة "بصر" تتضمّن فعل الإبصار.وحيث إنّ هدف الآية يتعلّق بفعل العين الذي هو "البصر"، استخدمت الآية كلمة "الأبصار" لا "العيون".
الغض والغمض:استعملت الآية كلمة أخرى، وهي "يغضّوا" ومادّتها "الغضّ". ولم تستخدم الآية كلمة "غمض" الّتي تُستخدم عادة في مورد العين. وهناك من لا يُفرّق بين مدلول الكلمتين. يلزمنا هنا أنْ نفرّق بين معنى هاتين الكلمتين:الغمض يعني إطباق الجفون، أغمض عينه، أي أطبق عليها جفنيه. والمُلاحَظ أنّ كلمة "غمض" تُستخدم مع "العين". أمّا " غضّ" فتُستعمل مع البصر والنظر والطرف عادةً. والغضّ يعني تخفيف النظر، وقد جاء استعمال هذه المُفرَدة في القرآن الكريم في موردين:
الآية (19) من سورة لقمان، حيث يقول في وصيّة لقمان لابنه: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾، والآية (3) من سورة الحجرات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ
امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾.
وجاء استعمالها في حديث هند بن أبي هالة المعروف في ذكر شمائل وصفات النبيِّ صلى الله عليه واله وسلم : "وإذا فرح غضّ طرفه".
ويُفسّر المجلسيُّ جملة "غضّ" في بحار الأنوار، ويقول: "أي كسره وأطرق ولم يفتح عينه، وإنّما يفعل ذلك ليكون أبعد من الأشر والمرح...".
وقد جاء استخدام الكلمة في وصيّة الإمام عليّ عليه السلام لابنه محمّد ابن الحنفيّة حيث يقول: "تزول الجبال ولا تزل: عضّ على ناجذك. أعِر الله جمجمتك. تِدْ في الأرض قدمك. ارم ببصرك أقصى القوم، وغضّ بصرك"1.
وجاء استخدامها لدى الإمام عليه السلام في وصيّته لأصحابه أثناء الحرب، إذ يقول: "غضّوا الأبصار، فإنّه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات، فإنّه أطرد للفشل..."2.
يُفهم من مجموع موارد الاستعمال المتقدِّمة أنّ معنى الغضّ هو: خفض النظر، واجتناب التركيز به، ومتابعته، أي أنْ لا يقع النظر بشكل استقلاليّ.
يقول صاحب مجمع البيان في التعقيب على الآية مورد البحث:
"أصل الغضّ النقصان، يُقال غضّ من صوته ومن بصره أي نقّص". ويقول في التعقيب على آية سورة الحجرات: "غضّ بصره إذا ضعّفه عن حدّة النظر". وقد فسّر الراغب الأصفهانيّ في كتابه الجليل "مفردات الراغب" هذه الكلمة بما يقرب من المعنى المتقدِّم.
إذن، ﴿يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ تعني خفض وتقليل النظر، وعدم تركيزه، وبلغة علماء أصول الفقه أنْ يكون النظر آليّاً، لا استقلاليّاً.
إيضاح ذلك: قد يكون نظر الإنسان إلى شخص، بُغية تحديد ملامحه، والتدقيق في وضع ذلك الشخص، كأنْ يُريد أنْ يطّلع على وضع لباسه، وشكل شعره... الخ.
وقد يكون نظر الإنسان إلى شخص يُقابله، بُغية الحديث معه، فينظر إليه لأنّ النظر يُلازم الحديث والحوار عادةً. الصنف الأوّل من النظر نظر استقلاليّ، والصنف الثاني نظر آليّ لأنّه مقدّمة وأداة للحديث.
إذن، فمعنى الآية هو: قل للمؤمنين أنْ لا يُركّزوا نظراتهم على النساء، وأن لا يُتابعوهن بالنظرات.
ينبغي أنْ نُضيف هنا أنّ بعض المفسّرين، الذين ذهبوا إلى أنّ "غضّ البصر" يعني ترك النظر، ادّعوا أنّ المقصود من ترك النظر هو تركه إلى العورة، كما أنّ الجملة اللاحقة في الآية تنظر إلى حفظ العورة. وكما قال الفقهاء: "والأمر بالغضّ لا عموم في متعلّقه، وحذفه لا يقتضيه، إذ حمله على العموم لكلِّ شيء ممتنع"3.
أمّا إذا كان المقصود - كما استنتجنا - من "غض البصر" وهو ترك التركيز في النظر، يعني أنْ ينظر الناظر بما يستلزمه الحديث ويقتضيه فحسب دون ملاحقة النظرات وتركيزها، فمِنَ المقطوع به أنّ متعلّق غضّ البصر هو الوجه فقط، إذ ما تقتضيه الضرورة هو هذا المقدار فقط، فما عدا الوجه ولعلّ الكفين أيضاً، لا يجوز النظر إليه حتماً مع غضّ البصر.
ستر العورة:ثُمّ نأتي لعبارة ﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ يعني أنْ تقول للمؤمنين أنْ يحفظوا عوراتهم. من الممكن أنْ يكون المقصود بهذه الآية هو طهارة الفروج عن كلِّ منافٍ وكلِّ عمل قبيح كالزنا والفحشاء ونظائرهما.
إلّا أنّ اعتقاد المفسّرين المسلمين الأوائل، كما أنّ مفاد الأخبار والأحاديث الواردة هو: أنّ جميع الموارد الّتي استخدم فيها القرآن "حفظ الفُروج" أراد بذلك حفظها من الزنا، إلاّ في هاتين الآيتين فالمقصود فيهما حفظها من النظر، يعني: وجوب ستر العورة. وسواء أخذنا بهذا التفسير، أو حملنا "حفظ الفُروج" على مطلق الطهارة والعفاف، فهي تشتمل على كلا التقديرين على مسألة "ستر العورة".
لم يكن "ستر العورة" عُرفاً مُلزِماً في جاهليّة العرب الأولى، وجاء الإسلام فألزم بستر العورة. وفي دنيا التمدُّن المُعاصِر هناك أيضاً من الغربيّين أمثال راسل من يؤيّد كشف العورة، فيُساق العالَم مرّةً أخرى إلى الجاهليّة الأولى.
يُعقِّب القرآن بعد الأمر بستر العورة بقوله: ﴿ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾. فستر
العورة لون من الطهارة الروحيّة، حيث لا يكون الإنسان باستمرار ملتفتاً إلى الأعضاء الدنيا وما يرتبط بها من المسائل.
فقد أراد القرآن بهذه الجملة بيان فلسفة هذا العمل، وأراد في الواقع أنْ يُجيب أهل الجاهليّة القديمة والجديدة، لكي لا يعدّوا المنع غير منطقي، بل عليهم الالتفات إلى نتائج هذا العمل، ثم يقول بعد ذلك: ﴿إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾.
ثُمّ يقول في الآية اللاحقة: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ فيذكر في هذه الآية نفس التكليفين السابقين: اجتناب النظر، وستر العورة، الّلذين وجّههما للرجال، ويوجّههما للنساء.
من هنا يتّضح جيّداً أنّ الهدف من هذه التعاليم هو رعاية مصالح بني البشر، سواء كانوا رجالاً أو نساءً.
إنّ أحكام الإسلام لم تقم على أساس تمييز وتفضيل للرجل على المرأة، وإلّا يلزم أنْ توجّه كلّ هذه التعاليم للنساء دون فرض أيِّ حكم للرجال. وإذا لاحظنا أنّ مسؤوليّة "الستر" تعلّقت بالمرأة فقط، فذلك لأنّ ملاكها يختصّ بالمرأة. وكما أشرنا آنفاً، فالمرأة مظهر الحسن والجمال، والرجل تجسيد للإعجاب والإثارة، ومن المحتّم أنْ يُقال للمرأة: لا تستعرضي جمالك، ولا يوجّه مثل هذا الخطاب للرجل. لذا فرغم أنّ الأمر بالستر لم يوجّه للرجال فهم عمليّاً يظهرون في الملأ العام بشكلٍ أكثر ستراً من النساء، إذ الرجال ميّالون للنظر لا للتظاهر، بينما تميل النساء على العكس للتظاهر لا للنظر. فميل الرجل للنظر يدفع المرأة بشكلٍ أكبر لأنْ تتظاهر، والميل الضعيف للنظر لدى
النساء يجعل الرجال أقلّ ميلاً للتظاهر. ومن هنا كان "التبرُّج" من خصوصيّات النساء.
