التعريف اللغوي الحقيقي لكلمة (الأمي)
كلمة (الأمِّي): مصدرها (أمَّ)، ومنها الأم الوالدة، التي يؤم إليها ولدها باحتياجاته، ومنها (الإمام) الذي يأتمُّ به المصلّون، أو رئيس القوم، يعودون إليه في أمورهم، أو الخليفة، أو قائد الجند، أو دليل المسافرين: وكلها تعني (المرجع) الذي يُؤمُّ إليه بالمقصد المشترك. والتيمُّم: التوجُّهُ للتراب الطهور عند فقدان الماء، أو ضرره على المتوضئ المريض.
فالأمِّي: لغةً نسبة إلى الأم أو الأمَّة، فأمَّ يؤم أمّاً وتأمم. وائتمّه: قصده، وأمَّ القوم إمامة، وإماماً بالقوم: تقدمهم بمقصدهم فكان إمامهم.
اليهود قالوا: {...لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ...} سورة آل عمران (75).
فقولهم هذا معناه: ليس علينا في العرب الذين أمُّوا لمحمد فتبعوه أيَّة مؤاخذة، وما علينا بأس، أي: افعلوا بهم ما يحلو لكم من سلب وفحش فهو حلال عليكم يا يهود، لأنهم عرب أمُّوا لمحمد، وما أمُّوا لعلمائنا وأحبارنا، وبتعريف المفسرين لكلمة (الأمِّي) جعلوا العرب كلهم ومنهم أهل مكة والمدينة والطائف لا يقرؤون ولا يكتبون!كيف كان كتبة الوحي والخلفاء يكتبون؟! حقّاً لقد ضيَّقوا واسعاً.
إذن (الأمي)، أي: مَن تؤمُّ له الخلائق كلُّها، وبهذه التبعية العليَّة لإماميته الكبرى، تتم الشفاعة فالجنَّة.
فعلى كافة الوجوه (الأميين): تعني الذين أمُّوا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أي تبعوه، حيث يمتدحهم تعالى بهذه الصفات بقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...} سورة الجمعة (2).
فما أمكر الشخص الأول الذي خرق هذا القول ودسّه فانطلى على عقول الناس فظنوا خطلاً أن (الأمِّي) هو الذي لا يقرأ ولا يكتب!
حقّاً إنه لدسٌ رهيب فما علاقة أمَّ يؤم بالقراءة والكتابة؟! أي بــ: يقرأ ويكتب، أوْ لا يقرأ ولا يكتب، ومن أين خرقوا هذا المعنى البعيد؟ واللغة العربية أبداً لا تحتمل هذا التعسُّف اللغوي.
كلمة (أمَّ) أي: تبع غيره، فأمُّوا مع الإمام، أي تبعوا الإمام في الحركات والسكنات والتسليم بالصلاة.
و(أمَّ الكعبة) أي: ذهب تجاهها وإليها، وليس معناها قرأ الكعبة أو كتب الكعبة، فهي ليست من القراءة والكتابة بشيء.
والإمام هو الشخص المتعلم والقارئ المجيد للقراءة، وعادة يكون أقرأهم وأفقههم، فما وجه العلاقة هنا بأن الإمام هو أمِّي، بمعنى أن الإمام هو الذي لا يقرأ ولا يكتب؟
هل هناك بمساجد الأرض إماماً لا يقرأ بصلاته حتى حمَّلوا المعنى من عدم القراءة ما لا يحتمل، وحتى أشاعوها للناس بمعناهم الأعوج فتبعهم الناس تصديقاً؟ فهل نرضى أن نكون مثل من يقلِّد ولا يفكِّر؟!
بـل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي...} سورة يوسف (108).
ثم هل الأُمّْ هي التي لا تكتب ولا تقرأ، أم أنها التي يؤمُّ إليها طفلها بكل طلباته وحاجاته؟!
والأميُّون في الصلاة هم الذين يؤمون للإمام بالاتباع، فإن رفع يديه وكبَّر تبعوه ورفعوا أيديهم وكبَّروا، وإن ركع ركعوا بعده وسجدوا بعده، ولا وجود لمعنى (الأميِّين) أبداً بعدم الكتابة والقراءة، فاليوم كافة الأمهات والمصلين تقريباً يقرؤون ويكتبون، وهذا ينسف معناهم المختلق كليّاً بأن معنى الأميين أي الذين لا يقرؤون ولا يكتبون، لكنه التقليد الأعمى جعل الناس ينقلون هذا المعنى الخطأ، والذي لا أصل له أبداً.
كلمة لا يكتب ولا يقرأ وردت في آيةٍ ثانية لا علاقة لها بالأمي وهي: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} سورة العنكبوت (48).
وهذه الآية تبيِّن أنه صلى الله عليه و آله و سلم لا يقرأ ولا يكتب، ولا علاقة لها بكلمة (أمِّي) أبداً.
كلمة: (أمِّي) المتعلقة بنبينا صلى الله عليه و آله و سلم تعني فقط من تؤم إليه كافة الرسل والنبيين والمؤمنين بالعالَمين.
