" دعامة الإنسان العقل ـ و بالعقل يكمل و هو دليله و مبصره و مفتاح أمره " الامام الصادق ( عليه السلام )
الإنسانية الكاملة
فضائل الملكات أوساط ؛ ورذائلها أطراف وانحرافات . هكذا يقول ( ارسطو) وهكذا تقول مثالية الشرع المقدس والخلقيون من فلاسفة الإسلام .
والفلاسفة من المحدثين يأخذون على هذه النظرية أمورا ويوجهون إليها نقوداً أهمها ما يلي :
النقد الأول : إن معرفة الأوسط الحقيقية تحتاج إلى مقياس عام تقاس به الملكات والقوى وتعرف به نسبة الأوسط إلى الأطراف على أن يكون هذا المقياس مضبوطاً يستحيل عليه أن يتخلف وان ينتقض ؛ ولا يوجد عندنا مثل هذا المقياس العام . وجوابه : إن المقياس العام الذي تعرف به النسبة هي الأنظمة العامة التي يقررها العقلاء فيما بينهم والتي تفرهم عليها الشريعة الإِلهية المعصومة ؛ أما الذين لا يعترفون بالشريعة ولا يذعنون لقوانينها؛ فالمقاييس عندهم تختلف باختلاف التقاليد والعادات وهذا أحد الجهالات التي تشهد باحتياج الناس إلى الدين .
النقد الثاني : إن من الأخلاق ما يسميه العقل فضيلة وبعد السلوك فيه سلوكاً متوازناً وهو ليس من الأوسط كالصدق فإن ضده هو الكذب وليس له طرف آخر؛ وكالعدل فإنه يقابل الظلم فقط والأشياء لا تكون أوساطاً إلا إذا كان لها طرفان تنسب إليهما .
وجوابه : إننا نريد من الأوسط ما يقابل الإفراط في القوى أو التفريط فيها ولذلك فإن فروع القوة المعتدلة تعد من الفضائل وان كانت أطرافاً وفروع القوة المنحرفة تحسب من الرذائل وان كانت أوساطاً ؛ وملكة الصدق فرع من العفة أو من الشجاعة وهما قوتان معتدلتان .
أما العدل فقد نعني به ضبط قوة العمل ووضعها تحت أرشاد العقل ، وقوة العدل هذه ليست ملكة خاصة إلا إنها تعم جميع الملكات النفسية المعتدلة والظلم الذي يقابلها هو إرخاء العنان لقوة العمل في كل ما تريد وهو يعم كل ملكة منحرفة . إذن فهو معنى عام شامل وليس ملكة معينة لتقاس إليها ملكات العدل .
وقد نعني بالعدل الأنصاف وإعطاء الحقوق لألها كاملة غير منقوصة وهو بمعناه هذا فرع من فروع العفة أو الشجاعة ويقابله من جانب الإفراط ؛ التعدي على حقوق الناس وفي جانب التفريط ؛ إهمال الحقوق المحترمة للنفس . ويحاول الأستاذ محمد أحمد جاد المولى أن يجعل الصدق وسطا بين الكذب والمبالغة وهو تكلف في الجواب لأن المبالغة نوع من الكذب .
النقد الثالث : إن الفضائل الخلقية في الأكثر لا تكون أوساطاً لأن الوسط الحقيقي هو المنتصف والفضائل الخلقية منها ما يقرب من الإفراط فإن فضيلة الكرم قريبة من السرف وفضيلة الشجاعة قريبة من التهور, ومن الفضائل ما يقرب من التفريط كالحلم والتواضع فإنها قريبان من الجبن وإضاعة الحقوق .
وجوابه : إن الوسط ليس نقطة معينة بنسب بعدها إلى الطرفين على السواء لنحكم عليه بأنه المنتصف ، ولذلك فإنا نحكم على الفضائل بالشدة والضعف؛ والضعيف منها نعده فضيلة وان كان ضعيفاً لأنه معتدل؛ ونتيجة هذا ان الكرم إذا نسبنا أرقى مراتبه إلى الإسراف والتبذير ثم نسبتا أدنى مراتبه إلى البخل لم نجد أحد البعدين أكثر من الآخر ومثله الشجاعة إذا أضفناها إلى الجبن والتهور .
النقد الرابع : إذا كان الميزان في عدّ الخلق فضيلة هو التوسط ، وجب ان يكون التوسط في الفضيلة أسمى منزلة عند علماء الأخلاق من الترقي فيها ، لأن التوسط فيها أقرب إلى الاعتدال الصحيح وأبعد من طرق الانحراف وهذه النتيجة لا يرتضيها علماء الأخلاق .
وجوابه : إن الوسط مجموعة نقاط معينة ننسبها إلى الطرفين بنسبة واحدة ومعنى هذا أن جميع هذه النقاط توسط في القوة واعتدال فيها ويكون ارتفاع النفس في هذه المراتب رقياً في درجات الكمال .