الزينة:ثمّ تقول الآية في الجملة اللاحقة:﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾. كلمة "زينة" في لغة العرب شاملة لألوان التجمُّل، الّتي تلتصق بالبدن كالخضاب والكحل، والتي تنفصل عنه كالمجوهرات والذهب.
ومفاد الحكم الوارد في الآية هو: لا ينبغي للنساء أنْ يُبرزن ما يتجمّلن به، ثُمّ يرد على هذا الحكم استثناءان، نضعهما موضع البحث تفصيلاً
الاستثناء الأول
﴿إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ ويُستفاد من هذا التعبير أنّ زينة المرأة على نوعين: نوع ظاهر، وآخر مخفيّ ما لم تُظهره المرأة عامدة. فلا يجب إخفاء النوع الأول من الزينة، أمّا النوع الثاني فيجب ستره وإخفاؤه. وهنا يُطرح استفهام بوصفه مشكلة أمام البحث، وهو: ما هي الزينة الظاهرة، وما هي الزينة المخفيّة؟.
وقد طُرح هذا الاستفهام منذ أقدم الأزمنة على الصحابة والتابعين والأئمّة عليهم السلام ، وقد أُجيب عنه. يقول في تفسير "مجمع البيان":"وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: إنّ الظاهرة الثياب والباطنة الخلخالان والقرطان والسواران. عن ابن مسعود. وثانيها: إنّ الظاهرة الكحل والخاتم والخدّان والخضاب في الكفّ.. عن ابن
عبّاس، والكحل والسوار والخاتم.. عن قتادة.
وثالثها: إنّها الوجه والكفان.. عن الضحّاك وعطاء، والوجه والبنان.. عن الحسن"4.
وقد طرح هذا الاستفهام كثيراً على الأئمّة الطاهرين عليهم السلام ،، وأجابوا عليهم السلام ،عنه. وننقل هنا عدداً من الروايات الواردة في كتب الحديث، وقد نُقل أغلبها في تفسير الصافي. ويظهر أنّ الاتفاق قائم على هذه الروايات.
وإليك الروايات
1- عن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: ﴿إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ قال: "الزينة الظاهرة الكحل والخاتم"5.
2 - عن عليّ بن إبراهيم القميّ، عن أبي جعفر عليه السلام في هذه الآية، قال: "هي الثياب والكحل والخاتم وخضاب الكفّ والسوار. والزينة ثلاث: زينة للناس، وزينة للمحرم، وزينة للزوج، فأما زينة الناس فقد ذكرناها، وأما زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها، والدملج وما دونه، والخلخال وما أسفل منه، وأما زينة الزوج فالجسد كلّه"6.
3 - عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ قال: "الخاتم والمسكة، وهي القلب"7.
4 - عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: "ما
يحلّ للرجل من المرأة أنْ يرى إذا لم يكن محرماً؟ قال: الوجه والكفّان والقدمان"8.
تتضمّن الرواية الأخيرة حكم جواز النظر للوجه والكفّين، لا حكم عدم وجوب سترهما. والحكمان مسألتان مستقلّتان. ولكنْ سنقول لاحقاً إنّ الإشكال الأكبر يتعلّق بجواز النظر، لا بعدم لزوم الستر. فإذا كان النظر جائزاً كان عدم وجوب الستر ثابتاً بالأولويّة. وسنتناول ذلك البحث.
5 - أتت أسماء بنت أبي بكر دار رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (بيت أختها عائشة)، وكانت ترتدي ثياباً تحكي عمّا تحتها، فأدار رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وجهه عنها وقال: "يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أنْ تُرى منها إلاّ هذا وهذا وأشار إلى كفّه ووجهه"9.
تنسجم هذه الروايات مع وجهة نظر ابن عبّاس والضحّاك وعطاء، ولا تتطابق مع وجهة نظر ابن مسعود، الّذي يدّعي أنّ المقصود من الزينة الظاهرة الثوب.
ووجهة نظر ابن مسعود لا تقبل التوجيه، إذ الثوب ظاهر بنفسه فلا معنى حينئذٍ لأنْ يُقال: لا تبدي النساء زينتهنّ إلّا الثوب، فالثوب الظاهر لا يقبل الإخفاء والستر لكي يُستثنى، خلافاً للأشياء الّتي ذكرها ابن عبّاس، والضحّاك وعطاء، والّتي وردت أيضاً في روايات الشيعة الإماميّة، فهي قابلة لأنْ يرد الاستثناء عليها.
على أيِّ حال فهذه الروايات يُفهم منها أنّ ستر الوجه والكفّين حتى المعصم غير واجب على المرأة، ولا مانع أيضاً حتى من إظهار الزينة الاعتياديّة المُتعارَفة الّتي توجد في هذين القسمين "الوجه والكفّين"، كالخضاب والكحل، حيث لا تخلو المرأة منها، وحيث إنّ إزالتها عمل خارج عن الحدود العاديّة.
وهنا نوضِّح: نحن نطرح المسألة هنا من وجهة نظرنا، ونذكر اجتهادنا في هذا الموضوع. ولكنْ يجب على كلِّ واحد من الإخوة والأخوات أنْ يُتابع ويُطبّق فتوى مرجع تقليده. وما انتهينا إليه من رأي يتطابق مع رأي بعض مراجع التقليد، ومن الممكن أنْ لا يتطابق مع رأي بعضهم الآخر (رغم أنّ الآخرين ليست لديهم فتوى بالخلاف، وإنّما يفتون بالاحتياط، لا بالجزم والصراحة).
غرضنا من هذا البحث هو: أنْ تتعرّفوا عن قُرب إلى مصادر التشريع الإسلاميّ، وأنْ تتسلّحوا بالمنطق الإسلاميّ المُحكم والمتين.
كلُّنا يعلم أنّ قطاعاً واسعاً من الأمّة - اليومَ - يطرح نفسه بوصفه "المثقّف والواعي"، وهذا القطاع ينظر إلى موقف الإسلام من المرأة نظرة سلبيّة. وهم لا يعرفون ماذا قال الإسلام، وهم ليسوا على اطّلاع على فلسفة الإسلام الاجتماعيّة، من هنا فنظرتهم السلبيّة خاطئة مئة بالمئة.
إنّ تحـلُّـل هـؤلاء مـن الحجـاب والعفـاف عملـيّـاً لا ينحـصر في كونهم مُتابعين لشهواتهم، بل حيث إنّ هؤلاء يجهلون الحجـاب الإسلاميّ وفلسفته، ذهبوا إلى أنّه خرافـة، وأنـّه حكـم يُفضي إلـى تخلّف البشر،
وهذا الاعتقاد هو علّة بُعد وغربة بـل خـروج هـؤلاء من الإسلام.
ولو انحصر الأمر في المخالفة العمليّة ومتابعة الهوى والشهوة لكان يسيراً بل أصبح الأمر أمر إنكار الإسلام ورفضه. وعليك قارئي الكريم أنْ تتعرّف إلى منطق الإسلام وفلسفته الاجتماعيّة عن قرب، لتستطيع أنْ تُجيب عن شبهات هؤلاء.
وبديهيّ أنّ مهمّة الذبّ عن الشبهات لا يكفي لها قرّاء الرسائل العمليّة، والمطّلعون على الفتاوى، بل لا بُدّ أيضاً من البحث القائم على الدليل من زاويتَي النصوص، وفلسفتها الاجتماعيّة. ولذلك وجدنا هذا البحث ضروريّاً، وبذلك اندفعنا لدراسة هذه المسألة دراسة استدلاليّة مصحوبة ببيان الأدلّة.
أمّا ما هو الحدُّ الّذي تسمح الشريعة للمرأة بأنْ تُظهره أمام محارمها، فإنَّ الروايات والفتاوى مُختَلِفة في هذا المجال. والّذي يُستنتج من بعض الروايات، الّتي أفتى في ضوئها بعض الفقهاء، هو: يلزم ستر ما بين السرّة والركبة أمام المحارم عدا الزوج.
كيفيـّة الستر
بعد الاستثناء الأوّل تقول الآية: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ﴾ ومن الواضح أنّ الخمار ليس له خصوصيّة هنا، بل المقصود هو ستر الرأس والرقبة والنحر. لقد كانت جيوب نساء العرب واسعة، لا تغطي نحورهنّ وصدورهنّ. وكُنَّ يسدلن خمرهنّ من الخلف فتبدو آذانهنّ وأقراطهنّ ونحورهنّ وصدورهنّ. فجاء حكم هذه الآية، بلزوم أنْ يُستخدم القسم الّذي يسدل الخلف من الخمار لتغطية ما كان مكشوفاً.
