مفهوم الرفق في الإسلام
محمد حسين فضل الله
أكد الله سبحانه وتعالى على محورية الرفق في حركة الإسلام، واعتبره المحرك الأساس للدين، بعيداً عن الفتن، معتمداً أسلوب الجدال بالتي هي أحسن مع من يختلف معه المسلم في الدين أو المذهب أو السياسة وغير ذلك، ولما كان سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، قد استقى رؤيته ودينامية حركته من القرآن، فقد أفرد مساحة واسعة لهذا المفهوم، موضحاً معانيه ودلالاته، وذلك بعكس ما فهمه البعض، ما جعل الغرب يلصق تهمة الإرهاب بالإسلام، ولذلك رأينا أن نقتطف بعض النصوص التي سلّط سماحته الضوء عليها في أكثر من موقع ومناسبة.
مفهوما الرفق والعنف
من بين العناوين التي تمثل حركة السلوك في العلاقات الإنسانية العامة بين السلب والإيجاب، مفهوم الرفق والعنف. والمقصود بالرفق، أسلوب اللين المنفتح على مشاعر الآخرين، بحيث توصل إليهم الفكرة بالطريق الإنساني السلمي الذي يفتح العقل بسهولة، ويفتح القلب بمحبة، وبحيث يكون أسلوبك أسلوب اللين، عندما تخاطب الآخر بالكلمة الليّنة السهلة التي لا تقسو على مشاعره، ولا تثير عصبيته، ولا تبعده عن الخط المستقيم.
وهكذا عندما تريد أن تتعامل مع الآخر، حتى لو كان ذلك في داخل العائلة؛ في تعاملك مع أبيك وأمك، أو مع أولادك وزوجك ـ سواء كنت رجلاً يتعامل مع زوجته، أو امرأةً تتعامل مع زوجها ـ بأن تعتمد أسلوب اللين الذي يحترم مشاعر الآخرين ولا يسيء إليها، لأن ذلك هو السبيل لأن تُدخِل فكرتك في عقل الآخر، وأن تجذبه إليك في عاطفته ومشاعره وإحساسه؛ أن تكون كلمة القلب الذي يجتذب قلب الآخر، كما هي كلمة العقل الذي يجتذب عقل الآخر...
أما العنف، فهو أسلوب القسوة، وقد يتمثل في الشتائم تطلقها ضد الآخر الذي لا ترتاح إليه، أو الذي بينك وبينه مشكلة، بحيث تعمد إلى إثارة عصبيته، أو الضغط على مشاعره، بما يشعر معه أنك تُسقط كرامته، وتتحدى ذاته، وتوحي إليه بأنك في موقع العلو وهو في موقع الأسفل، كالكثيرين من الناس الذين يتحدثون مع الآخرين من فوق، لأنهم يملكون موقعاً للقوة أمامهم.
وهكذا في كل موقع من مواقع علاقتك بالإنسان الآخر، لأنّ مسألة العلاقات الإنسانية هي مسألة تتصل باحترام الإنسان للإنسان؛ أن تحترم فكره فلا تسقطه، بل تحاول أن تعالج خطأه في الفكر بالأسلوب الطيب الذي يناقش الفكرة الخاطئة بعقلانية وموضوعية، بحيث تستطيع أن تقنع الآخر، لأنك إذا عالجت الفكرة الخاطئة بالتشنّج ـ سواء كان خطأه في السياسة أو في الدين أو في العلاقات البيتية ـ بأن تضلله وتكفّره وتعنّفه بخطئه، من دون أن تعرض وجهة النظر الأخرى، فإنك بذلك تغلق قلبه عنك.
