الشيخ عبد العزيز البدري رحمه الله
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
" أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ "
الشيخ عبدالعزيز البدري من أوائل الدعاة في العراق الذين قاوموا استبداد السلطات الحاكمة، ويعد أول داعية تم إعدامه في ظل حكم النظام الأسبق، خوفاً من قوة تأثيره في الناس.. ولم يعرف الخوف طريقه إلى نفسه أبداً، فواجه بإيمانه وصبره وشجاعته بطش السلطات؛ فكان يترجل على المنابر وينتقل بين المدن، مبيناً ظلم النظام ومخالفته لأحكام الشريعة الإسلامية.
ينتمي الشيخ البدري إلى عشيرة السامرائي، وقد ولد عام 1929م في مدينة بغداد وكان شغوفاً بالعلم والتعلم، وتتلمذ على يد كبار مشايخ وعلماء العراق أمثال الشيخ الفقيه أمجد الزهاوي، والشيخ محمد فؤاد الألوسي، والشيخ عبدالقادر الخطيب، والشيخ شاكر البدري، وغيرهم من فقهاء العراق وعلمائه.
وكانت ملكته العلمية وقدرته على الخطابة واضحة، وتجلى ذلك في وقوفه المبكر على منابر مساجد بغداد وهو دون العشرين من عمره، ففي عام 1949م عُين إماماً في مسجد السور في بغداد، واستمر على حمل أمانة المنبر حتى عام 1954م عندما أدركت السلطة في العهد الملكي نشاطه وتأثيره في الناس، فعمدت إلى إبعاده إلى قرية نائية من قرى محافظة «ديالى» تدعى «قرية الحديد»، فعمل إماماً وخطيباً لجامع القرية، وترك فيها أثره الطيب، وخرّج منها أئمة وخطباء ودعاة صار لهم شأن في المجتمع العراقي.
وبعد سقوط الحكم الملكي في 14 يوليو 1958م أصبح إماماً وخطيباً لمسجد الحاج أمين في منطقة الكرخ، وفي عام 1959م كان المدّ الشيوعي قد أخذ مأخذه، فتصدى للشيوعية على المنبر، فتم وضعه تحت الإقامة الجبرية لمدة عامين، حتى صدور العفو العام عن السياسيين في 4 ديسمبر 1961م.
لا يخشى في الحق أحداً
ومن القصص المعروفة عن شجاعة الشيخ البدري، أنه تم فصل أحد طلابه في مدرسة التربية الإسلامية التي كان يعمل بها، بسبب تهجمه على سياسات الرئيس الأسبق عبدالسلام عارف، وعلى إثر ذلك تصدى البدري لهذا التصرف، فتم إبعاده عن المدرسة ونقله إلى مسجد لم يتم اكتمال بنائه، لتعجيزه وتعطيل آلية جهاده ضد الظلم والطغيان، وبعد فترة قياسية وجهود الخيّرين، استطاع إنجاز بناء جامع «عادلة خاتون» قرب جسر الصرافية في جانب الرصافة، وعند افتتاح الجامع وهو يلقي خطبته على المنبر فوجئ بدخول عبدالسلام عارف رئيس الجمهورية آنذاك، ولم يكد يأخذ عارف مكانه حتى بدأ الشيخ البدري بتوجيه كلماته المشهورة إلى عارف دون خوف أو تردد: «يا عبدالسلام، طبق الإسلام.. إن تقربت من الإسلام باعاً تقربنا إليك ذراعاً.. يا عبدالسلام، القومية لا تصلح لنا، وحدة الإسلام ملاذنا». وعند الانتهاء من خطبته جلس جانباً ولم يلتفت إلى الرئيس العراقي، فقام الأخير وصافحه قائلا: «أشكرك على هذه الجرأة!» ليُنقل بعد هذه المجابهة مرة أخرى إلى مسجد الخلفاء المغلق بين العامين (1964 ــ 1966م) وذلك لشل نشاطه الإسلامي الذي لم يتوقف.
نقد النظام الحاكم
واصل الشيخ البدري نهجه الشجاع وعدم انصياعه لرغبات حكام العراق، وكان دائماً يوجه لهم النصيحة والنقد، أملاً في رجوعهم إلى منهج الإسلام.. وقد ذكر حامد الجبوري، وزير الدولة والإعلام والشؤون الخارجية لفترات متعاقبة من حكم البعثيين (لبرنامج «شاهد على العصر» في قناة «الجزيرة» الإخبارية القطرية) أن الرئيس «أحمد حسن البكر» كان يقرب العلماء والمشايخ منه ومنهم الشيخ البدري، ولكن الملف الأمني كان بيد صدام حسين المشرف على التعذيب والاغتيالات، ولقد استمر البدري رغم كل ذلك يعتلي منابر بغداد، مبتدئاً بمقدمته الشهيرة: «أعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات حكَّامنا»، ويختم خطبته قائلاً: «اللهم ارزقنا دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا من الدعاة إلى طاعتك والاقتداء إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة، وشهادة في سبيلك».