يقول "ابن عبّاس" في تفسير هذه الجملة:"تُغطّي شعرها وصدرها وترائبها وسوالفها"10.
فالآية تُشخِّص حدود الستر. وقد نقل السنّة والشيعة في التعقيب على هذه الآية رواية مفادها:"استقبل شابٌّ من الأنصار امرأة بالمدينة، وكانت النساء يتقنّعنَ خلف آذانهنّ، فنظر إليها، وهي مُقبِلة، فلمّا جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه "لبني فلان، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه، فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: والله لآتينّ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، قال: فأتاه فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال له: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرائيل بهذه الآية: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ...﴾" إلخ 11.
التعبير المركّب من "على" و"ضرب" يُعطي هذا المعنى: أنْ تضع شيئاً فوق آخر، بحيث يعدُّ حاجباً ومانعاً. قال في تفسير الكشاف:"ضربت بخمارها على جيبها، كقولك ضربت بيدي على الحائط، إذا وضعتها عليهوجاء في تفسير الكشّاف في تفسير الآية (11) من سورة الكهف }فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ{ ما يلي: "أي ضربنا عليها حجاباً من أنْ تسمع".
وفي تفسير مجمع البيان، يقول:"﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾. والخمر المقانع، جمع خمار، وهو غطاء رأس المرأة المنسدل على جنبيها، أُمِرنَ بإلقاء المقانع على صدورهنّ، تغطيةً لنحورهنّ، فقد قيل إنّهن كُنَّ يُلقينَ مقانعهنّ على ظهورهنّ، فتبدو صدورهنّ، وكنّى عن الصدور بالجيوب، لأنّها ملبوسة عليها، وقيل إنّهن أُمِرنَ بذلك ليسترنَ شعورهنّ وقرطهنّ وأعناقهنّ. قال ابن عبّاس: تُغطّي شعرها وصدرها وترائبها وسوالفها"12.
وفي تفسير الصافي في نهاية تفسير جملة ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾: ستراً لأعناقهنّ.
وعلى أيِّ حال فالآية تُشخِّص بصراحة تامّة حدود الستر اللازم. ومراجعة تفاسير وروايات السنّة والشيعة، وعلى الخصوص الشيعة، توضّح المسألة بشكلٍ كامل، ولا تُبقي مجالاً للشكّ في مفهوم الآية.
الاستثناء الثاني
﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ لِبُعُولَتِهِنَّ... ﴾ إلخ.
حدَّد الاستثناء الأوّل مقداراً من الزينة الّتي يجوز إظهارها لعموم الرجال. أمّا هذا الاستثناء فيُحدِّد الأشخاص الذين يجوز إظهار مطلق
الزينة أمامهم. دائرة الاستثناء الأوّل أوسع - من زاوية الأفراد، وأضيق من زاوية المواضع الّتي تظهر - من دائرة الاستثناء الثاني. وأغلب الأشخاص الذين ذكرتهم الآية هم عين ما يُدعى فقهيّاً "المحارم"، وهم:
1 - لبعولتهنّ.
2 - أو آبائهنّ.
3 - أو آباء بعولتهنّ.
4 - أو أبنائهنّ.
5 - أو أبناء بعولتهنّ.
6 - أو إخوانهنّ.
7 - أو بني إخوانهنّ.
8 - أو بني أخواتهنّ.
9 - أو نسائهنّ.
10 - أو ما ملكت أيمانهنّ.
11 - أو التابعين غير أولي الإربة.
12 - أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء.
الاستثناء الثالث
وأمّا الاستثناء الثالث الوارد في مسألة الحجاب ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ...﴾13، فهو ثالث
استثناء في مسألة الحجاب، حيث ورد الأوّل والثاني في الآية 31 من نفس السورة.
ما هو المقصود من القواعد؟ القواعد هُنَّ النساء العجائز الّلواتي قعدنَ جنسيّاً، حيث لا يكوننّ مورد قبول الرجال جنسيّاً، ولذا لا يكون لهنّ أمل في الزواج، وإنْ أمكن أنْ تكون لهنّ رغبة.
ويُفهم من قوله: }أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ{ أنّ للمرأة نوعين من الّلباس، أحدهما لباس داخل المنزل، وآخر خارجه، وما أُجيز هو: خلع اللباس الذي يُستعمل داخل المنزل، دون تبرُّج وزينة.
وقد حدّدت النصوص الإسلاميّة حدود خلع الستر الذي يجوز للقواعد من النساء. فقد ورد في الأثر عن الحلبيّ عن الصادق عليه السلام أنّه قرأ ﴿أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ قال: الخمار والجلباب، قلت: بين يدي من كان؟ فقال: بين يدي من كان غير متبرِّجة بزينة، فإنْ لم تفعل فهو خير لها 14.
يُمكن أنْ نستنتج قاعدة كليّة من قوله ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾، وهي: أنّه كلّما راعت المرأة جانب العفاف والستر بشكلٍ أكبر فهو أكبر حبّاً لله. وإنّ الرخص الّتي منحها الله إرفاقاً وتسهيلاً في كشف الوجه والكفّين، لا ينبغي أنْ تؤدّي إلى إغفال هذه القاعدة الكليّة.
نساء النبيِّ صلى الله عليه واله وسلم الآيات الّتي تتعلّق بمسألة "الستر" هي آيات سورة النور الّتي
أوضحناها. كما أنّ هناك عدّة آيات في سورة الأحزاب يُمكن ذكرها على هامش هذه المسألة. بعض هذه الآيات متعلِّق بنساء
رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، وبعضها الآخر أحكام وردت في حفظ حريم العفاف.
فيما يتعلّق بالقسم الأوّل، فقد قال تعالى: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً*وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى...﴾.
ليس المقصود من الحُكم في هذه الآية سجن نساء النبيِّ في بيوتهنّ، إذ التاريخ الإسلاميّ يحكي لنا أنّ النبيَّ صلى الله عليه واله وسلم كان يصطحب نساءه في السفر، وكان لا يمنعهنّ من الخروج من دورهنّ. بل المقصود من الآية هو أنّ المرأة لا تخرج من بيتها لكي تستعرض نفسها أمام الرجال، وخصوصاً بالنسبة لنساء النبيِّ، فالحكم أكثر تأكيداً والمسؤوليّة أشدّ وأكبر.
تقول الآية (53) من سورة الأحزاب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً﴾.
جاءت كلمة "الحجاب" في هذه الآية. وحينما يُقال آية الحجاب - كما أشرنا - فالمقصود هو هذه الآية. وحكم الحجاب في هذه الآية يختلف عن حكم "الستر" الذي هو مورد بحثنا. فالآية تُحدِّد سلوكاً
داخل أسرة محدَّدة، وتمنع من دخول محلِّ النساء، وتأمر بالحديث - حينما تقتضي الحاجة - من وراء حجاب. وهذه المسألة لا علاقة لها بمسألة "الستر"، الّتي وردت في البحث الفقهيّ تحت عنوان "الستر"، لا "الحجاب".
وجملة ﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾نظير قوله: ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾15، فهي تدلُّ على أنّه كلّما التزم الرجل والمرأة جانب الستر والحجاب، وأقلعا عن التعامل الّذي يُفضي إلى تبادل النظرات، فإنّ ذلك أقرب للطهارة الروحيّة والتقوى. وكما قُلنا: لا ينبغي إغفال رجحان "الستر والحجاب وترك النظر" أخلاقيّاً على أساس الرخص والإباحات، الّتي أتت بحكم الضرورة.
حريم العفاف
تقول الآيتان (59 - 60) من سورة الأحزاب ما يلي:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً * لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَ قَلِيلاً﴾16.
ينبغي دراسة مسألتين بدقّة في هذه الآية: الأولى: ما هو معنى الجلباب، ودنو الجلباب؟
الثانية: ذكرت الآية علّة الحكم فيها ﴿أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ﴾ فما هو
أمّا المسألة الأولى: فقد اختلفت كلمات المفسّرين واللغويّين في معنى كلمة "الجلباب"، فأضحى الوقوف على المعنى الصحيح لهذه الكلمة أمراً عسيراً.
يقول في المُنجِد:"القميص أو الثوب الواسع".