وهذه الفكرة أكّدها القرآن الكريم، سواء في تعاملنا مع الآخر في البيت أو في السوق أو في المجتمعات، فنحن نقرأ قوله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ـ إذا أردت أن تتكلم مع الآخرين، فتكلّم معهم بالكلمة الأفضل؛ الكلمة التي تجمع ولا تفرّق، تحبِّب ولا تبغّض، الكلمة التي تدخل إلى عقل الإنسان الآخر، فتلاحظ مستواه الفكري لترحم فكره وقابليته، فكما تختار الفاكهة الأحسن، والبيت الأحسن، والثوب الأحسن، لأن ذلك يؤثّر على وضعك الذاتي في ما تأكل وتشرب وتلبس، كذلك حاول أن تختار كلماتك، لأن الكلمة قد تُدخلك في حرب أو تثير أمامك عصبية ـ إن الشيطان ينزغ بينهم ـ يدخل الشيطان في "عبّ" الكلمة ليفحص ما في داخلها ليخلق لك مشكلة ـ إن الشيطان كان للإنسان عدوّاً مبيناً} (الإسراء:53).
الجدال بالأحسن
ثم، إذا أردت أن تجادل الآخرين ـ ونحن نختلف في الدين والمذهب والسياسة والعلاقات الاجتماعية، ومن الطبيعي أن هذا الاختلاف يجر إلى جدل حول كل القضايا المختلف عليها ـ فكيف تجادلهم؟ الله تعالى يقول: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالّتي هي أحسن} (النحل:125). وحتى في الحوار مع أهل الكتاب، فإن الله تعالى يأمرنا أن نجادلهم بالتي هي أحسن. وإذا كان عندك عداوة مع الآخر، فإن الله يأمرك أن تختار الأسلوب الأحسن لكي تحوّله إلى صديق: {ولا تستوي الحسنة ـ وهي أسلوب الرفق ـ ولا السيئة ـ وهي أسلوب العنف ـ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم ـ وهذه تحتاج إلى جهد وأعصاب قوية ـ وما يلقّاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} (فصِّلت:34-35)، وهذا هو الذي يجعلنا نربح العالم.
هناك من الناس مَنْ تجده غير مستعد لأن يناقشك أو يحاورك، بل يستعرض قوته وعضلاته، ولذلك استثنى الله تعالى في الجدال مع أهل الكتاب بالتي هي أحسن الذين ظلموا، لأنه تعالى قال: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة:194)، وهو ما يعلّمه الله تعالى لنبيّه نوح(ع)، عندما كان قومه يسخرون منه وهو يصنع السفينة في مكان لا ماء فيه، فالله تعالى قال: {إن تسخروا منا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون} (هود:38)، أما الذي يحاورك فحاوره بالتي هي أحسن، لأن الله تعالى يضع كل شيءٍ في موضعه.
أسلوب الرفق والرحمة هو الأصل:
في الإسلام، الأصل في سلوكية الإنسان هو الرفق؛ أن يعالج الإنسان كل قضاياه، في نفسه وفي علاقاته مع الآخرين، بالأسلوب الطيب الليّن، في الكلمة وفي العمل، يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً رسوله الكريم، مشيراً إلى طريقة تعامله مع أصحابه ومع الناس: {فبما رحمةٍ من الله لِنْت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك} (آل عمران:159)، ولذا كان(ص) يتعامل في خطابه مع أهله وعياله وأصحابه وكل الذين يتعاملون معه، بالكلمة الطيبة والليّنة التي تفتح في الإنسان الآخر عقله وقلبه.
فالناس إنما اتبعوك ـ يا محمد ـ لأن أسلوبك هو الأسلوب الذي يحترم الناس، فلا يقسو أو يغلظ عليهم، ولا يفحش فيهم، فلم تكن ـ يا محمد ـ في كلماتك فحّاشاً تتكلم مع الناس بكلمات الفحش، ولم تكن لعّاناً بحيث تلعن من يختلف معك، بل كنت الإنسان الرحيم الرؤوف الذي يدرس نقاط الضعف في الناس، فيرحم ضعفهم، ولا يحاول أن يضغط عليهم بها.
