لا زال حتى اللحظة ،لا يعرف لماذا كان ينتابه شعور غامر بالبهجة ، كلما صحبته والدته إلى أخواله ، عندما كانت تزورهم ، بين الفينة والأخرى ، كلما أحسّت بشوق لرؤيتهم .
لكنه لا زال يتذكر ، كيف كان يقتفي أثر الوالدة ، في الطريق ، وهو يساوق خطاه ، صوب آثار أقدامها ، في صعيد الطريق ، مهرولاً أحياناً ، وماشي ألهوينا حينا آخر ، فيلحق بها تارة ، ويسبقها تارةً أخرى ، مزهواً بسحر الطبيعة الخلاب .
وكم كان لا يفوته ، وهو يجري خلفها ، أن يلتقط جلمود حجر من جانب الطريق ، ليلقيه بعفوية في النهر ، متأملاً على عجل ، إنتشار أمواج الماء المتباعدة صوب الشاطيء الآخر ، حيث تتلاشى شيئاً فشيئاً ، دون أن تترك لها أثراً . فكانت أحلامه تتصارع في مخيلته اليافعة ، وتتلاشى هي الأخرى ، دون أن تترك أثراً ، ربما بسبب عفوية الطفولة .
وما أن يصعدا في الزورق ، حتى تمتزج في مخيلته البهجة ، بزرقة الماء ، وزقزقة النوارس في لوحة ساحرة .. والقلق من تأرجح الزورق بأمواج الماء ، إذ يسارع من تلقاء نفسه ، ليمسك بطرفي أذيال عباءة والدته ، لكي يتفادى التأرجح ، ويحفظ توازنه ، داخل الزورق ، ريثما يعبر إلى الضفة الأخرى .
وما هي إلا لحظات حتى يفاجئهم البلّام بقفزة محترفة ، على حافة الشاطيء ، فيحكم قبضته لمقدم الزورق ، فيرصفه على عجل ، على اليابسة ، لكيلا يجرفه التيار إلى أعماق النهر مرة أخرى ، حتى يطلب منهما الترجّل ، بعد أن حمد الله على سلامة العبور . عندها يطير الفتى فرحاً ، فهو الآن على مقربة من ناعور الخال ، إذ بمجرد أن يتجاوز غابة أشجار الغرب ، سيكون على مرمى حجر من البستان .
لقد سحره خرير الماء في الساقية ، بعد أن ينسكب من دلاء دولاب الناعور ، الذي تجره البغلة ، ويشجيه أنين الدولاب ، الذي يشتد كلما أسرعت البغلة في الحركة بحثّ من الناطور ، كأنه يشكو حملاً ينوء بثقله ، ليروي الزرع ، ويسقي الضرع . فهذا هو ديدنه ، منذ أن عرف الإنسان الفلاحة ، في رحلة المعاناة الأزلية ، لأعمار الأرض .
ولان الخال كان كريم العطاء ، سمح المحيّا ، فقد أكثر من الترحاب بهما ، وقطف لهما من خضار البستان ما شاء له أن يقطف ، ليأكلا منه بانشراح ، قبل أن ييمما وجهيهما إلى بيت ألخوال .
لكنه اليوم لم يعد يسمع أنين الناعور ، الذي انقرض واختفى من الوجود ، بعد أن كنسته المضخة الصناعية بالزراعة الممكننة ، على تلويثها للبيئة ، ونشاز ضجيجها . إلا أن أنين الناعور ، استوطن ذاكرته الرقيقة ، فظل في تلافيفها محفوراً ، عصيّاً على النسيان