ويقول الراغب في مفرداته:"الجلابيب: القمص والخمر".
ويقول صاحب القاموس:"والجلباب كسرداب وسنمار: القميص وثوب واسع للمرأة دون الملحفة، أو ما تُغطّي به ثيابها من فوق كالملحفة أو هو الخمار".
ويقول في لسان العرب:"الجلباب ثوب واسع من الخمار دون الرداء تُغطّي به المرأة رأسها وصدرها". وتقترب عبارة الكشّاف من المضمون المتقدّم.
ويقول في مجمع البيان حينما يُحدّد المدلول اللغويّ:"الجلباب: خمار المرأة الذي يُغطّي رأسها ووجهها إذا خرجت لحاجة".
وضمن تفسير الآية يقول:"أي قل لهؤلاء فليسترن موضع الجيب بالجلباب وهو الملاءة الّتي تشتمل بها المرأة".
ثم يقول بعد ذلك:
"وقيل إنّ الجلباب هو الخمار".
المُلاحَظ أنّ معنى "الجلباب" ليس واضحاً بجلاء لدى المفسّرين. ويظهر أنّ الأصحّ هو: أنّ الجلباب - في أصل الّلغة - يشمل كلّ ثوب واسع. ولكنّه كان يُطلق غالباً على الخمار، الّذي هو أكبر من المقنعة، وأصغر من الرداء. من هنا يتّضح أنّ هناك لونين من الخمار كانت النساء تستعملهما: أحدهما: ما يُدعى بالخمار أو المقنعة، وهو ربطة صغيرة تُستعمل غالباً داخل المنازل. والنوع الآخر: خمر واسعة تُستعمل خارج المنزل. وهذا المعنى يتطابق مع الروايات الّتي ورد فيها لفظ "الجلباب". كرواية عبيد الله الحلبيّ الّتي نقلناها في تفسير الآية (60) من سورة النور. حيث يُستفاد منها أنّ الجلباب كان غطاء لشعر الرأس.
كما ورد في روايات أخرى في تفسير الآية المتقدّمة أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: "الخمار والجلباب إذا كانت المرأة مسنّة"17.
على هذا الأساس فالمقصود من "دنوّ الجلباب" التستّر به. يعني حينما تُريد المرأة الخروج من المنزل عليها أنْ تلبس خمارها الواسع. ومن الواضح أنّ "تدني" لا تعني لغويّاً: تلبس، بل يُستفاد هذا المعنى من سياق ومورد الاستعمال، فحينما تقول لإمرأة: "ادني عليك ثيابك" فالمعنى هو أنْ لا تجعليها سائبة، بل اجمعيها، ولا تجعليها أمراً لا أثر له، بل تستّري بها.
إنّ استفادة النساء من العباءة الّتي يضعنها على رؤوسهنّ على نحوين
النحو الأوّل: يكون لبس العباءة فيه ذا صفة تشريفاتيّة فحسب، كما هو الحال في أيّامنا لدى بعض النساء اللاتي نراهنّ، حيث إنّ العباءة لديهنّ مجرّد اسم وعادة، فهي لا تُغطّي بعباءتها أيّ جزء من بدنها، بل تتركها مفتوحة، يبدو منها الشّعر والرقبة، رغم كونهنّ لا يمتنعنَ عن لقاء الرجال الأجانب، ذلك أنّهن لا مانع لديهنّ من تمتّع الآخرين بالنظر إلى أجسادهنّ!.
النحو الثاني: على العكس من الأوّل، حيث تُمسك المرأة بعباءتها، ولا تتركها مفتوحة، وهذا مؤشِّر على عفاف المرأة وتستّرها. فهي عمليّاً تدفع أنظار الرجال عنها، وييأس المنحرفون منها.
وسوف نُشير إلى أنّ التعليل الوارد في آخر الآية يُعطي المفهوم الأخير.
أما بالنسبة إلى المسألة الثانية: علّة الحكم الوارد في الآية:فقد ذكر المفسّرون: أنّ جمعاً من المنافقين كانوا يقفون ليلاً عند ابتداء دخول الظلام على مفترق الطرق وعلى رأس الأزقّة، للاعتداء على الإماء.
وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ الستر ليس بواجب على الإماء. وقد يعترض هؤلاء الشباب المنحرفون أحياناً سبيل الحرائر من النساء، بادّعاء أنّهم حسبوا كونهنّ إماءً، من هنا نزل الحكم للنساء الحرائر بأنْ لا يخرجنَ من بيوتهنّ دون جلباب يعني دون ثياب كاملة، لكي تُشخَّص الحرّة من الأمة بشكلٍ كامل، فلا يتعرّض لهنّ أحد.
إنّ ما ذكره المفسِّرون في هذا المجال لا يخلو من إشكال، إذ يُفهم منه أنّ التعرّض للإماء لا مانع منه، وأنّ المنافقين استخدموا عذراً
مقبولاً لممارستهم، والحال أنّ الأمر ليس كذلك، فرغم أنّ ستر الشَّعر ليس واجباً على الإماء، ولعلّ سببه أنّ وضعهنّ غير مثير ولا تقعن مورداً لرغبة الرجال، مضافاً إلى أنّ عملهنّ الخدمة - كما أشرنا - ولكن وعلى أيِّ حال فالتعرُّض لهنّ ذنب، ولا يستطيع المنافقون أنْ يتخذوه ذريعةً لممارساتهم.
هناك احتمال آخر طُرح في هذا المجال وهو: حينما تخرج المرأة من دارها مستورة مراعية جانب العفاف، فسوف لا يجرؤ المنحرفون على التعرُّض لها.
يكون معنى الجملة في ضوء الاحتمال الأوّل: }ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ{ هو: أنّه بذلك سوف تُشخّص الحرّة من الأمة، فلا يتعرّض لها الشباب ولا تؤذى. أمّا على ضوء الاحتمال الثاني يكون معناها: أنّه بذلك سوف يُعرفن بأنّهنّ نساء عفيفات، وسوف ينصرف عنهنّ المنحرفون، إذ سيتضح أنّ هنا حريم العفاف، فتُعمى عين الخيانة وتُقطع يدها.
لم يُبيّن في هذه الآية حدود الستر، فلا يُمكن أنْ نفهم من هذه الآية هل أنّ ستر الوجه واجب أو لا. والآية الّتي تعرّضت لحدود الستر هي الآية (31) من سورة النور، الّتي درسناها آنفاً.
إنّ المفهوم الّذي يُستخلص من هذه الآية، حقيقة ترسم منهجاً رفيعاً، وهو: أنّه ينبغي للمرأة المسلمة أنْ تتحرّك بين الناس، بالشكل الذي تعكس خلاله العفاف والوقار والطهارة، بحيث تكون هذه المعالِم شارتها الّتي بها تُعرف. وعندئذٍ ييأس المنحرفون الّذين يتصيّدون،
ولا تخطر في بالهم قضيّة استغلالهنّ. فالمُلاحَظ أنّ الطائشين من الشباب إنّما يعترضون سبيل النساء الرخيصات اللواتي لا يلتزمنَ بحجاب. وحينما يعترضونهنّ، ويعترضنَ، يُقال لهنّ: لو لم ترغبن بذلك ما كُنْتُنّ على الحال الّتي أنتنَّ عليها.
ونظير حكم هذه الآية الحكم الّذي جاء في الآية الّتي تسبق هذه الآية بخمس وعشرين آية، حيث يوجّه القرآن الخطاب لنساء النبيّ صلى الله عليه واله وسلم ويقول: ﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾. والحكم في هذه الآية يبيّن الوقار والعفاف في الحديث، بينما تبيّن الآية - مورد البحث - الوقار في المشي والذهاب والإياب.
قُلنا آنفاً: إنّ حركات الإنسان وسكناته تحكي أحياناً، فأحياناً يكون وضع لباس المرأة ومشيها وحديثها ذا معنى، فيقول للرجل بلا لسان: أعطني قلبك، أطلبني، تابعني... وأحياناً تنطق بالعكس فتقول له بلا لسان: لا تتعرّض لسور عفافي. على أيِّ حال هذا هو المستفاد من هذه الآية، لا الكيفيّة الخاصّة للستر. وكيفيّة الستر توضّحه الآية (31) من سورة النور. ومع ملاحظة أنّ الآية - موضوع البحث - متأخّرة في نزولها عن آية سورة النور يُمكن أنْ نستخلص أنّ مفهوم قوله: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ﴾ هو: لزوم رعاية حكم سورة النور بشكل كامل، لكي يخلصنَ من أذى الأشرار.
