ماذا تريد دول البلقان من أوروبا؟
يمكن الحديث عن دافعين مركزيين يحكمان طموحات كل الدول البلقانية التي ظلت خارج الاتحاد الأوروبي، أحدهما قومي والثاني اقتصادي، ونظرًا لترابطهما فلا يمكن ترتيبهما حسب الأولوية، كما تختلف أولوية كل دافع من دولة لأخرى، بل من فترة لأخرى. لذلك وجب اعتبار هذين الدافعين على نفس قدر الأهمية بحيث يسمحان بتحقيق الأهداف القومية لتلك الدول ويخرجانها من أزمتها الاقتصادية الخانقة التي تردّت فيها.
لا شك أن دول البلقان تركز اليوم على إعطاء دفعة قوية لهويتها القومية وتحقيق البرامج المتعلقة بها والمتفرعة عنها. وهكذا في الوقت الذي استعاضت فيه الولايات المتحدة الأميركية في كل ولاياتها الفيدرالية، ونيوزيلندا وأستراليا، عن الهوية القومية بتفعيل مفهوم المواطنة، فإن دول البلقان ما تزال تصرّ على هويتها القومية أكثر من أي وقت مضى ويغيب عن وعي شعوبها الجمعي مفهوم المواطنة أو يكاد. وتبدو هذه اللحظة التي تمر بها دول البلقان غير مواتية بالمرة ولا تتقاطع إطلاقًا مع عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي, بمعنى أن الأهداف الرئيسية لدول البلقان وطموحها المركزي في دخول النادي الأوروبي مبني على طموحات وتوقعات شعوب تلك الدول لاسيما توقها إلى تأكيد هويتها القومية ولغتها القومية وثقافتها القومية وبرنامجها القومي، وهو ما يخالف جملة وتفصيلاً أسس قيام الاتحاد الأوروبي وقيمه التي بُنِي عليها.
من الجانب الأوروبي، وتحديدًا في الدوائر الأوروبية المطلعة على أوضاع دول البلقان والواعية بهذه المعطيات يسود شعور عام يلفه الشك تجاه بلدان البلقان وشعوبها، وهو ما يؤكّد أن المعطى القومي ما يزال هو المتحكم في الوعي الجمعي.
من ناحية أولى، على الاتحاد الأوروبي والدول البلقانية الراغبة في الانضمام إليه، العمل على التخفيف من هذا الشعور القومي ومحاولة تخطيه بحذر لبلوغ بلدان البلقان الانتظام في الاتحاد الأوروبي، خاصة وأن بلدان هذا الأخير تؤكد أنها لن تضم دولاً يغلب على شعوبها طابع قومي متشدّد.
من ناحية ثانية، إن الوضع الاقتصادي المتردي الذي توجد فيه دول البلقان منذ الحقبة الشيوعية عندما كانت في ظل "الاتحاد اليوغسلافي"، باستثناء ألبانيا التي لم تكن تنتمي إليه، لكنها تشترك مع دول البلقان في سوء الحالة الاقتصادية، هذا الوضع جعل سقف توقعات شعوب البلقان عاليًا، وزاد من رغبتهم في الالتحاق بالاتحاد الأوروبي لتجاوز أزمتهم الاقتصادية، ورأوا في عضويتهم ملاذًا آمنًا يحقق لهم ازدهارًا اقتصاديًّا سريعًا.
وبهذا فقد باتت دوافع شعوب ودول البلقان الاقتصادية أكثر أهمية وأولوية من دوافعهم السياسية التي تحرّك رغبتهم في الانتماء إلى المنظمة الأوروبية. وبقطع النظر عن كل الاختلافات القائمة بين دول البلقان، فإن رغبتها في تأكيد هويتها القومية والثقافية وتحسين أوضاعها الاقتصادية وحّدت رغبتها في الالتحاق بالاتحاد الأوروبي كهدف مركزي تسعى إلى إنجازه.