وقد تبسطنا في التحدث عن هذه النظرية لأنها قد أخذت دوراً مهما من الجرح والتعديل عند الخلقيين ولأنها هي النظرية السديدة التي يحكم بها العقل ويقرها الشرع .
والإمام الصادق ( عليه السلام ) يذكرها فيقول : ( و أعلم أن لكل شيء حداً . فإن جاوزه كان سرفاً ، وان قصر عنه كان عجزاً) .
الاعتدال في قوة الغضب شجاعة والتطرف فيها جبن أو تهور ، والتوازن في قوة الشهوة عفة ، والانحراف فيها شراهة أو خمود ، ولكل من هذه الملكات فروع كثيرة .
وليس الحكم بالانحراف والاستقامة مختصاً بالشهوة والغضب بل هو حكم عام لجميع القوى ونظام شامل لجميع الأشياء على ما يقوله الحديث المتقدم وإذا كان للإنسان جهة تميزه فلأنه الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يرسم لنفسه طريق التوازن ، وأن يصل بعمله إلى السعادة والخير الأعلى .
والعقل نفسه أحد الخاضعين لهذا الحكم ، فإنه أطوع من يذعن للحق, وأساس من ينقاد للنظام العادل .
فقد تخف بالعقل كفة التوازن فيكون حمقاً ، وقد يتجاوز الاستقامة فيكون خداعاً أو حكمة باطلة وكلا الطرفين شذوذ عقل ورذيلة خلقية وقد يتوازن ويكون حكمة ودليلاً على الخير والهدى .
ويقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) في صفة العقل المستقيم ، هو ( ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان ) ويقول أيضاً ( العقل دليل الأمن ) أما الحكمة الباطلة فإنه يسميها بالشيطنة النكراء حين يسأله بعض أصحابه عن عقل معاوية فيقول ( عليه السلام ) : ( تلك النكراء تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وان الحكمة الباطلة شيطنة نكراء ، لأنها خداع يشبه الحكمة ، وباطل يشبه الحق ، وهي نكراء لأنها تعاند الفضيلة المحبوبة ) .
ثم هو يقول في الرذيلة الثانية : ( ما خلق الله شيئاً أبغض إليه من الأحمق لأنه سلبه أحب الأشياء إليه وهو العقل ) .
ويقول أيضاً : ( لا يفلح من لا يعقل ) .
أما قوة العمل فهي الخاضع الأول لإرشاد العقل وباستقامتها يحصل التوازن العام لجميع الملكات لأنا قد علمنا أن إيجاد الأعمال من مختصات هذه القوة ، وليس في استطاعة القوى الأخرى أن تصل إلى غايتها إذا لم تعنها قوة العمل .
فإذا خضعت هذه القوة لحكم العقل واتبعت رشده وهداه كانت أرفع من أن يؤثر فيها خداع الوهم ، أو تغمرها صولة الغضب ، أو تأسرها لذاذة الشهوة لأن الذي يتبع العقل لا يحفل بالأوهام والأحلام .
ستندحر أمامها قوة الغضب, وسلطان الشهوة ويستمر الاندحار عليهما في كل معركة ، ويتصل الإنحزام في كل نضال وسيخضعان راغمين لحكومة العقل ، ويذعنان لقوة العدل . فالتوازن في جميع ملكات النفس نتيجة للتوازن العادل في قوة العمل ، والانحراف في تلك نتيجة التطرف في هذه وليس لقوة العمل ملكة خليفة خاصة تنفرد بها ، إلا أن الأخلاق الفرعية لجميع القوى إنما تتكون بمعونتها, وإرادة الإنسان هي المحرك لهذه القوة فإن من الأعمال ما يصدره الإنسان مقسوراً عليه كالتنفس وضربات القلب ، ومن الأعمال ما يصدره باختياره ، وقد علمنا أن هذا الأخير هو العمل الذي نحكم عليه بالخير أو الشر ، وهو السلوك الذي يعتبره الخلقي أثراً للصفات النفسانية ، وهو العمل الذي تتكون العادة بتكراره ويتكون الخلق باعتياده .
ولسنا بصدد بيان عناصر الإرادة في الإنسان ، فإن لها بحثاً نفيساً خاصاً بها ، ولا يهمنا أيضاً أن نتعرض للبحث في كون الإرادة حرة أو مسخرة فإن له موضعاً آخر . وقد اثبت فريق من الفلاسفة وعلماء الكلام لإرادة الإنسان الحرية الكاملة في العمل ، ونفى حريتها جماعة آخرون منهم ، والإمام الصادق ( عليه السلام ) ممن يعتدل في ذلك فيقول : ( لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ) .