الآية الّتي تسبق هذه الآية تقول: ﴿يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِينا﴾. فهذه الآية تُدين وتُحذِّر أولئك الّذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات. ثُمّ يُعقِّب القرآن الكريم مباشرة
بحكم الآية موضوع البحث، وذلك برعاية الوقار الكامل لتُصان أعراضهنّ من عدوان المنحرفين. فالالتفات للآية السابقة يُعين على فهم مقصود الآية بشكلٍ أفضل.
حدود الستر
نُريد الآن أنْ نُحلِّل من وجهة النظر الفقهيّة حدود الستر الّتي أوجبها الإسلام على المرأة، مع الأخذ بنظر الاعتبار وجهات النظر المختلفة في هذا المجال.
ونُكرِّر هنا أنّ بحثنا ذا طابع علميٍّ ولسنا بصدد إعطاء فتوى في هذا المجال. فأنا أُقرِّر الرأي الّذي أنتهي إليه، وما على المكلَّف إلّا العمل بفتوى المجتهد الّذي يُقلِّده.
يلزمنا بدءاً أنْ نُحدِّد الأمور القطعيّة من وجهة نظر الفقه الإسلاميّ، ثُمّ نأتي إلى نقاط الاختلاف.
أوّلاً: لا شكّ في وجوب ستر ما عدا الوجه والكفّين على المرأة من وجهة نظر الفقه الإسلاميّ. وهذا الحكم من الأحكام الفقهيّة الضروريّة المسلّمة. فليس هناك تردّد وشكّ في هذا المقام لا على مستوى الأدلّة "الكتاب والسنّة"، ولا على مستوى الفتاوى، إنّما الخلاف حول لزوم ستر الوجه والكفّين إلى المعصم.
ثانياً: يلزم أن نفصل بين مسألتين، مسألة "وجوب الستر" الّتي هي مسؤوليّة المرأة، ومسألة "حرمة النظر للمرأة" والّتي هي مسؤوليّة الرجل. فمِنَ الممكن أنْ يذهب شخص إلى عدم وجوب ستر الوجه والكفّين على المرأة، ويرى في نفس الوقت حرمة النظر على الرجل. فلا يصحّ الاعتقاد بأنّ هناك ملازمة بين هاتين المسألتين. كما أنّ الثابت فقهيّاً عدم وجوب ستر الرأس على الرجل، لكنْ هذا لا يكون دليلاً على جواز نظر المرأة إلى رأس وبدن الرجل.
نعم، إذا قلنا بالجواز في مسألة النظر يلزمنا القول بعدم الوجوب بالنسبة للستر، إذ من المستبعد جدّاً أنْ يجوز نظر الرجل لوجه وكفّي المرأة، ولكنْ يحرم على المرأة كشف الوجه والكفّين. وسننقل أنّه لا يُمكن العثور على شخص بين قدماء المفتين يذهب إلى وجوب ستر الوجه والكفّين، ولكنْ هناك من يذهب إلى حرمة النظر.
ثالثاً: ليس هناك شكّ في مسألة جواز النظر من أنّ النظر إذا كان على أساس الّلذة والريبة فهو حرام.
والنظر بقصد الّلذة يعني النظر لأجل حصول الّلذة الجنسيّة، أمّا الريبة فهي تحصل عادةً بحكم خصوصيّة الناظر والمنظور إليه، حيث يُصبح النظر أمراً مُريباً فيُخاف منه، ويُخشى حصول الميل الجنسيّ على أثره.
فهذان الّلونان من النظر حرام مطلقاً، حتى بالنسبة للمحارم. والمورد الوحيد الذي استُثني هو النظر بقصد الزواج.
ففي هذا المورد يجوز النظر وإن كانت هناك لذّة، وهي حاصلة في الغالب. وبديهيّ أنّ شرط الجواز هو أنْ يكون الشخص هادفاً في الواقع للزواج، يعني أنّ الرجل يُريد جدّيّاً رؤية المرأة لأجل الزواج، ويُريد الاطّلاع على سائر خصوصيّات المرأة المنظورة، الّتي يُريدها من الزوجة. لا أنّه يدّعي الزواج كذريعة لإشباع فضوله وشهوته. والقانون
الإلهيّ لا يُشبه قوانين البشر، فيُريح الإنسان باله بالذرائع والحيل، ففي القانون الإلهيّ يكون وجدان الإنسان حاكماً، والله تعالى الّذي لا يخفى عليه شيء مُحاسِباً.
من هنا يلزم القول إنّه ليس هناك استثناء في الواقع، إذ ما هو حرامٌ قطعاً هو النظر بقصد الّلذة، وما لا مانع منه هو النظر الذي لا يستهدف التلذّذ بل يكون التلذّذ لازماً قهريّاً له.
لقد صرّح الفقهاء بأنّه لا يجوز لأحدٍ أنْ ينظر إلى النساء بقصد اختيار واحدة منهنّ للزواج. إنّما يجوز النظر إلى امرأة خاصّة تعرّف إليها ودرس جوانبها المختلفة، ولم تبق أمام زواجه منها أيّة عقبة سوى القناعة بشكلها وقيافتها، فيُريد النظر إليها لكي يقطع أمر الزواج منها. وقد طرح بعض الفقهاء هذه المسألة بصورة احتياطيّة.
الوجه والكفّان:بعد أنْ أوضحنا الموارد القطعيّة للزوم الستر، يأتي دور البحث بصدد "ستر الوجه والكفّين".
الفلسفة الّتي يقوم عليها الحجاب تتفاوت بشكلٍ كامل بين اتّجاهين، حسب الموقف من "مسألة الستر"، فإنْ اخترنا وجوب ستر الوجه والكفّين أصبحنا أنصار فلسفة نظام البردة، ومنع المرأة من ممارسة أيِّ عمل اجتماعيٍّ إلّا في محيط المنزل أو المحيط النسويّ البحت.
أمّا إذا اخترنا لزوم ستر كامل البدن، وحرّمنا أيَّ لون من ألوان الإثارة على المرأة، وحرّمنا على الرجال أيضاً النظر بلذّة وريبة، واستثنينا من لزوم الستر الوجه والكفّين حتى المعصمين، بشرط
تجنُّب أيِّ لون من التجميل المثير والمهيّج، حينئذٍ ستتّخذ المسألة وجهةً أخرى. وسنكون أنصار فلسفة أخرى، لا ترى ضرورة لحجز المرأة داخل البيت وحجبها، بل لا بُدَّ من رعاية اختصاص الممارسة الجنسيّة داخل محيط الأُسرَة، وتطهير المحيط الاجتماعيّ العام، وأنْ لا تُمارَس أيّة لذّة سواء كانت عن طريق النظر أو الّلمس أو السمع خارج إطار الزواج، وعليه يُمكن للمرأة أنْ تتحمّل مسؤوليّة الأعمال الاجتماعيّة.
الخلاصة
إنّ الوجه والكفّين حدٌّ ما بين سجن المرأة وحرّيّتها. والاعتراضات الّتي يوردها معارضو فكرة الحجاب إنّما ترد إذا قُلنا بلزوم ستر الوجه والكفّين. أمّا إذا لم نذهب إلى وجوب سترهما فلا يُمكن لهم الاعتراض على ستر سائر أجزاء الجسد، بل الإشكال يرد عليهم حينئذٍ.
فإذا لم تكن المرأة مريضة نفسيّاً، ولم ترغب الخروج عريانة، فلا يمنعها ستر تمام جسدها ـ عدا الوجه والكفّين حتى المعصمين - من ممارسة أيّة فعاليّة في المحيط العامّ. بل على العكس، فالتبرُّج، وارتداء الملابس الضيّقة، والموضات المتنوّعة، يُخرج المرأة على هيئة موجود مُهمَل، وغير مُنتِج، حيث تستهلك كامل وقتها للإبقاء على تجمُّلها ومظهرها. وإنّ استثناء الوجه والكفّين عن لزوم الستر، لأجل رفع الحرج، ومنح المرأة فرصة ممارسة النشاط العامّ، وعلى هذا الأساس نفسه لم يُلزم الإسلام بسترهما.
مشاركة المرأة في الفعاليـّات الاجتماعيـّة
قد أمسكنا - من خلال مجموع ما طرحناه - بمفهومين:
أحدهما: أنّ الإسلام اعتنى بشكلٍ كاملٍ بأهميّة وقيمة العفاف الرفيعة، وبضرورة شرعيّة العلاقة الجنسيّة بين الرجل والمرأة سواء كانت عن طريق النظر، أو الّلمس أو السمع، أو المضاجعة.