فالله سبحانه يؤكد للرسول(ص) أنّ سرّ نجاحه الرسالي واستماع الناس إليه والتفافهم حوله، لأنه كان الرسول الذي امتلأ قلبه بالرقة تجاه الناس، وتحرك لسانه بالكلام اللّين الذي ينفذ إلى قلوبهم ليتحرك نحو عقولهم، حيث كان ينظر إليهم نظرةً إنسانية تتجاوز كل المراتب، وقد جعله الباري في أعلى مرتبة في البشرية، فكان الرفيق والليّن الذي يعفو عن كثير من الناس إذا أخطأوا معه. فالإنسان الرسالي القائد، عليه أن يقدِّر ظروف أتباعه وظروف الناس الذين يعيشون معه، فيعفو عن أخطائهم إذا أخطأوا معه، ويعالجها بحكمة ورفق، ويعطيهم الثقة بأنفسهم، لأنَّ من سمات القائد أن ينمِّي فكر أتباعه، حتى يتحركوا معه من خلال ثقافتهم في الأمور التي ينطلق بها القائد: {وشاورهم في الأمر} (آل عمران:159)، شاورهم في الحرب أو السلم أو في القضايا التي تتحرك في تنظيم المجتمع، وادفعهم إلى أن يفكروا، ولا تجعلهم مجرد أناس يتبعون القيادة دون أن يفهموا القضايا التي تقودهم إليها. اصنع من كل واحد منهم مشروع قائد، واجعلهم يتعوّدون على التفكير وعلى التخطيط، حتى إذا ما دخلوا مع القيادة في أي مشروع، عاشوا وعي المشروع كما تعيشه القيادة، خلافاً للكثير من القياديين الذين ينظرون إلى أتباعهم كما ينظر الشخص إلى فئة من الجهَّال الذين لا يملكون إلا أن يهتفوا أو يصفّقوا...
ونحن نعلم أن النبي(ص) زوّده الله بالمعرفة القدسية التي لا يحتاج معها إلى أية مشورة، ولكن الله يريد من خلال رسوله أن يقدم لنا الأنموذج في تربية القاعدة على أن تفكر، وكيف تنقد القائد، لأن القيادات المستقبلية ليست كلها رسول الله. لذلك على القيادة أن تتشاور مع القاعدة، وأن تعرض عليها خططها؛ إلا الخطط السرية التي لا يمكن أن تعرضها بشكل عام، ولكن هذه لا بد من عرضها على أولي الخبرة وأولي الأمر {فإذا عزمتَ فتوكّل على الله إن الله يحب المتوكلين} (آل عمران:159).
الرسول (ص) الأسوة والقدوة
فنحن نقرأ أن النبي (ص) كان الرسول الذي يرفق بأصحابه وبالناس من حوله، وقد صوّره الله سبحانه وتعالى بصورة أكثر وضوحاً، عندما خاطب المسلمين ليعرّفهم شخصيته(ص): {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة:128).
هذه كانت صفة الرسول الذي يرأف ويرحم ويحمل هموم أمته، ويلين في كلامه وفي قلبه، كان شأنه الرفق وحلّ الأمور بالرفق. وعلى كل القادة في كل المواقع، سواء كان الموقع فقهياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو أمنياً، أن يقتدوا برسول الله، لأن الله يقول: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} (الأحزاب:21). وهذا ما ينبغي للإنسان المؤمن أن يأخذ به، وأن يعالج الأمور بالطريقة السلمية التي ترفق بالإنسان الآخر حتى وهو في معرض الردّ عليه. فإذا ما حصلت مشكلة مثلاً، ودار الأمر في حلّها بين الرفق والعنف، فإن تمّت معالجتها بالرفق، فإن الله يثيب الإنسان أكثر مما لو عالجها بطريق العنف. وهذا ما نجد مصداقه في قوله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌ حميم} (فصِّلت:34).