العلاقة بأوروبا وتأثرها بالعلاقات البينية البلقانية
في الواقع، إن علاقة دول البلقان بالدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، في كل أوجهها تتأثر سلبًا وإيجابًا بعلاقة الدول البلقانية أساسًا ببعض الدول الأوروبية الأكثر تأثيرًا وصنعًا للقرارات داخل الاتحاد الأوروبي، ومن شأن طبيعة العلاقات الجيدة بين الجانبين أن تيسّر عملية التفاوض المؤدية إلى تحقيق هدف دول البلقان بالالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي. إلا أن العلاقات الحالية بين مجموعتي الدول يطبعها من الجانب البلقاني تركيز كبير على تنفيذ البرامج ذات التوجه القومي لهذه الدول، بما لا يترك مجالاً للتفاؤل بالتوصل إلى الحل المنشود، أي تحقيق انضمام دول البلقان إلى الاتحاد الأوروبي.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أنه في حالة قبول عضوية الدول البلقانية فرادى على فترات زمنية متتابعة، فإن هناك إمكانية لعرقلة انضمام الدول البلقانية التي سيحاول بعضها تأخير أو تعطيل انضمام جاراتها. ومثال ذلك ما حدث عندما عطّلت سلوفينيا، وهي أولى الدول لحاقًا بالاتحاد الأوروبي، قبول طلب عضوية كرواتيا بإثارتها للخلاف الحدودي حول منطقة إيستري (وهو الخلاف الذي تم حلّه في وقت وجيز نظرًا لتوفّر الرغبة لدى الاتحاد الأوروبي في ذلك). كما استعملت اليونان حق الفيتو للاعتراض على عضوية مقدونيا في حلف الناتو، وقد أثارت اليونان لتبرير اعتراضها خلافًا يعود إلى أكثر من 20 عامًا مع مقدونيا يتعلق بطلب يوناني أحادي الجانب بتغيير الاسم الرسمي لدولة مقدونيا، ولم يتدخل الاتحاد الأوروبي للتوسط بين البلدين لعدم توفّر الرغبة لديه في قبول عضوية مقدونيا.
ومن المتوقع أن تسعى كل دولة بلقانية تتمكن من اكتساب صفة عضوية الاتحاد الأوروبي قبل جاراتها البلقانية، إلى عرقلة انضمام سواها ممن تختلف معهم أو قد تلجأ لاستعمال حق الاعتراض، أي الفيتو الذي يتيحه لها نظام الاتحاد الأوروبي لمنع عضوية الدول التي لها معها خلافات.
وبشكل عملي وبصورة أوضح، فإن ترشيح صربيا للعضوية الأوروبية سيلاقي بكل تأكيد اعتراضًا كرواتيًّا في حال كان لها صفة العضوية قبل صربيا، وفي الحالة العكسية فإن صربيا كدولة عضو في الاتحاد الأوروبي ستستعمل حق الفيتو لمنع كرواتيا من الانضمام إليه.
البوسنة بدورها قد تعترض على قبول كرواتيا في عضوية الاتحاد، وذلك سيكون بإصرار من ريبوبليكا صربسكا بعد مشاورات مع بلغراد، في حين قد توافق البوسنة على عضوية صربيا دون إثارة أية إشكالات.
عضوية كوسوفو في الاتحاد الأوروبي ستكون بدورها مستحيلة في حال كانت صربيا عضوًا في الاتحاد عند مناقشة الطلب الكوسوفي، أما في الحالة المقابلة فإن كوسوفو لن تعترض، في الغالب، على قبول عضوية صربيا.
وفي الحالة الألبانية فإن صربيا ستكون أول المعترضين، وقد تذهب إلى حد استعمال الفيتو ضد انضمام ألبانيا إلى الاتحاد إلا إذا وافقت تيرانا على شروط صربية محددة، في حين ستواجه عضوية مقدونيا اعتراضًا يونانيًّا وفيتو من بلغاريا التي يرى رئيسها أن مقدونيا، دولة مصطنعة وليست أصلية.