ولم يرض أنْ تُخدش قيمة العفاف وشرعيّة العلاقة الجنسيّة على الإطلاق، وتحت أيِّ شعار، وبأيِّ اسم وعنوان. أمّا عالَمنا المعاصِر فقد أغفل هذه القيمة الإنسانيّة الرفيعة، وفي نفس الوقت فهو لم يُرِد الاعتراف بهذا الواقع السلبيّ رغم أنّ آثاره تحيق به.
إنّ عالم اليوم أفسد نفوس الشباب بشدّة باسم حريّة المرأة وأكثر تحديداً باسم: حريّة العلاقات الجنسيّة. فبَدَلَ أنْ تُساهم هذه الحريّة في رشد الاستعدادات وتفتّحها فقد أخذت بتبديد الطاقات والاستعدادات الإنسانيّة بصورة أخرى تختلف عن الصورة القديمة لهذا التبديد. فقد خرجت المرأة من نطاق المنزل ولكن إلى أين ذهبت؟ إلى سواحل البحار، وإلى أرصفة الشوارع، وإلى قاعات الحفلات الساهرة! لقد هدّمت المرأة - اليوم، باسم الحريّة - الأُسرَة، دون أنْ تبني المدرسة أو تُعمِّر مكاناً آخر وإذا لم أُبالِغ فإنّها قد هدّمت المدرسة وغيرها أيضاً.
فعلى أثر التحلُّل وضياع الحدود الإنسانيّة، انخفض مستوى تعليم الشباب، وهجروا المدارس، وارتفعت نسبة الجرائم الجنسيّة، وقد ازداد الإقبال على دور السينما، وامتلأت جيوب ذوي مصانع أدوات
التجميل، وارتفع مقام الراقصين والراقصات على مقام العلماء والمفكّرين والمصلحين بمراتب.
وإذا أردت أنْ تعرف حقيقة هذا الأمر فقارن بين استقبال راقصة ترد البلاد وبين استقبال مُخْتَرِع كبير يرد إليها، وقارن بين ردِّ فعل الشباب في كلا الحالين 18.
المفهوم الثاني: رغم اهتمام الإسلام بخطورة تجاوز حدود العفاف - ومن الواضح أن هذه السنّة الإلهية الطاهرة، سنّة معتدلة ومتعادلة وبعيدة عن كلِّ إفراط وتفريط، وأمّتها الأمّة الوسط -، فهو لم يُغفل الجوانب الأخرى. فلم ينه النساء عن المشاركة في الفعاليّات الاجتماعيّة ضمن حدود المحافظة على النظافة الأخلاقيّة، وقد أوجب مشاركتهنّ في بعض الموارد، كالحجّ، حيث تتساوى المرأة والرجل في تعلُّق الوجوب بهما، ولا يحقّ للرجل أيضاً منعها. كما اكتفى في موارد أخرى بإعطاء الإذن والرخصة.
نحن نعرف أنّ الجهاد ليس واجباً على المرأة، إلّا حينما تقع بلاد
المسلمين مورداً للهجوم وتكون الحرب دفاعيّة خالصة، ففي هذه الحالة - كما يُفتي الفقهاء 19- يجب الجهاد على المرأة أيضاً.
لكنّه لا يجب في غير هذه الحالة. وقد أذن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم للنساء في المشاركة في الحروب عن طريق مساعدة ودعم المقاتلين والمجروحين، ولدينا قضايا كثيرة في تاريخ الإسلام، في هذا المجال 20.
لا تجب على النساء المشاركة في صلاة الجماعة إلّا إذا حضرن، فبعد حضورهنّ تجب عليهنّ المشاركة 21.
لا تجب على النساء المشاركة في صلاة العيدين، لكنّهنّ غير ممنوعات عن المشاركة. نعم يُكره للحسناوات من النساء المشاركة في مثل هذه المناسبات22.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يصطحب إحدى نسائه في سفره، ويختارها من بينهنّ بالقرعة، كما عمل بهذا المنهج بعض الصحابة23.
لقد أخذ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من النساء البيعة، دون أنْ يُصافحهنّ، فقد أمر بإناء فيه ماء، ووضع يده فيه، وأمر النساء بوضع أيديهن فيه، وعدّ ذلك مبايعة24.وقد قالت عائشة: إنّ النبيَّ لم تُلامس يده طول حياته يدَ امرأة أجنبيّة.
لم يمنع النساء عن المشاركة في تشييع الجنازة، رغم عدم وجوبها عليهنّ. وقد رجّح رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عدم مشاركة النساء في تشييع الجنازة،. ورغم ذلك فقد شاركنَ في بعض الموارد، وصلّينَ على الجنازة في موارد أخرى أيضاً.
وقد جاء في رواياتنا أنّ الزهراء حين وفاة زينب - البنت الكبرى لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم - قد أقامت مع جمع من نساء المسلمين الصلاة عليها 25.وقد ورد في روايات الشيعة أنّ مشاركة المرأة الشابّة في تشييع الجنازة عمل مكروه شرعاً. وقد نقل علماء أهل السنّة عن أمِّ عطيّة أنّ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أوصاها بعدم المشاركة في تشييع الجنازة، ولكنّه لم يمنع26.
رفعت أسماء بنت يزيد الأنصاريّ نيابةً عن نساء المدينة شكوى النساء إلى النبيِّ. روى عنها مسلم بن عبيد: أنّها أتت النبيَّ صلى الله عليه واله وسلم وهو بين أصحابه فقالت:بأبي وأمي أنت يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك. إنّ الله عزّ وجلّ بعثك إلى الرجال والنساء كافّة فآمنّا بك وإلهك، وإنّا معشر النساء محصورات قواعد بيوتكم ومقضى شهواتكم وحاملات أولادكم وإنّكم معشر الرجال فُضِّلتم علينا بالجُمَع والجماعات وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحجّ بعد الحجّ وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله عزَّ وجلّ وإنّ الرجل إذا خرج حاجّاً أو مُعتمِراً أو مُجاهِداً حفظنا
لكم أموالكم وغزلنا أثوابكم وربّينا لكم أولادكم، فنشارككم في هذا الأجر والخير.
فالتفت النبيُّ صلى الله عليه واله وسلم إلى أصحابه بوجهه كلّه، ثُمّ قال:هل سمعتم مقالة امرأة قطّ أحسن في مساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا: يا رسول الله ما ظننّا أنّ امرأة تهتدي إلى مثل هذا. فالتفت النبيُّ صلى الله عليه واله وسلم إليها فقال: "إفهمي أيّتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أنّ حُسن تبعّل المرأة لزوجها وطلبها مرضاته واتّباعها موافقته يعدل ذلك كلّه، فانصرفت المرأة وهي تُهلِّل"27.
لقد أذن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم للنساء في الخروج لقضاء الحاجة. وقد خرجت سودة بنت زمعة، زوجة النبيِّ صلى الله عليه واله وسلم من المنزل ليلاً بإذنه صلى الله عليه واله وسلم ، وكانت سودة امرأة طويلة القامة. ورغم ظلمة الليل شاهدها عمر بن الخطاب فعرفها، وقد كان عمر شديد التعصّب على خروج النساء وكان يُكرِّر توصية الرسول بمنعهنّ، وقال لها: ظننتِ أنّني لم أعرفك؟ كلّا عرفتك، عليك أنْ تتحفّظي في خروجك من المنزل في الآتية. وبعد أنْ رجعت سودة إلى الدار، أخبرت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بما حدث، وقد كان صلى الله عليه واله وسلم يتناول طعام العشاء، ولم يُطل الأمر حتى نزل الوحي، فقال صلى الله عليه واله وسلم :"إنّه قد أُذن لكنّ أنْ تخرُجنَ لحوائجكنّ".
نعم، هذا هو نهج الإسلام الوسط بين الإفراط والتفريط. وكما أشرنا، فالإسلام يُدرك تماماً أخطار الحريّة الجنسيّة الكاملة، ولذا بذل عناية خاصّة في تنظيم العلاقة بين الرجل والأجانب والنساء، فما
دام الأمر لم يبلغ درجة الحرج فهو يناصر عزل النساء عن الرجال.