الإسلام دين الرفق
ومن هذا المنطلق، كنا نقول لكثير من الإعلاميين، وخصوصاً الغربيين منهم، إن الإسلام يعلّمنا أن نكون أصدقاء العالم، وأن نتبع الأساليب التي تجعلنا نربحهم كأصدقاء، ويعلّمنا أن لا نقاتل إلا من قاتَلَنا من باب الدفاع عن النفس. وهكذا، نلاحظ في القرآن الكريم قوله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} (الإسراء:53)، وفي حديث للنبي(ص) يقول فيه: "لو كان الرفق خلقاً يُرى ما كان مما خلق الله شيء أحسن منه"، وورد أيضاً في الحديث: "إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم باب رفق".
هذا هو الخط الإسلامي: الرفق لا العنف. ومن خلال ذلك، لا بد من أن ندرس هذه المسألة دراسة واقعية عملية، لأن الرفق هو الذي يسمح بأن يكون مجتمعنا مجتمع عدل وسلام ومحبة، لأن أغلب المشاكل التي تحدث في مجتمعنا هي نتيجة تعامل أفراده بعضهم مع بعض بأسلوب العنف، بحيث يعنف القوي على الضعيف، وكذلك يعنف الضعيف الذي يمتلك مقداراً من القوة على من هو أضعف منه...
الارتباط بين الإيمان والرفق
ومن هنا، فإن الله تعالى يوحي إلينا أن النبي(ص) استطاع من خلال أسلوبه أن يجذب الناس إليه، وأن يجعلهم يؤمنون برسالته ويلتفون حوله. وقد ورد عن النبي(ص)، وهو يتحدث عن هذا الخلق الإنساني، يقول: "إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه ـ إلا حسّنه، فإذا كنت رفيقاً، فإن الرفق عندما تستخدمه في علاقتك أو معاملتك مع الآخرين، فإنه يحسّن الموقف ـ ولا رُفع عن شيء ـ فاستبدلت الرفق بالعنف ـ إلا شانه"، إلا عابه، ويقول(ص): "إن الله رفيق يحبّ الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف"، فإذا حاولت أن تحل المشكلة بالأسلوب الليِّن، فإن الله يعطيك من الأجر على حلّ الأمور بهذا الأسلوب اللين أكثر مما يعطيك على حلّك إيّاها بالأسلوب العنيف.
وفي ذلك قصة حصلت مع النبي(ص)، حيث كان جالساً، وكانت زوجته أم المؤمنين عائشة إلى جانبه، ومرّ يهودي وألقى التحية على النبي(ص) بطريقة لا تتضمن التحية، بل تتضمن الدعاء بالموت على النبي من دون أن يُجهر بذلك، فقال اليهودي: "السّام عليك"، والسّام هو الموت، أراد بذلك أن يمرر هذه المسألة على النبي ليسخر منه عند جماعته، فأجاب النبي بكل هدوء: "وعليك"، فثارت ثائرة عائشة، ولم تلتفت إلى رد النبي(ص)، فبدأت تسبّ هذا اليهودي بكلام عنيف وفاحش، فالتفت النبي(ص) إليها بكل هدوء وقال لها: "يا عائشة، إن الفحش لو كان ممثّلاً لكان مثال سوء، إن الرفق لم يوضع على شيء قطّ إلا زانه، ولم يُرفع عنه قطّ إلا شانه". وأوضح لها بما ردّ به على اليهودي.