قد لا تعترض مقدونيا على انضمام أي من الدول البلقانية الأخرى، رغم ما يقال عن خلافها مع كوسوفو، التي اعترفت بها الحكومة البلغارية كدولة مستقلة، وذلك رغم التوجه العام للشعب المقدوني الرافض للاعتراف باستقلال كوسوفو.
من ناحية أخرى، قد تعترض صربيا على عضوية مقدونيا خاصة بعد وصول توميسلاف نيكوليتش إلى سدة الرئاسة، وخاصة إذا أخذنا في الاعتبار تصريحات نيكولتش (الرافضة للتسمية الرسمية لمقدونيا التي أقرت في دستورها تسمية جمهورية مقدونيا كردّ منه على اعتراف مقدونيا باستقلال كوسوفو) 4. وقد تمر عضوية الجبل الأسود دون مشاكل تُذكَر، باستثناء ما قد تثيره صربيا من محاولات عرقلة.
وإذا أخذنا كل الذي سبق في الاعتبار، فيمكننا القول: إن واقع العلاقات بين مختلف دول البلقان اليوم لا يترك سوى مجال واحد ممكن لعضوية الدول البلقانية في الاتحاد الأوروبي، وهو أن يتم قبولها كلّها دفعة واحدة ضمن الاتحاد الأوروبي. أما ألبانيا فقد يكون انضمامها إلى الاتحاد أيسر شريطة ألا تكون أي من الدول الأخرى عضوًا في الاتحاد حين دراسة طلبها.
الدور الأوروبي الممكن وتأثيره في الأزمة البلقانية مستقبلاً
تجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين الدول البلقانية والاتحاد الأوروبي ثنائية الأطراف؛ ففي الوقت الذي تسعى فيه دول البلقان إلى الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، فإن مؤسسات هذا الأخير هي التي تملك حق قبول تلك العضوية ووحدها التي تحدد شروط العضوية، ولا تقبل قراراتها النقض أو الاعتراض من قبل دول البلقان. وبعد إبداء هذه الملاحظة المهمة، فإن ما يميز هذه العلاقة هو عدم توازنها، وهنا نطرح التساؤل التالي: هل لأوروبا وحدها تقدير المواصفات التي تراها ضرورية في الدولة المرشحة للانضمام إليها؟ وبالتالي يعتمد موقفها من انضمام أي دولة إلى الاتحاد على رضاها عن التوجهات السياسية العامة لتلك الدولة، وبذلك تصنف الدول إلى دول قابلة للانضمام وأخرى غير قابلة له.
علينا هنا القول: إن أوروبا ومنذ نشأة اتحادها أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك تحفظها على الإسلام والمسلمين، وقد كرّر مسؤولوها مرارًا وتكرارًا مغالطة أن أوروبا قارة مسيحية خالصة وأن الإسلام، بصفته ديانة شرقية، غريب عن أوروبا، وأدت هذه المغالطة الكبرى إلى سلبية في العلاقة أثّرت في الجانبين.
وقد بات من الضروري العمل على كافة المستويات الأوروبية، من المقررات المدرسية إلى وسائل الإعلام المؤثرة، على إصلاح وإعادة قراءة منهجية لهذه المغالطة القائلة بمسيحية أوروبا الخالصة، وذلك ليس فقط من أجل الحقيقة فحسب، بل وأيضًا من أجل إعادة بناء علاقة سليمة وعادلة بين أوروبا والإسلام والمسلمين، وكذلك من أجل إدراك حقيقة أوروبا لذاتها ومصالحتها مع تاريخها.
فأسطورة مسيحية أوروبا الخالصة لابد من إبدالها بحقيقة أن المسيحية في أصلها لم تنشأ في أوروبا بل في الشرق الأوسط حيث ظهرت أيضًا الديانتان: اليهودية والإسلامية، وأن ليس لأوروبا ديانة أصلية خاصة بها، ولا يمكن بحال قبول مقولة مسيحية أوروبا الخالصة.