ففي نفس الوقت الذي يُجيز فيه الإسلام مشاركة النساء في المساجد، يحكم بأنْ لا يكون ذلك سبباً لاختلاط النساء بالرجال، بل يعزل محلّ النساء عن الرجال.
يُنقل أنّ النبيَّ صلى الله عليه واله وسلم أيّام حياته المُبارَكة أشار إلى اتّخاذ باب خاصّ من المسجد للنساء وآخر للرجال. وأشار إلى أحد الأبواب وقال:"لو تركنا هذا الباب للنساء".
ويُنقل أيضاً أنّ النبيَّ صلى الله عليه واله وسلم أمر بخروج النساء بعد صلاة العشاء من المسجد قبل الرجال. فالنبيُّ صلى الله عليه واله وسلم لم يرغب أنْ يختلط الرجال والنساء حال خروجهم من المسجد، إذ هذا الاختلاط سبب من أسباب الإثارة.
ولأجل ذلك أيضاً أمر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنْ يسير الرجل وسط الطريق وتسير النساء على جانب الطريق28.
ولقد شاهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم النساء والرجال يخرجون معاً من المسجد فخاطب النساء بالصبر والتريّث حتى خروج الرجال، وأمرهنّ بالمشي على جانب الجادّة، على أنْ يمشي الرجال في وسطها29.
وبهذه المناسبة يُفتي الفقهاء بكراهة اختلاط الرجال بالنساء، فالسيّد الطباطبائي في "العروة الوثقى" المسألة 49، من الفصل الأوّل، يقول:
"يُكره اختلاط الرجال بالنساء إلّا للعجائز".
حقّاً إنّ الإنسان - إذا لم يكن شاذّاً - يُسلِّم بأنّ النهج الإسلاميّ هو طريق الاعتدال والتوازن. فرغم أنّ الإسلام بذل غاية جهده للحفاظ على سلامة العلاقات الجنسيّة ونظافتها، فهو لم يمنع أبداً من نمو استعدادات المرأة، بل لقد شرّع الإسلام منهجاً يؤدّي إلى الحفاظ على سلامة الأرواح كما يؤدّي إلى إحكام العلاقات الأُسَريّة وتوثيقها، ويؤدّي أيضاً إلى تهيئة البيئة والمحيط الاجتماعيّ لنشاطٍ سليم يُمارسه كلٌّ من الرجل والمرأة.
إنّ ما يُريده الإسلام ولو على مستوى التوصية الاخلاقيّة هو: الحيلولة ما أمكن دون اختلاط الجنسين. فمجتمعنا المُعاصِر يشهد بأمِّ عينيه الآثار السلبيّة للمجتمع المختلط. فما هي ضرورة أنْ تُمارِس المرأة فعاليّاتها الاجتماعيّة جنباً إلى جنب مع الرجال، وهل أنّ أداءهنّ لأعمالهنّ بشكلٍ مستقلٍّ ومنفصلٍ عن الرجال يؤدّي إلى هبوط مستوى هذه الأعمال؟!.
إنّ أثر الاختلاط هو الانشغال عن العمل، وذلك باهتمام كلٍّ منهما بالآخر، حيث ينتهي هذا الاختلاط غالباً إلى خلط وتكدير لصفو الأجواء.
لا للحبس، لا للاختلاط
إنَّ ما يدعو إليه الإسلام ليس هو ما يتّهمه به أعداؤه، يعني: حبس المرأة في الدار. وليس هو النظام الّذي يسود العالم المُعاصِر، والّذي تُرى نتائجه السلبيّة، يعني: اختلاط الجنسين.
إنّ احتجاز وحبس المرأة في المنزل، لون من العقاب الّذي شرّعه الإسلام تشريعاً مؤقّتاً:﴿وَاللاَتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾.
يقول المفسِّرون: المقصود من قوله تعالى: ﴿يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾أنّ هذا الحكم مؤقّت، وسينسخه حكم آخر، والآية الثانية من سورة النور الّتي حدّدت جزاء الزاني والزانية هي الحكم الآخر الّذي تُشير هذه الآية إليه.
على أيّة حال فالإسلام يُعارض الاختلاط، ولا يُعارض مشاركة المرأة في الحياة الاجتماعيّة مع التحفُّظ على الستر.
الإسلام يقول: لا للحبس، ولا للاختلاط، بل للحدّ. إنّ سيرة المسلمين العمليّة منذ زمن رسول الله قائمة على عدم منع النساء من المشاركة في الفعاليّات العامّة، ولكنْ مع رعاية "الحدّ". فلم تختلط النساء مع الرجال في المساجد والمحافِل العامّة، بل حتى في الأزقّة والمعابر.
إنّ مشاركة المرأة للرجل بشكل مختلط في بعض المناسبات، كما يحدث في المشاهد المشرّفة في أيّامنا - بحكم الزحام غير المألوف - أمر يتعارض مع رغبة الشارع المقدّس.
فتاوى الفقهاء في حدود الستر والنظر
قُلنا إنّ الأدلّة تُثبت عدم وجوب ستر الوجه والكفّين، كما أنّها تعضد الرأي القائل بجواز النظر دون لذّة وريبة.
نأتي الآن لنرى الفتاوى، فكلُّ شخص منّا يطمح ليطّلع على رأي علماء الإسلام بصدد هاتين المسألتين الهامّتين، منذ نشأة الفقه الإسلاميّ حتى اليوم.
ما هو رأي فقهاء الإسلام بصدد مسألة ستر الوجه والكفّين؟ ثُمّ ما هو رأيهم بجواز النظر؟
أمّا بالنسبة إلى عدم ستر الوجه والكفّين فالظاهر أنّه ليس هناك اختلاف بين علماء الإسلام حول هذه المسألة سواء السنّة أو الشيعة.. وشذّ عن هذا الاتفاق أحد علماء أهل السنّة وهو أبو بكر عبد الرحمن بن هشام، وخلافه لم يُحدّد هل أنّه حول لزوم ستر الوجه أثناء الصلاة أو لزومه بالنسبة إلى غير المحارم؟.
ليس هناك أيّ خلاف حول الوجه، إنّما اختلف بعض العلماء حول ستر اليد إلى المرفق أو حول ستر القدم إلى الساق، وهل إنّ هذه الموارد من الموارد المستثناة أم لا؟.
ولعلّ هذه المسألة من بين المسائل النادرة، الّتي اتّفق حولها علماء الإسلام السنّة والشيعة هذا الاتّفاق. وقبل نقل الأقوال ينبغي طرح مسألتين:
الأولى: إنّ الفقهاء يتناولون مسألة الحجاب في بابين من أبواب
الفقه، أحدهما باب الصلاة، لوجوب ستر المرأة تمام بدنها أثناء الصلاة سواء كان هناك محرم أم لم يكن. وهنا يُطرح الاستفهام
التالي:هل يلزم ستر الوجه والكفّين مع سائر أجزاء البدن في الصلاة أم لا؟
والآخر باب النكاح، بمناسبة بحث الحدود الّتي يجوز فيها للخاطِب أنْ ينظر إلى خطيبته. وهنا يُطرح عادةً بحث عام حول الحجاب أو حول جواز وعدم جواز النظر.
على هذا يُصبح لدينا نوعان من "الستر":الستر الصلاتيّ، يعني الستر الّذي يلزم التوفّر عليه أثناء الصلاة، ولهذا الستر شروط، كالطهارة، والإباحة.
والستر غير الصلاتيّ، الّذي يجب مراعاته أمام الرجال والأجانب، وليس لهذا الستر شروط الستر الصلاتيّ.
وسنُشير إلى أنّه لا يظهر لنا أنّ هناك تفاوتاً في وجهات النظر لدى الفقهاء بين الستر الصلاتيّ وغير الصلاتيّ من ناحية حدودهما ومقدارهما.
الثانية: للفقهاء تعبير بصدد جسد المرأة، حيث يقولون: إنّ المرأة كلّها عورة. ولعلّ هذا التعبير يبدو - لدى بعضهم - غير مناسب. باعتبار أنّ العورة أمر قبيح ومُستقبَح. فهل أنّ بدن المرأة كالوجه والعورتين أمر قبيح؟.
الجواب: إنّ كلمة "عورة" لا تعني القبيح. ولذا لا يُقال لكلِّ
أمرٍ قبيح "عورة"، وتُستعمل كلمة "عورة" في موارد ليس فيها أيّ مدلول على القبح. مثلاً: يقول القرآن الكريم في سرد قصّة الأحزاب حينما يستعرض معاذير بعض ضعاف الإيمان: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَ فِرَاراً﴾30 .