هذا منهج أخلاقي ينطلق به رسول الله(ص)، ليقول لنا إنّه حتى في مورد الإساءة، يمكن أن نردّها بمثلها من دون أن نزيد عليها ونخلق مشكلة، والله تعالى قال: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة:194)، هذا من أجل أن يخلق حالة السلام في حياة الناس. وقد رُبطت مسألة الإيمان بالرفق، ففي الحديث عن الإمام الباقر(ع) يقول: "من قُسم له الرفق قُسم له الإيمان"، ثم يقول: "إن لكل شيء قفلاً، وقفل الإيمان الرفق"، باعتبار أن الإنسان الذي لا يرفق، فإنه يستبدل ذلك بالعنف، وإذا أخذ بأسلوب العنف، فقد يحمله ذلك على أن ينطلق بالغضب، سواء بالقول أو بالفعل، وربما يقوده هذا الغضب الذي يفقد الإنسان فيه توازنه وعقله، إلى أن يُخرج الإيمان من قلبه، فالرفق يغلق أسلوب العنف من أجل حفظ الإيمان.
ونقرأ في حديث الإمام الصادق(ع) أنه قال: "ما زوي الرفق عن أهل بيت إلا زوي عنهم الخير"، لأن العنف يقود إلى الشر. وفي كلام للإمام الكاظم (ع) كان يقول لبعض أصحابه: "إرفق بهم، فإنَّ كفر أحدهم في غضبه، ولا خير في من كان كفره في غضبه". ونقرأ أن النبي(ص) يريد لنا أن نرفق حتى في تعاملنا مع الحيوان، وليس فقط مع البشر، فقد ورد في الحديث عنه(ص) أنه قال: "إن الله يحبّ الرفق ويعين عليه، فإذا ركبتم الدواب العجف ـ الهزيلة ـ فأنزلوها منازلها ـ بحيث تنزلونها في المنازل التي تنتفع بها ـ فإن كانت الأرض مجدبة فانجوا عنها، وإن كانت مخصبة فأنزلوها منازلها".
ويقول النبي (ص) : "لو كان الرفق خلقاً يُرى ما كان مما خلق الله شيء أحسن منه". ويتحدث (ص) عن الناس الذين يترافقون في السفر أو في أي موقع من المواقع، أن الله يعطي الأجر أكثر لمن يكون رفيقاً بصاحبه فيؤنسه ويرعاه، يقول: "ما اصطحب اثنان إلا كان أعظمهما أجراً وأحبّهما إلى الله عزّ وجلّ أرفقهما بصاحبه". هذا بالنسبة إلى الصاحب، فكيف بالزوج أو الزوجة، فأحبّ الزوجين إلى الله وأعظمهما أجراً عند الله من كان طيباً ورفيقاً مع صاحبه، فلا يعنف به ولا يقسو عليه، وهكذا بالنسبة إلى الأب مع أولاده، والأخ مع أخوته، وصاحب العمل مع عمّاله، وكذلك في كل المجالات. وفي حديث الإمام الصادق(ع)، نقرأ أن الرفق لا يعود بالمنفعة في الجانب الأخروي، بل حتى في الدنيا، يقول (ع) : "من كان رفيقاً في أمره، نال ما يريد من الناس"، لأن من طبيعة الناس وسجيّتهم أنهم إذا رأوا الرفق من شخص أحبّوه وعاونوه.
الرفق في المعاملة والمسؤولية
نحن أمام كل هذه الأحاديث عن رسول الله(ص) والأئمة من أهل البيت(ع)، بحاجة إلى أن نأخذ بهذا المنهج الأخلاقي التربوي، وهو منهج الرفق في المعاملة والمعاشرة والمسؤولية، حتى إن الله تعالى يريد للإنسان عندما يأخذ بأسباب الدين، أن لا يقسو على نفسه، فنقرأ في حديث النبي(ص): "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربك ـ تصوّروا شخصاً يصلي من الصبح إلى الليل، ويصوم طول الدهر، فمن الطبيعي أن يضعف التوجّه عنده في الصلاة، لأن النفس تريد أن ترتاح، فإذا قسوت على نفسك وحاصرتها ومنعتها من أن تنفتح على حاجاتها، فإنها تتعقّد من كل هذا الأسلوب ـ فإن المنبت ـ وهو الذي يمشي بالدابة ليلاً ونهاراً، بحيث لا يريح دابته ـ لا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطع"، فإنه قد لا يصل إلى منتهى الطريق، بل ينقطع في منتصفه. ويروى عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: "رآني أبي وأنا أتصبب عرقاً في الطواف، فقال لي: يا بني، إن الله يرضى منك بأقل من ذلك". إننا نُجهد حياتنا بالعنف، سواء في حياتنا الاجتماعية أو العائلية أو السياسية أو الدينية، وعلينا أن نحوّل مجتمعنا إلى مجتمع الأخوّة الإيمانية والصداقة والمحبة، حتى نكون كما قال النبي(ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها".