كذلك لابد هنا من التذكير بأن الإسلام، وفي أشكاله التنظيمية السياسية والاقتصادية والثقافية، كان حاضرًا وبقوة في أرجاء القارة الأوروبية، وسبق وجوده في أوروبا معرفة بلدان أوروبية كثيرة للمسيحية، وقد كانت الأندلس تحتضن أول دولة مسلمة (عام 712 للميلاد) ومثلت عاصمة الثقافة والعلوم والفن الأوروبية، وهو ما يعني وجود دولة الأندلس المسلمة 300 سنة قبل دخول المسيحية إلى الدول الإسكندنافية أو الدول الواقعة في شمال وشرق أوروبا وروسيا.
تشهد العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي ودول البلقان في الوقت الحاضر توجهًا عامًّا تسيطر عليه روح المغالطة الأيديولوجية التي عمل الغرب على نشرها وروج لها في العالم حتى باتت كحقيقة مسلَّم بها، وهي أن أوروبا قارة مسيحية خالصة. وبأخذ هذا المعطى في الاعتبار، فإن معطى آخر لابد من إقراره هنا وهو أن ثلاثة من بلدان البلقان تعيش فيها أغلبية مسلمة، وهي عين البلدان التي لم تبدأ بعد في عملية المفاوضات من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهي دول البوسنة والهرسك وكوسوفو وألبانيا. في حين أن البلدان الثلاث الأخرى المتبقية: صربيا والجبل الأسود ومقدونيا، تعيش فيها أقلية مسلمة لا يقارَن حجمها بعدد السكان المسيحيين الأرثوذكس.
كما يضيف موقف المماطلة الذي ينتهجه الاتحاد الأوروبي إزاء قبول عضوية تركيا فيه دليلاً إضافيًّا على رفض أوروبا لعضوية الدول الإسلامية أو الدول ذات الأغلبية المسلمة بحجة تخوفه من أن تكون أكبر دولة أوروبية بأغلبية غير مسيحية! وقبلت مؤخرًا عضوية بلغاريا ورومانيا في الاتحاد الأوروبي وبشكل سريع، رغم أنهما لا يتوافران على كل الشروط المطلوبة أوروبيًّا؛ ما جعل عددًا من المختصين يعتبرونه موقفًا عدائيًّا موجهًا ضد الإسلام على الأرض الأوروبية.
فهذا التصرف المخالف لقوانين وقواعد قبول عضوية البلدان في الاتحاد الأوروبي رأى فيه عدد من المعنيين دليلاً على حالة الإسلاموفوبيا التي تعيشها أوروبا وتتصرّف على ضوئها، فبانتماء بلغاريا ورومانيا إلى الاتحاد الأوروبي، ضُرِب حزام سياسي واقتصادي وأيديولوجي بين تركيا وباقي بلدان البلقان 5. وفي نفس هذا الاتجاه يمكن تفسير قبول عضوية كرواتيا، التي تفصل جغرافيا أوروبا المسيحية عن باقي دول البلقان الستة الأخرى، بما يضع المزيد من الصعوبات أمام سعي دول البلقان لعضوية الاتحاد الأوروبي. كما يمكن أيضا النظر إلى تسريع عملية قبول عضوية كرواتيا على أنّه رغبة أوروبية في أن تلعب هذه الدولة دورا إضافيا يتمثّل في حماية أوروبا من الإسلام البلقاني، وعزل دول البلقان الستة الأخرى وسد الطريق أمام بلوغها عضوية الاتحاد الأوروبي. ولا بد من التذكير هنا بأن كرواتيا كانت قد تقدمت بطلب عضوية الناتو في نفس الوقت مع مقدونيا وألبانيا اللتين ما زالتا تنتظران وستنتظران طويلا قبل حصولهما على الرد من بروكسل.
