علني أستطيع القول أن المحروسة تمر بمخاضٍ عسير، حيث أن كل مخاض يتبعه ولادة لمخلوقٍ ما،بغض النظر إن كان هذا المخلوق عروساً أو قرداً،ولكن يبدو أن الآلام التي تعانيها مصر الآن ليست آلام المخاض،إنما هي آلام مزمنة ناتجة عن عقود طويلة من الظلم والقهر والإضطهاد،عقود تقهقرت فيها مصر على كل المستويات،إقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وعلمياً وثقافياً،والركيزة الأساسية التي فقدتها مصر هي ريادتها للعالم العربي،مما فسح المجال لدويلة مثل قطر لتكون ذات صولة وجولة في رسم أدق السياسات الداخلية وخصوصاً في بلدان (الربيع العربي).
عندما قال الأستاذ هيكل أن نظام مبارك نجح في تجريف الطبقة السياسية في مصر،كان حقاً يعني ما يقول،وهذا ما تبدو آثاره اليوم من سلوكيات الطبقة السياسية اليوم في مصر إن كانت في الحكم أو في المعارضة،فسلوكيات كلا الطرفين لا تنطلق من فهم سياسي عميق،بل يغلب عليها طابع النكايات والمماحكة،والإيغال في التفاصيل على حساب القضايا الرئيسية والكبرى،وحبست هذه الطبقة مصر داخل حدودها كأنها جزيرة معزولة،ومقتل دولة عظمى كمصر هو في شغلها بنفسها وتقيدها داخل حدودها،كعملاق يلبس ثوباً من حديد لقزم فيخنقه.
منذ أن وقعت مصر الساداتية إتفاقية كامب ديفيد تحت حجة البناء والتنمية، خرجت مصر من دائرة الفعل الدولى وفقدت ريادتها العربية،وفي نفس الوقت لم تكسب بناءاً ولا تنمية، فتفاقمت نسب الفقر والجهل،وتقلصت الطبقة الوسطى لحدودها الدنيا،وأصبحت نسب التنمية التي يتم الإعلان عنها إحتكارية الفائدة،تستفيد منها طبقة فاسدة محيطة بالنظام السابق كالسوار بالمعصم،وأصبح هناك فجوة مريعة بين الأغنياء والفقراء،وهذا الوضع لا يحتاج إلى بهلوانيات سياسية وقفزات بالمجهول، بل يحتاج إلى وضع الإصبع على الجرح،وهذا لن يتم في ظل التشرذم السياسي الحاصل حالياً والذي سيبقى يتمدد إن لم تتم معالجته حتى يصل إلى تشرذمات إجتماعية قد تصل حد التفكك.
منذ إجراء الإنتخابات الرئاسية المصرية وفوز مرشح الإخوان محمد مرسي،ربط مصر بمشروع إخواني أمريكي يمتد من جبال الأناضول إلى جبال الأطلس،وتقوم دعائم هذا المشروع على قاعدتين رئيسيتين، أمن (إسرائيل) وضمان تدفق الطاقة من نفط وغاز إلى الغرب،وتصبح تركيا قاطرة الجر الرئيسية كعرابة أمريكية،وخلفها سلسلة الإخوان الممتدة من مصر إلى تونس وليبيا والمغرب،لذلك نرى تلك الحرب الضروس على سوريا حتى يحكم الإخوان لتكتمل السلسلة ويكتمل ذلك المشروع،وكانت الفتنة السنية الشيعية من ضمن الأسلحة الأكثر فعالية في تنفيذ هذا المشروع حسب رؤية كسينجر،ويتم من خلاله تعطيل العقل وتفعيل الغرائز،وكانت زيارة مرسي الخارجية الأولى للسعودية كاشفة عن هذه العقلية بتصريحاته حول زعامة العالم(السُني).
وأتت زيارة الرئيس الإيراني إلى مصر لحضور القمة الإسلامية لنجد أن هناك شبه إجماع مصري على التأفف من هذه الزيارة ولكلٍ أسبابه الضيقة ، فهناك من إختزل إيران بنظام المرشد وقارنوه بمرشد الإخوان،رغم التسطيح الشديد في هذه النظرة حد السذاجة،وهناك من نظر لإيران من زاوية المذهب،وهي أبعد ما تكون عن حرفية السياسة،وهناك من نظر إليها بعيون خليجية،وبنظرة عامة على تاريخ العلاقات الخليجية المصرية الإيرانية،نجد أن هناك طورين من تلك العلاقات،
الأول:في عهد مصر الناصرية كان العداء مستفحلاً بين مصر عبدالناصر ودول الخليج التي كانت تُحالف إيران الشاه،وكان شاه إيران هو العصا الأمريكية الغليظة في المنطقة ،وكانت المصالح الأمريكية و(الإسرائيلية) هي محور التحالف الخليجي الشاهنشاهي الإيراني.
الثاني:بعد توقيع إتفاقية السلام المصرية (الإسرائيلية) والمتزامنة مع قيام الثورة الإيرانية التي قطعت العلاقات مع أمريكا و(إسرائيل) أصبح هناك تحالف مصري خليجي في مواجهة إيران،فهل من دلائل.
عندما تربط مصر عن طريق الإخوان ومشروعهم نفسها بمحور أمريكي صهيوني خليجي،تكون بالفعل كمن باع دينه بدنياه،فالمصلحة المصرية تتناقض بالكُلية مع المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة،فإن هذا المشروع لن يقدم إلى مصر سوى التبعية والتقزيم،مقابل بعض الرشاوي من صندوق النقد الدولي وبعض خزائن مشيخات النفط ، وهذه الرشاوي لن تقيم إقتصاداً ولن تصلح مجتمعاً ولن تصنع دوراً ولن تعيد لمصر أي ريادة.
إن الكابوس الذي تعانيه أمريكا وحلفائها في المنطقة من (إسرائيل) إلى دول الخليج هو تفعيل العلاقات الإيرانية المصرية،وسيحاولون منعه بكل ما أوتوا من خبائث ورجائس ومؤامرات،إبتداءاً بمذهبية إيران وصولاً إلى شيطنتها، فإن تلك العلاقة بين دولتين كبيرتين ستعيد قلب الطاولة على كل المشاريع الإستعمارية،وتعيد لمصر ريادتها وقرارها السيادي والمستقل.