رفض العنف ضد المرأة
هناك نوعٌ من التمييز العنصري يمارسه الرجل ضد المرأة بشكل عام، حتى في الدول التي تسمى "متحضرة"، حيث يتمثَّل العنف هناك في جوانب عدة، سواء تمثل ذلك في ضرب المرأة أو تعذيبها أو قتلها، أو في عمليات الاغتصاب وبشكل فوق العادة، وقد بدأنا نلمس هذه الظواهر في مجتمعاتنا من خلال البرامج التلفزيونية الإباحية أو غيرها من الوسائل، وقد كشفت بعض الدراسات الصادرة عن الأمم المتحدة، أن أكثر من يُصاب بالأمراض المعدية كالإيدز (فقد المناعة) النساء، وذلك من خلال ما يمارسه الرجل من عنف ضدها وبأشكال متعددة. إن هذا النوع من العنف مرفوض إسلامياً بالمطلق.
ففي الحياة الزوجية على سبيل المثال، يقول سبحانه وتعالى: {وعاشروهنّ بالمعروف فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} (النساء:19)، كذلك يخيّر الله الإنسان الزوج في الحياة الزوجية {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (البقرة:229). وهناك من الرجال من يحاول أن يهجر المرأة دون أن يطلّقها، وبعضهم من تبذل له المرأة كلّ المهر وربما ما يفوقه ولا يطلقها، والله تعالى يقول: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} (النساء:19)، وهو سبحانه يُبيّن لنا أنه لا يجوز للإنسان أن يأخذ مهر زوجته بالإكراه: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً} (النساء:19).
وهناك نوع آخر من أنواع العنف، يتمثل بطرد الزوجة من بيتها، فهذا حرام، لأنه يجب على الرجل أن يسكن زوجته في البيت ما دامت هي في دائرة الزوجية، كما إن الزوجة في المقابل لا يحق لها أن تذهب إلى بيت ذويها، إذا لم يكن هناك خوف على حياتها أو ضغط فوق العادة. وهناك مسألة ضرب الزوجة، فالإسلام لا يفرِّق في الحرمة بين ضرب الزوجة وبين ضرب من هي من غير المحارم. هذا العنف محرَّم شرعاً. وكذلك يأتي عنف الكلمة عندما يسبُّ الزوج زوجته أو يشتمها، وهو أيضاً محرّم، لأنه لا فرق بينها وبين أيِّ امرأة في المجتمع، فالعقد الزوجي هو كأيِّ عقد آخر، يجب على الزوجين الالتزام به، والعقد إنما يحلّل للزوجين ما كان محرَّماً عليهما، في العلاقة الخاصة، وكل ما يتصل بها، وهو يلقي على الرجل مسؤولية الإنفاق وما إلى ذلك: {ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف وللرجال عليهنّ درجة} (البقرة:228).