إن النسبة العالية لأعداد المسلمين في هذه المنطقة ذات الخلفية الثقافية الإسلامية لقرون عديدة، جعلت من البوسنة وجزءًا من صربيا والجبل الأسود (السنجق) وكوسوفو ومقدونيا منطقة حذر بالنسبة للاتحاد الأوروبي، وصعّبت من عملية التحاق هذه البلدان بالنادي الأوروبي. ولأن المسألة تتعلق بموقف سلبي، أو على الأقل "متحفظ"، فإن هذه البلدان ذات الكثافة السكانية المسلمة ظلت متخلفة عن جاراتها في السباق نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بقطع النظر عن الجهود التي بذلتها في سبيل ذلك على طريق الاستجابة لشروط العضوية.
تبقى ألبانيا تشكِّل الاستثناء رغم أن نسبة المسلمين فيها تبلغ 80%؛ فألبانيا تُعرَّف أوروبيًّا ودوليًّا على أنها دولة علمانية مع تطفيف التأثير المسيحي الروماني في تاريخها والتقليل من التأثير الإسلامي فيه. وهذا بدوره لم يمنع من أن تُعامَل ألبانيا بنفس الأسلوب فيما يتعلق بمسألة عضويتها للاتحاد الأوروبي، وإن كان بشكل غير واضح تمامًا مثلما هو الحال مع جاراتها المسلمة.
وأخيرًا، إن هذا التوجه المحكوم بالتشدد الأيديولوجي والتركيز على نقاط التصادم والتنافر لن يسمح بتنقية الأجواء في الفضاء الأوروبي، والبلقان جزء لا يتجزّأ منه, وإنما مصير كل الشعوب والدول الأوروبية يبدو واحدًا، ولتحقيق هذه الوحدة فإنه من الضروري تجاوز كل تلك الأحقاد والحسابات السياسية والأيديولوجية والتصالح مع الوقائع والتاريخ الحقيقي للمنطقة والعمل المشترك من أجل بناء مصير موحد للجميع، وإلا فإن المنطقة ستظل على ما هي عليه. على أوروبا أن تتقبل الاختلاف داخلها وتسمح بالتعددية الدينية واللغوية والثقافية وأن تترك المجال لحق شعوبها قاطبة في التأكيد على هوياتها المختلفة لما فيها من إثراء للقارة ولشعوبها.
_____________________________
(*) ملاحظة: النص الأصلي للتقرير باللغة البوسنية.. ترجم النص إلى العربية كريم الماجري.
فريد موهيتش - محاضرا لمادّة الفلسفة بجامعة القديسين سيريل وميثوديوس بالعاصمة المقدونية سكوبيا. أستاذ زائر بالمعهد الدولي للفكر والحضارة الإسلامية بكوالالومبور الماليزية. وأستاذ زائر في جامعة فلوريدا الحكومية وجامعة سيراكوز بنيو يورك، وجامعة السوربون الباريسية وعدد آخر من الجامعات الغربية والإسلامية.
المصادر
هوامش المترجم
(1) المقصود هنا هو اعتماد منهج المقارنات والمقاربات لتحديد خرائط توزع الإثنيات العرقية المتغيّرة دومًا في مختلف دول البلقان, وقياس مدى قوة تأثيرها في إعادة تشكيل الواقع السياسي والاجتماعي والأمني على المستويين المحلي-الداخلي، والخارجي-الإقليمي.
(2) لابد من الإشارة إلى التضارب الكبير الموجود في الإحصاءات الخاصة بالسكان في دول البلقان واستحالة العثور على مقاييس موحّدة لضبط التوزيع الإثني بشكل قطعي، وهي معضلة يواجهها الباحثون على اختلاف مشاربهم. والكاتب هنا اعتمد على إحصاءات حديثة نسبيًّا وتقديرات محَدَّثة قد لا يتفق على دقتها الجميع، لكنّها في كل الأحوال موثقة وتم إرجاعها إلى مصادرها التي أُخِذت منها.
(3) القضية تتعلق بقسّ صربي تتهمه السلطات المقدونية ببناء كنيسة دون ترخيص من السلطات المقدونية الإدارية والدينية واعتبرته متجاوزًا للقانون وأحالته إلى القضاء، لكن صربيا ترى أنّ للقسّ الحق في ممارسة دينه وأن بناء الكنيسة شأن ديني خالص خاصة وأن الصرب المقيمين في مقدونيا يحتاجون إلى مكان للعبادة.