فكلمة "عورة" هنا جاءت في وصف المنزل بأنّه معرّض للهجوم والاعتداء، وبديهيّ أنّ هذا الوصف لا يتضمّن أيّ معنى للقبح. وجاء استخدام "العورة" في الآية (58) من سورة النور الّتي تقدّم تفسيرها، وقد أُطلقت على أوقات الخلوة الثلاث: قبل صلاة الصبح، ومنتصف النهار، وبعد العشاء. والإطلاق هنا جاء باعتبار أنّ الناس عادةً يكشفون عن سترهم داخل غرفهم الخاصّة.
صاحب "مجمع البيان في تفسير القرآن" الّذي يُمكن عدّه من بين المفسِّرين القلائل الذين اهتمّوا بتحليل المداليل الّلغوية للألفاظ يقول في خاتمة تفسير الآية (13) من سورة الأحزابوالعورة كلّ شيء يُتخوّف منه في ثغر أو حرب. ومكان معور، ودار معورة إذا لم تكن حريزة).
إذن، فالتعبير الفقهيّ لا يتضمّن أيّ لون من ألوان الإهانة. وإنّما يُقال للمرأة "عورة" نظير قولنا للدار عورة فهي مكشوفة ومعرّضة ولا بدّ من سترها بحجاب.
نأتي الآن لنقل أقوال الفقهاء، يقول العلّامة في كتاب الصلاة من التذكرة:"عورة المرأة جميع بدنها إلّا الوجه بإجماع علماء الأمصار عدا أبا بكر بن عبد الرحمن بن هشام فإنّه قال كلّ شيء من المرأة عورة حتى ظفرها وهو مدفوع بالإجماع، وأما الكفّان فكالوجه عند علمائنا أجمع، وبه قال مالك والشافعيّ والأوزاعيّ وأبو ثور، لأنّ ابن عبّاس قال في قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ قال: الوجه والكفّين.. وقال أحمد وداود: الكفّان من العورة، لقوله تعالى:﴿إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، والظاهر منها الوجه. ويبطل بقول ابن عبّاس"31.
ثم يُتمّ العلّامة حديثه حول القدمين، وهل يلزم سترهما أم لا؟
يتّضح من خلال الملاحظة أنّ فقهاء الإسلام يستندون في موضوع الستر الصلاتيّ إلى آية سورة النور، الّتي لا ترتبط بموضوع الصلاة، إذ ما يلزم ستره في الصلاة هو عين ما يلزم ستره أمام الرجل الأجنبيّ. وإذا كان هناك بحث فلعلّه ينصبّ على الاستفهام التالي: هل يلزم في الصلاة ستر أكثر مما يلزم ستره مقابل الأجنبيّ أم لا؟ أما ما يلزم ستره في الصلاة فلا جدال في عدم لزوم ستره أمام الأجنبيّ.
وقد جاء في بداية المجتهد لابن رشد الحفيد ما يلي:"حدّ العورة في المرأة، فأكثر العلماء على أنّ بدنها كلّه عورة ما
خلا الوجه والكفّين، وذهب أبو حنيفة إلى أنّ قدمها ليست بعورة، وذهب أبو بكر عبد الرحمن وأحمد إلى أنّ المرأة كلّها عورة"32.
يقول الشيخ محمد جواد مغنيّة:"اتّفقوا على أنّه يجب على كلٍّ من المرأة والرجل أنْ يستر من بدنه في حال الصلاة ما وجب عليه ستره عن الأجانب خارج الصلاة. واختلفوا فيما زاد على ذلك. أي هل يجب أيضاً أنْ تستر المرأة الوجه والكفّين أو شيئاً منهما حال الصلاة، مع أنّه لا يجب ذلك عليها في خارجها؟ وهل على الرجل أنْ يستر ما زاد عمّا بين السرّة والركبة حين الصلاة، مع أن ذلك غير واجب إذا لم يكن في الصلاة؟
إنّ نقل أقوال العلماء في هذا المجال يستدعي وقتاً طويلاً، والسابقون من العلماء تناولوا هذا البحث بالطريقة الّتي عرضناها. فقد تعرّض الفقهاء - بشكلٍ عامّ - إلى مسألة الستر في باب الصلاة من الفقه، وتناولوا مسألة النظر في باب النكاح من الفقه. والغريب أنّ بعض كبار الفقهاء المعاصرين ذهب إلى أنّ العلّامة الحلّيّ يرى وجوب ستر الوجه كما في كتابه "التذكرة" وهذا خطأ.
فالعلّامة يختلف مع سائر الفقهاء في مسألة "النظر" كما سنُشير، لا في مسألة الستر والحجاب.أمّا مسألة جواز النظر وعدمه، فيقول العلّامة في كتاب النكاح من
"تذكرة الفقهاء" ما يلي 33:"النظر إمّا أنْ يكون لحاجة أو لا، الأوّل: أنْ لا يكون لحاجة، فلا يجوز النظر إلى الأجنبيّة الّتي لا يُريد نكاحها فيما عدا الوجه والكفّين، فأما الوجه والكفّان فإنْ خاف الفتنة حرم أيضاً لقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾، وإنْ لم يخف الفتنة قال الشيخ: إنّه يُكره وليس بمحرّم لقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ وهو مفسَّر بالوجه والكفّين وهو قول أكثر الشافعيّة، ولهم قول آخر إنّه يحرم... وهو الأقوى عندي".
يقول المحقّق الحلّي في كتاب الشرائع:"ولا ينظر الرجل إلى الأجنبيّة أصلاً إلّا لضرورة، ويجوز أنْ ينظر إلى وجهها وكفّيها على كراهية فيه مرّةً، ولا يجوز معاودة النظر".
وقد اختار الشهيد في اللّمعة هذا الرأي كما اختاره العلّامة في بعض كتبه. إذن، هناك ثلاثة أقوال في مسألة "النظر":
أ - المنع المطلق، اختاره العلّامة في التذكرة وقليل من الفقهاء، منهم صاحب الجواهر.
ب - جواز النظر الأوّل ومنع تكراره. وتابع هذا القول المحقّق في الشرائع، والشهيد الأوّل في اللمعة، والعلّامة في بعض كتبه.
ج - الجواز، وهو ما أيّده الشيخ الطوسيّ، الكلينيّ، صاحب الحدائق، الشيخ الأنصاريّ، النراقي في المستند، والشهيد الثاني في المسالك. لقد ناصر الشهيد الثاني هذا القول، ونقض أدلّة الشافعيّة، الّتي مال إليها العلّامة. لكنّه يُشير آخر البحث إلى أنّ القول بالمنع المطلق هو الموافق للاحتياط وسلامة الدين.
ذكرنا حتى الآن آراء قدماء علماء الإسلام بصدد مسألة الستر والنظر. أمّا العلماء المتأخِّرون، فيقول المرحوم آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائيّ اليزديّ في العروة الوثقى حينما يتعرّض لمسألة الستر في غير الصلاة ما يلي: "يجب ستر المرأة تمام بدنها عمّن عدا الزوج والمحارم، إلاّ الوجه والكفّين"34.
ويقول في مسألة النظر:"لا يجوز النظر إلى الأجنبيّة، ولا للمرأة النظر إلى الأجنبيّ من غير ضرورة. واستثنى جماعة الوجه والكفّين فقالوا بالجواز فيهما مع عدم الريبة والتلذّذ، وقيل بالجواز فيهما مرّةً ولا يجوز تكرار النظر، والأحوط المنع مطلقاً"35.
امتنع الفقهاء المتأخّرون والمعاصرون - في الأغلب - عن إبداء رأيهم صراحةً في رسائلهم العمليّة بصدد هاتين المسألتين. وسلكوا عادةً سبيل الاحتياط.
غير أنّ للمرحوم آية الله الحكيم رأياً صريحاً في رسالته منهاج الصالحين، فقد استثنى بصراحة الوجه والكفّين، وقال:"يجوز للرجل النظر إلى من يريد التزويج بها، وكذا إلى نساء أهل الذمّة، وكذا المتبذلات اللاتي لا ينتهين إذا نُهين عن التكشّف، وإلى المحارم اللاتي يحرم نكاحهن مؤبّداً لنسب أو سبب أو رضاع، بشرط عدم التلذُّذ في المجتمع، ويحرم النظر إلى غيرهنّ عدا الوجه والكفّين بغير تلذّذ أيضاً"36.
يتبع