«روبرت هيفت» اسم لطالب ثانوية أميركية رفض معلمه عام 1958 مشروعه الذي تقدم به، وكان عبارة عن رسم لشكل العلم الأميركي الحالي. ولم يحصل في تقدير المعلم في حينها على درجة أعلى من جيد جداً. فلما احتجّ الطالب على تقويمه الأقل من استحقاقه في نظره، كان جواب المعلم: «حسناً أرسل برسمتك إلى الكونغرس، فإن أجازوها فسأعيد النظر في تقويم عملك». وبالفعل هذا ما صار. وما كان من الكونغرس إلا أن اعتمد رسمة هيفت للعلم الأميركي الذي لا يزال يرفرف إلى يومنا. وعندها والتزاماً بوعده رجع المعلم عن قراره وأعاد تقويم عمل الطالب إلى درجة ممتاز. هذا الطالب أو روبرت هيفت توفي عام 2008 وهو لا يزال يتذكر معلمه ومحفِّزه لإرسال عمله إلى الكونغرس. روبرت هيفت مات وابتسامة الرضا لم تفارق وجهه.
لا نريد الانسياق إلى حذلقة لفظية، وإلى استطراد لا نقصده. ولكننا في عالمنا العربي الضيق نحتاج إلى توسيع آفاق تفكيرنا وإعادة النظر في مدى آفاقنا. من أول البيت مروراً بالمدرسة والشارع إلى آخر كيان في مجتمعنا. بغير ذلك لن نتمكّن من التغيير نحو الأنسب والأحدث. ولن نصل إلى خلق قوام للاحتذاء، يتفاعل ويهضم ثم يعطي. فهذا المعلّم الذي لم يتشبث برأيه لم يحقد على تلميذه لأنه ناقشه وراجعه في علامته، بل تفهّم رأيه وأرشده نحو من هم أعلى منه شخصياً لتقويم ما اختلف حوله مع تلميذه. واعداً إياه إن جاء تقويم الجهة الأعلى أفضل من تقويمه هو، فسينزل عند رأي الأعلم منه... وهذا ما كان.
من ضمن أحداث فيلم يحكي عن قصة مدرسة حاول مسؤولوها تقليص مصروفاتها بوقف الدعم عن حصص الموسيقى، هذا الاستقطاع قابله عزم على جمع المبلغ اللازم لاستمرار وجود الموسيقى في حياة الطلاب، لأن «الحياة بلا موسيقى خطأ كبير» برأي الفيلسوف نيتشه. فكان من ضمن المتحمسين لجمع المال معلّم لمادة الأحياء، ولكنه يفهم في أمور المصارعة. فتفتق ذهنه عن الاشتراك في مباريات تنافسية للمصارعة والاستفادة من مبلغها لصالح برنامج الموسيقى. ولأنه حاول جاهداً وتعرض لإصابات جسدية على قدر محاولاته، فتجد أن زميله في المدرسة قرر أن يثنيه عن أذية نفسه.
فماذا كانت جملته لمعلم الأحياء؟: «بمجرد محاولاتك تلك قد حصلت على جائزة الفوز في تقدير تلاميذك، لأن التدريس والتعليم ما هما سوى الإلهام في نهاية المطاف. وقد كنت الملهِم لهؤلاء الطلبة».
والسؤال: كم من معلم مر في حياتنا وكان الملهم؟ كم من معلم لا نزال نتذكر كلماته وتصرفاته؟ وبالمناسبة فحتى الأبوين «لا يجب» أن يخرجا عن دائرة المعلم. فهل كانا لنا إلهاماً أم إهمالاً؟ وهذا ما يُحدث الفرق في حياة الإنسان. فكل امرئ وفي حياته حادثة ما «أو أكثر» كانت الفاصلة في تاريخه. ومَن غير الأب والأم والمعلم شخصيات لها اعتبارها في أول سلم الحياة؟
أحياناً نصاب بلعنة الانبهار بالغريب وغير المسبوق، حتى إننا لا نلتفت إلى العادي والتفاصيل اليومية. مع أن العادي بشيء من الرعاية والاهتمام بإمكانه أن ينتقل إلى خانة أخرى أفضل وأصلح وأكثر انبهاراً. هذا العادي من ورائه صاحب عادي بإمكانه أن يفهم ويتعلّم ويتشرّب الطريقة التي توصله إلى أماكن أخرى غير عادية. ولكن المحك على العين اللاقطة، وعلى العقل الإنساني الذي يسمح من موقع مسؤوليته بإعطاء الفرصة لمن كان أمامه كي ينهض ويتقدم. وكل كبير ولا يرضى إلا أن يكبر معه من كان حوله. وكل صغير ولا يرضيه إلا أن يتحرك وسط الصغار ليشعر بقيمته المفقودة وينسى نواقصه. ومن هؤلاء الصغار تتأزم الحياة وتتشابك عقدها أكثر.
أمّا الكبار فهم كبار في كل شيء... في تفكيرهم وهممهم وقراراتهم وعطاءاتهم. فصحيح أن الطالب هيفت هو من رسم علم بلاده، ولكن معلمه هو الكبير الذي وقف خلف العمل. فكان كبيراً في تدبير الموقف وفي نموذجه الملهم لتلميذه. وكل منا يستطيع أن يكون كبيراً في موقعه ومن موقعه. الأهم أن نعي هذه المسؤولية وهذا الشعور بداخلنا.