(4) تعترض اليونان على تسمية دولة مقدونيا باسم "جمهورية مقدونيا"، ومبررات هذا الاعتراض الذي تم رفعه إلى الأمم المتحدة منذ العام 1991، هو وجود عدة مناطق يونانية يسكنها مقدونيون يونانيون لا علاقة لهم البتة بجمهورية مقدونيا ولا ينتسبون لها لا تاريخيًّا ولا جغرافيًّا، كما تتهم أثينا سكوبيا بتزوير التاريخ اليوناني الأصيل وذلك بنسبها إسكندر المقدوني وغيره من الأبطال المقدونيين اليونانيين إليها، ثمّ إن تسمية جمهورية مقدونيا تتداخل مع ما يسمّى بالمنطقة اليونانية من مقدونيا وكذلك لارتباطها بما كان يسمّى مملكة مقدونيا والتي كانت تضم أراضي من اليونان وصربيا وبلغاريا وألبانيا. وبسبب هذا الخلاف فإن عضوية جمهورية مقدونيا في الاتحاد الأوروبي ما تزال معلّقة, بحكم الفيتو اليوناني، لحين تغيير مقدونيا اسمها الدستوري، وفي انتظار ذلك فإن الدول التي لا تعترف باسم جمهورية مقدونيا غيرت اسمها الرسمي إلى جمهورية مقدونيا اليوغسلافية السابقة كأحد الحلول المقترحة.
(5) لأنه بهذا تشكِّل كل من اليونان وبلغاريا ورومانيا، وهي بلدان مسيحية، شريطًا حدوديًّا بين غرب تركيا وشبه الجزيرة البلقانية، بغاية فصل عمقهما الإستراتيجي، ومنع كل محاولات التقارب بينهما ومراقبتهما عن قرب.
«خريطة الطريق» إلى بروكسيل: ألبانيا تتقدم والبوسنة تتراجع
محمد م. الأرناؤوط
في مثل هذا الوقت من كل سنة، تُصدر المفوضية الأوروبية ما يسمى «تقرير التقدم» الذي يتضمن ما حققته دول البلقان الراغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي من تقدم في الإصلاحات المطلوبة.
وكانت «قمة سالونيك» 2003 التي خُصّصت لدول البلقان حسمت موقف بروكسيل من «الخيار الأوروبي» لدول البلقان مع تأكيد فتح الطريق للانضمام إلى الاتحاد لكل دولة على حدة بحسب تقدمها في الإصلاحات المطلوبة وليس لكل دول المنطقة في حزمة واحدة. وضمن هذا التوجه الجديد أصبح الطريق نحو بروكسيل يبدأ بتوقيع «اتفاقية الاستقرار والشراكة» التي تتضمن الالتزام بتطبيق إصلاحات قانونية وإدارية واقتصادية للمواءمة مع ما هو موجود في دول الاتحاد ثم التقدم بطلب الانضمام الذي يؤدي إلى تحديد موعد للتفاوض على تطبيق حزمة أخرى من الإصلاحات المطلوبة وصولاً إلى منح وضعية «دولة مرشحة». وأثمرت هذه السياسة الجديدة لبروكسيل خلق روح تنافس في المنطقة حيث تفاوتت الظروف بين دولة وأخرى، إذ تم قبول سلوفينيا أولاً في 2004 ثم بلغاريا ورومانيا في 2007، ومن المتوقع أن تنضم كرواتيا في ربيع 2013 لتكون بذلك الدولة الـ 28 في الاتحاد الأوروبي. أما في ما يتعلق ببقية دول المنطقة، فيبدو أن «الجبل الأسود» مرشحة لتكون الدولة الـ 29 فيما تؤثر الظروف الداخلية والخلافات الثنائية في «تقدم» بعض الدول نحو بروكسيل على رغم التزام قادتها أمام شعوبهم بالعمل على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في أقرب وقت ممكن .