وبالطبع، لم تَرُقْ أعمال وتصرفات البدري للنظام السابق وأزلامه، وفي إحدى الليالي، وبينما كان راجعاً من المسجد بعد صلاة العشاء برفقة صديقه عبدالغني شندالة، انقض عليه أزلام النظام وأخذوه معهم، ثم ذهبوا إلى بيته وصادروا كل خطبه وأشرطته المسجلة، بالإضافة إلى كتابين كانا معدين للطباعة هما: «كتاب الله الخالد»، و«الإسلام حرب على الاشتراكية والرأسمالية».
اعتقال وتعذيب
وبعد فترة عرفت عائلته أنه مُعتقل بسجن قصر النهاية (سيئ الصيت) لتعذيبه واستجوابه من قِبَل صدّام حسين (المسؤول عن الملف الأمني للدولة)، وناظم كَزار (مدير الأمن العام الأسبق). ويقول أحد الشهود الذين كانوا معه في الزنزانة: «لم أرَ في حياتي رجلاً بشجاعته داخل المعتقل، يُعذب ويفقد الوعي، ثم يعود إلى رشده فيعذب مرة أخرى، وهو يكرر ذكر الله، ثم يفقد الوعي تارة أخرى»، لذلك كان المعتقلون معه يتوسلون إليه أن يلين بعض الشيء وأن يسكت؛ ولكنه لم يعترف للبعثيين بشرعية، ولم يمنحهم تأييداً، بل كان يصر في التحقيق على أنهم عملاء المستعمر.
وفي أحد الأيام شتم ناظم كزار الشيخ البدري، فما كان منه إلا أن رفع يده وضرب ناظم كزار، فانهال الجنود على البدري بالضرب من كل مكان وبمختلف الوسائل حتى أُغمي عليه، واستمروا في تعذيبه وحبسه انفرادياً.
وفي كل مرة بعد التعذيب كان يتم إرساله لمستشفى الرشيد العسكري لإيقاظه من غيبوبته، ثم يُعاد إلى التعذيب وهكذا.. وهو يذكر اسم الله، ويقرأ آيات من الذكر الحكيم، ويندمج بأدعية مستجابة لنيل الشهادة، حتى نالها في 26 يونيو 1969م، وهو تحت التعذيب، ونُقل إلى مستشفى الرشيد العسكري، حيث تم تغسيله وتكفينه لتغطية الجريمة، ووُضِع في تابوت ألقاه الجنود أمام داره وهربوا.
وكانت النية أن يُدفن في مدينة سامراء بجوار قبر والده؛ إلا أن قوات الأمن كانت قد طوقت المدينة والشوارع المحيطة في بغداد، فمنعوا خروج النعش إلى سامراء، فتم دفنه قرب قبر شيخه أمجد الزهاوي في مقبرة «أبو حنيفة النعمان» في الأعظمية في بغداد، وذلك بعد أن قام أخوه محمد توفيق البدري بكشف جثة الشهيد عند القبر أمام المشيّعين، ليرى الجميع آثار التعذيب، فصاح المشيّعون مرددين: «الله اكبر، والموت للكفرة»، الأمر الذي أدى إلى زج العديد منهم في السجون.
وعن استشهاد البدري، يقول حامد الجبوري (في شهادته على العصر): إن الرئيس البكر فوجئ بمقتل الشيخ البدري من قِبَل صدام حسين، فعبّر عن عدم ارتياحه لهذا العمل الوحشي.
إرث علمي.. وجثمان باق
ترك الشيخ البدري عدداً من الكتب والمؤلفات في موضوع الإسلام السياسي منها: الإسلام بين العلماء والحكام، وحكم الإسلام في الاشتراكية، والإسلام حرب على الاشتراكية والرأسمالية، والإسلام ضامن للحاجات الأساسية لكل فرد، وكتاب الله الخالد القرآن الكريم.. بالإضافة إلى عشرات الخطب والمواعظ الإسلامية التي كانت متداولة بين الناس قبل أن يصادر النظام مكتبته الصوتية بما فيها من تسجيلات، ويمنع تداولها في الأسواق بين الناس.
في عام 2000م، كان فريق تنقيب عراقي يقوم بالبحث في مقبرة الأعظمية عن قبر أحد أبناء الخليفة العباسي المتوكل بجوار قبر الشهيد البدري، وقد ذكر أحد أعضاء الفريق أنهم عندما اقتربوا من قبر الشهيد انكشف الغطاء عن جثته الطاهرة فكانت «طرية»، وكأنها دفنت للتوّ بعد 31 عاماً من استشهاده ودفنه، فدخل الرعب والخوف في قلوبهم فأعادوا التراب إلى مكانه وفروا هاربين!