أما هؤلاء الذين يقولون : ان الإنسان مجبور في كل ما يعمل وان إرادته مسخرة لما ينفذه القضاء فإنهم ينكرون محسوساً ويجحدون واضحا ويكفي لا بطال هذا الرأي أنه يلغي فائدة علم الأخلاق ويبطل بشريعة القوانين للحد من الجرائم وفرض العقوبات على المجرمين .
إرادة الإنسان هي المحرك الأول لقوة العمل, وبقوة هذه الإرادة تكافح الغرائز الشاذة وتصطدم الميول المتطرفة ، وبقوة الإرادة تبتدئ الفضيلة ، ويتم التوازن . وقد سمعنا قول الإمام صادق ( عليه السلام ) : ( ما ضعف بدن عما قويت عليه النية ) .
الإرادة عزيمة في الإنسان يوجد بها ما يروم ويدفع بها ما يكره لها بسائر القوى الإنسانية أسوة فهي تتصف بالقوة والضعف ، وقوى الإرادة . هو الإنسان العظيم الذي يأتي بالعجاب ، ويفعل ما يشبه المعجزات ، إِذا أحسن توجيه إرادته إلى أعمال الخير ومحاسن الصفات ، أما إذا توجه بها إلى أعمال الشرِّ فانه يجر على نفسه نقصاً آخر لا يقل خطراً عن ضعف الإرادة . والعلماء النفسانيون يذكرون لتقوية الإرادة شروطاً ويدرجونها في عدد من النصائح :
1 ـ عين هدفك الأول قبل أن تبدأ بالعمل ثم لا تتردد بعد ذلك فإن التردد يضعف الإرادة .
2 ـ لا تضع وقتك في إيجاد أعمال قليلة النفع ، أو ما تكون نتيجته ذهاب الوقت فقط فإن الوقت ـ كما يقولون ـ من ذهب .
3 ـ ثق بأنك قادر على الوصول إلى ما تريد , فإن الثقة بالنفس تخفف عنك جهد العمل وتقطع لك نصف المسافة .
4 ـ ثابر على العمل وأتقنه وان كان شاقاً فإن الفوز نتيجة المثابرة والإتقان .
5 ـ عاود العمل بنشاط أكثر إذا أخفقت في عملك . فإن الصعب يسهل ، و الفقدة تحل .
6 ـ إجعل نصيباً من منهاجك اليومي للعمل فإن النفس يجهدها العمل المتواصل .
هكذا تنمو الإرادة وتسمو ، والرجل العظيم وليد إرادته وأعماله . كمال قوة العقل هي الحكمة النظرية والعلمية بأرقى مراتبها سلوكها على النظام العقلي الرشيد ، وقد يصل الإنسان في هاتين القوتين إلى حد كمالهما فيسميه الخلقيون بالإنسان الكامل ويصفون إنسانيته بالإنسانية الكاملة ، والإمام الصادق ( عليه السلام ) في عداد من يصفه بهذا الوصف فهو يقول : " دعامة الإنسان العقل ـ وبالعقل يكمل " .
ولنستمع إلى بقية هذا الحديث فإن الإمام يوضح فيه معنى الإنسانية الكاملة عنده فهو يقول : " فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالماً ، حافظاً ، ذاكراً ، فطنا ، فهما ، فعلم بذلك كيف ، ولم وحيث ، وعرف من نصحه ، ومن غشه ، فإذا عرف ذلك عرف مجراه ومحصوله ومفصولة ، واخلص الوحدانية والإقرار بالطاعة " ، هذا هو حد الكمال في قوة العقل ، وهذه هي الحكمة التي يقول الفلاسفة في معناها : " هي معرفة حقائق الموجودات " وأعلى مراتبها هو اليقين الذي يعرف فيه الإنسان مجراه وموصولة ومفصولة ، والذي يكون أثره الإخلاص في الوحدانية والإقرار بالطاعة والذي قال فيه في كلمة سابقة ( اليقين يوصل العبد إلى كل حال سني ومقام عجيب ) .
أما الكمال في قوة العمل فقد أتم الإمام به حديثه المتقدم فقال : ( فإذا فعل ذلك كان مستدركاً لما فات و واردا على ما هو آت ) .
يقول الخلقيون القدماء للعقل جهتان جهة نظرية . وجهة عملية فإذا حصلت له الاستقامة واستقل بالحكومة على القوى أنتج من جهته الأولى حسن الفكر وجودة الذكر ، وأثمر من ناحيته الثانية الفطنة وحسن الرأي ، واجتماع هذه الثمرات ينتج له حسن الفهم وجودة الحفظ . وترى الإمام الصادق ( عليه السلام ) يتدرج مع هذا الإصلاح ويقرر هذه النتائج في حديثه المتقدم 1 .
1. كتاب : الأخلاق عند الإمام الصادق ( عليه السلام ) لآية الله العظمى الشيخ محمد أمين زين الدين .