العقد الزوجي لا يجعل المرأة أو الرجل أحدهما مستعبداً للآخر، وينحصر الأمر في الحقوق التي قضاها العقد لكليهما، حيث أراد الله سبحانه وتعالى للزوجين أن تكون الحياة الزوجية بينهما على أساس المودة والرحمة، {وجعل بينكم مودة ورحمة} (الروم:21)، فهما زوجان في الجسد، ولكنهما أخوان في الدين. وكذلك بالنسبة إلى البنت، فليس للأب ولا للأخ سلطة على البنت، بأن يضربها أو يشتمها؛ صحيح أنها ابنته، إلا أنها أخته في الإيمان، وإن كان له عليها حق الولاية، إلا أن ذلك لا يعطيه الحق بأن يضربها، إلا في حال التأديب، وإذا ضربها واحمرّ مكان الضرب فعليه أن يدفع الدية.
لا للعنف الاجتماعي باسم الدين
ولذلك، قلنا في عاشوراء، وأصدرنا فتوى تحرّم على الذين ينذرون أولادهم للتطبير هذا الفعل، لأن الله سوف يعاقبهم على ذلك، لأنه ليس للأب ولاية بأن يجرح ابنه، وإن كان يريد بذلك أن يعلّم ابنه حب الحسين، فالحسين(ع) لا يقبل القيام بمثل هذه التصرفات، لأنها تمثّل التخلف، بل يريد منّا السير على خطه ومنهجه. وكما بينّا سابقاً، فإن التلفزيونات العالمية تبرز صورة سيئة عن المسلمين، تصوِّر رجلاً وبين يديه ولده الذي ضرب على رأسه والدماء تسيل على وجهه، والولد يبكي بكاءً يقطّع نياف القلب، وقد كتبت إحدى الصحف الكندية: "هذا يُعمل باسم الله"، أي إن تعذيب الأطفال بهذه الطريقة الوحشية يرتكب باسم الله، وفي هذا تشويه لصورة الإسلام والمسلمين، والمؤسف أن هذه الحالة تزداد جراء العصبيات.
ومن العنف أيضاً أن يمنع الرجل أخته أو ابنته من التزوّج بالكفؤ وما إلى ذلك، وقد يدفعها جراء هذه الممارسات إلى القيام بـ"الخطيفة"، وساعتئذٍ:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يُراق على جوانبـه الدم
تحت عنوان أنه يريد أن يغسل العار، وهو من دفعها إلى القيام بمثل ذلك. وهناك أنواع أخرى من العنف الاجتماعي، حيث يفرض القوي، سواء كان حزباً أو شخصاً أو جماعةً أو حركةً، قوّته على الناس دون وجه حق، لأنه يريد أن يخضعهم لسلطته، وأن يمنع الناس من ممارسة حريتهم في ما يعتقدون وفي ما يؤمنون به... وهناك نوعٌ من أنواع العنف يمارس باسم الإسلام وباسم الدين. ولذلك، علينا أن نتثقف بثقافة رسول الله(ص) التي هي ثقافة القرآن، وأن نحاول أن نأخذ بأسباب الرفق وأسباب اللين في حياتنا العائلية والاجتماعية والسياسية. هذا هو مظهر الحضارة؛ أن نعترف بالآخر ونحترمه، وليس كما هو سائد، أن كل من ليس معك فهو كافر، أو زنديق، هذا ضال وذاك مضل وما إلى ذلك. وللأسف، لقد أصبحت ظاهرة متفشية بين مختلف الشرائح وعلى مختلف المستويات، والفتاوى بالقتل مستعرة من كل حدب وصوب، والنبي(ص) يقول: "ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يلعن بعضكم بعضاً ويضرب بعضكم رقاب بعض".
هذا هو الإسلام، فلا يقتصر الإنسان في إسلامه على الصلاة والصيام والحج، بل يجب أن يكون ذلك مقروناً بمعاملة جيدة مع الناس، وهكذا كان رسول الله(ص)، وهذه قيمة صلاة الجمعة وكل الصلوات والمواعظ، أنها تعلم الناس كيف يواجهون قضاياهم الاجتماعية والسياسية والروحية، حتى تكون صلاتنا مدارس، وليست مجرد ركوع وسجود: {وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً قُل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين} (الجمعة:11).