تساؤل مستمر في كل زمان
ليتساءل الناس في كل زمان، كما تساءلت قريش قديماً ومن عاصرها من الأقوام والقبائل، من أين جاء هذا الرجل العظيم والسيد الكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاء به من بليغ القول، ورفيع الدلالة، وسامي الأخلاق، وعالي الشمائل والصفات؟! يفوق بشجاعته الصناديد والأبطال، ويبذ برأيه الثاقب وحسن تدبُّره الأمور أعظم الساسة وأكبر الحكماء، ويبدو في علمه كأنه البحر الزاخر، لا يقف عند حد وليس له انتهاء، ويسمو بحلمه ورفقه ولطيف معاملته فوق كل ذي مكانة ومقام، فليس يستطيع أن يدانيهِ بشر، ولا أن يدرك سموه وكماله إنسان.
رجل نشأ بأرض مقفرة، لا أثر فيها لمعهد من معاهد العلم، وفي جوٍ لا مدارس فيه ولا علماء، فيفوق في علمه كل عالم! ويسمو بخلقه العالي على كل ذي خلق فاضل، ويقارع بالحجة الدامغة كل معارض ومعاند، فتتحطم أمام حججه كل مناقشة لها صلة بباطل وتزهق المعارضة، وينبلج الحق ويلمع كالصبح السافر، والكوكب الساطع في الظلام المدلهم الحالك، فمن الذي بث في نفسه ما بث من سمو؟ ومن أين له ذلك المقام، وتلك العلوم والأحكام؟
ولم يتعلم بالجامعات، وما ارتاد المعاهد!! وأيمُ الحق تلك هي العظَمةُ بقوله تعالى: {...وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ...} سورة البقرة (282).
فكم وكم تعلَّم علوماً ملأت أطباق السموات والأرض، وحوت كافة المكرمات، تعلمها صلى الله عليه و أله وسلم من حضرة الله! وحتى لم يقسم ربُّ العزَّة قسَماً بسواه!
"فمن وجد الله وجد كل شيء، ومن فاته فاته كل شيء". وكفى بالله معلِّماً لرسوله، فهو صلى الله عليه و آله وسلم يؤم بنا بالصلاة لربنا وإلى الجنات.
الدستور الإلهي
وهذا القرآن الكريم "الدستور الإلهي" موجود بين أيدي العالم أجمع، علماء وفلاسفة، جهابذة وفقهاء، وفطاحل أذكياء، حملة شهادات عليا بمختلف الدراسات، هل صنع أحدٌ به ما صنع سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم؟ وخرَّج أبطالاً عظماء كأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب عليه السلام، وخالد بن الوليد، وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين؟!
فالأجدر بالإنسان أن يسير بالحكمة لكي يفقه ما يقول، ثم إن الآيات تشير إلى ذلك المعنى السامي العظيم (للأمي): الذي تؤم له الخلائق البشرية كلها.
ففي سورة الأعراف (157)، هذا الرسول {...النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ...}: عند اليهود والنصارى، هل على زعمهم كان مكتوباً في التوراة والإنجيل الشخص الذي لا يقرأ ولا يكتب تخفيضاً لشأنه؟!
أليس ذلك دلالة لهم لاتباعه والائتمام به عند ظهوره؟! ثم إن الله تعالى يخاطب بني إسرائيل على لسان رسوله موسى عليه السلام بالآية: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ...} سورة الأعراف (156-157).
فهل سيدنا موسى عليه السلام يدعو قومه "اليهود" للإيمان بالله، وأن يؤموا إلى رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم: "الأمِّي" عند ظهوره لأنه على ذاك الزعم، لا يقرأ ولا يكتب!
هل كان النبي الكريم يجيد الكتابة والقراءة؟
ولعل سائلاً يقول: إن الآية (5) من سورة الفرقان: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}، فيها إشارة إلى اتهام قريش للرسول صلى الله عليه و آله و سلم بكتابته القرآن، وكأن هذه الآية دليل على أن رسول الله كان يجيد الكتابة وبالتالي القراءة: فكما ذكرنا القرآن بالترابط يُفهم، فالآية (4) من سورة الفرقان تقول: لما جاء رسول الله وأنذر الناس: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ...}: افتراه على الله. {...وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}: أصحابه. {فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا}: لأنفسهم. {وَزُورًا}: كذباً، فماذا قالوا كذباً ومناجزة وقالوا: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا}: جعل أصحابه يكتبونها له. {...فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}: تتلى عليه ومن ثم يسردها صباحاً ومساءً على أصحابه وعلى الناس.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أمَره تعالى أن يفاتحهم بما قالوا في سرِّهم ما بين بعضهم، وكشف لهم أحوالهم.
فكلمة: {اكْتَتَبَهَا} تعني: كتبها له أصحابه وليس هو الكاتب، أي ليست كلمة: (كتبها) بذاته. فاكتتبها تعني كتبها له غيره، وهي غير كلمة: (كتبها) التي تعني كتبها بيده، والآية أتت: {اكْتَتَبَهَا} فلا خلاف.
وهذه الآية شرح للآيات (47-49) من سورة العنكبوت: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ، وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}، والتي تنسف ادِّعاءهم وارتيابهم، وتثبت أن كلام رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم هو كلام الله وليس كلام بشَر.
لا من علوم الشرق ولا الغرب، ولا يستطيع بشر الإتيان بمثلها ليكون هناك اكتتاب لها، بل القرآن قول رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم عن حضرة الله، معجزة الله للعالَمين، وفيه خيرهم أبد الآبدين.
وصدق الله العظيم...
وصدق رسوله الكريم...
ونحن على ذلكم من الشاهدين...
والحمد لله رب العالمين