وكانت ألبانيا قطعت شوطاً جيداً حتى 2008 عندما انضمت إلى حلف شمال الأطلسي، لكن انتخابات 2009 وما شابها من اتهامات متبادلة بين الموالاة (الحزب الديموقراطي برئاسة صالح بريشا) والمعارضة (الحزب الاشتراكي برئاسة إدي راما) أثرت في صورة ألبانيا، على رغم أن رئيس الوزراء صالح بريشا قدّم في ذلك العام طلباً رسمياً إلى بروكسيل للانضمام إلى الاتحاد. ومع أن بروكسيل وضعت «خريطة طريق» للإصلاحات في المجالات المطلوبة إلا أن التنافر بين الموالاة والمعارضة بقي عنصراً سلبياً أثر في مسيرة الإصلاحات المطلوبة في مجال الاقتصاد ومكافحة الفساد والإدارة العامة ...الخ. ومن هنا فقد حمل «تقرير التقدم» لهذا العام مفاجأة أو مكافأة لألبانيا، إذ إنه أوصى بمنحها وضعية «دولة مرشحة» للانضمام إلى الاتحاد ولكن ضمن شروط. وكما أوضح إتوري سكيو سفير الاتحاد الأوروبي في تيرانا بعد تقديمه «تقرير التقدم» إلى الرئيس الألباني في مؤتمر صحافي في 10 تشرين الأول (أكتوبر) فإن بروكسيل اتبعت هذه المرة ما يمكن تسميته «القبول المشروط» للطلب الألباني الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. فقد ربط السفير هذا القبول بانتخابات 2013 البرلمانية، وبالتحديد بنجاح هذه الانتخابات وفق معايير الاتحاد الأوروبي كي تمحو ألبانيا بذلك الصورة السلبية التي خلفتها انتخابات 2009 التي أدت إلى مقاطعة المعارضة جلسات البرلمان وتعطيل الحياة السياسية .
ولكن منح الدولة وضعية «دولة مرشحة» لا يعني بالضرورة الوصول إلى بروكسيل، إذ إن بعض الدول (كرواتيا والجبل الأسود ومكدونيا وصربيا) نالت هذه الوضعية، ولكن المسافة بينها وبين بروكسيل تتفاوت كثيراً. فعادة ما يلحق منح وضعية «دولة مرشحة» تحديد الموعد لبدء المفاوضات حول المجالات التي تحتاج إلى إصلاحات محددة، وهو ما يعتبر مؤشراً مهماً للتقدم نحو بروكسيل. وينطبق هذا على كرواتيا التي تقدمت بما فيه الكفاية حتى يُتوقع أن تنضم رسمياً إلى الاتحاد الأوروبي في 2013، ثم على الجبل الأسود التي منحت وضعية «دولة مرشحة» وبدأت المفاوضات معها في حزيران (يونيو) الماضي بما يسمح لها بأن تنضم إلى الاتحاد حتى 2016. ولكن الأمر يختلف مع مقدونيا وصربيا بسبب الظروف الداخلية والخلافات الثنائية، فقد تجمد انضمام مقدونيا إلى حلف شمال الأطلسي في 2008 والتقدم نحو بروكسيل نتيجة للفيتو اليوناني بسبب اسم الدولة (جمهورية مقدونيا) الذي تعتبره اليونان من تراثها القومي. وقد تركت بروكسيل لليونان وجمهورية مقدونيا أن تتفاوضا وتتوصلا إلى اتفاق حول الاسم. ولكن الأمور بقيت على حالها منذ 2008، إذ إن سكوبيه كانت تتوقع من أثينا أن تتنازل قليلاً مع انشغالها بالأزمة الاقتصادية المتفاقمة فيها منذ 2009 بينما كان موقف أثينا يحافظ على تصلبه وحتى أنه يتشدد بسبب توجهات الشارع القومية.
أما المفاجأة الأخرى في «تقرير التقدم»، فكانت تتعلق بصربيا وكوسوفو. فمع أن صربيا عايشت انعطافاً واضحاً نحو بروكسيل بعد فوز الحزب الديموقراطي برئاسة بوريس تاديتش في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في 2008 فخرجت من عزلتها السابقة وحصلت على حوالى عشرة بلايين دولار لإنجاز الإصلاحات وإنعاش الاقتصاد، وتوّجت ذلك في آذار (مارس) الماضي بالحصول على وضعية «دولة مرشحة»، إلا أن بروكسيل لم تحدد موعداً لبدء التفاوض مع بلغراد بسبب تردد الرئيس تاديتش في تلبية مطالب بروكسيل بـ «تطبيع العلاقات» مع كوسوفو. وقد قيل آنذاك بالتلميح ويقال الآن بالتصريح (جريدة «داناس» البلغرداية 11/10/2012) إن بروكسيل تخلّت عن تاديتش وأملت مع وصول المعارضة القومية (حزب التقدم الصربي والحزب الاشتراكي الصربي) في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في نيسان (أبريل) الماضي بأن تصل إلى ما تريد. وبالفعل، فقد حفلت الشهور السابقة بعد تأليف الحكومة الائتلافية من «حزب التقدم الصربي» و «الحزب الاشتراكي الصربي» بتصريحات قوية عن استعداد بلغراد للدخول في «حوار سياسي» مع بريشتينا لحل الإشكالات بينهما من دون أن يعني هذا بالضرورة اعتراف بلغراد باستقلال كوسوفو.
ولكن في الوقت الذي حفلت فيه الصحافة الصربية والكوسوفية بالتوقعات حول المستوى السياسي للحوار (بين رئيسي الدولتين توميسلاف نيكوليتش وعاطفة يحيى آغا أو بين رئيسي الحكومتين إيفيتسا داتشيتش وهاشم ثاتشي) خرج رئيس «الحزب الاشتراكي الصربي» ورئيس الحكومة الصربية داتشيتش بتصريح مفاجئ عشية الإعلان في بروكسيل عن «تقرير التقدم» يقول فيه إنه يعتقد «شخصياً» أن أفضل حل لصربيا وكوسوفو هو تقسيم كوسوفو، وهو ما يفهم منه ضم شمال كوسوفو (جيب متروفتسا) ذي الغالبية الصربية الى صربيا. ويبدو أن هذا التصريح لداتشيتش صدم بروكسيل، مع أنه أكد أنه يعبّر فيه عن رأيه الشخصي وليس عن رأي الحكومة الصربية، ولذلك فقد أدخلت في الـ 24 ساعة الأخيرة جملة جديدة في «تقرير التقدم» تشترط على بلغراد «احترام الوحدة الترابية لكوسوفو» شرطاً لتحديد موعد للبدء بالمفاوضات حول الانضمام إلى الاتحاد. و كان من الطبيعي أن تؤدي مثل هذه الجملة في «تقرير التقدم» إلى صدمة مضادة في بلغراد لأنها أوضحت بشكل نهائي موقف بروكسيل من الفصل بين المسارين الصربي والكوسوفي بتبديد أي وهم حول «تقسيم كوسوفو» وقبول صربيا في الاتحاد بخريطة جديدة.
ومن ناحية أخرى، فقد حفل «تقرير التقدم» بمفاجأتين أخريين، فقد قررت بروكسيل أخيراً فتح الطريق إليها أمام كوسوفو وذلك بالإعداد لتوقيع «اتفاقية الاستقرار والشراكة» التي تعتبر الخطوة الأولى باتجاه الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ومن ناحية أخرى، تضمن «تقرير التقدم» صورة سلبية عن البوسنة، إذ إنه قال بديبلوماسية إن «التقدم محدود»، ولكنه شدّد كثيراً على الانقسام الحاصل في البلاد مع القول إن «القادة الـسـياسيين لا يمـتلكون رؤية مشتركة حول الاتجاه العام ومستقبل البلاد» .