روابط الأخوة في العراق بين الصورة المثالية والواقع المفجع
نماذج الرابطة الأخوية نجدها غالباً في التراث المحكي من روايات وامثلة حكمية ونادراً في حالات واقعية، واكثرها من طرف واحد لا طرفين. الحكاية التالية المتداولة بين وعاظ الانترنت تصف النموذج المثالي أنقلها لكم كما وردتني:
(يحكى أن أخوين يعيشان في مزرعة، وكان أحدهما متزوجاً ولديه عائلة كبيرة والثاني أعزب، وكانا يتقاسمان كل شيء بالتساوي الإنتاج والربح . وفي أحد الأيام حدث الأخ الأعزب نفسه: إن تقاسمنا أنا وأخي للإنتاج والأرباح ليس عدلاً فأنا بمفردي واحتياجاتي بسيطة، فكان يأخذ كل ليلة من مخزنه كيساً من الحبوب ويزحف به عبر الحقل من بين منازلهم ويفرغ الكيس في مخزن أخيه، وفي نفس الوقت قال الأخ المتزوج لنفسه: ليس عدلاً أن نتقاسم الإنتاج والأرباح سوياً، فأنا متزوج ولي زوجة وأطفال يرعونني في المستقبل، وأخي وحيد لا أحد يهتم بمستقبله، فصار يحمل كل ليلة كيساً من الحبوب ويفرغه في مخزن أخيه. وظل الأخوان لسنين طويلة لأن ما عندهم من حبوب لم يكن ينفذ أو يتناقص أبدا، وفي ليلة مظلمة قام كل منهما بتفقد مخزنه وفجأة ظهر لهما ما كان يحدث، فأسقطا أكياسهما وعانق كل منهما الآخر.)
ما اسعدهما واتعس حظي فأنا لم اذق مثلهما طعم الأخوة الحقة، إذ لم ألق من أخوتي سوى البغضاء والحسد والنفور والجحود، ابغضني بعضهم لأني وعلى النقيض منهم اخترت طريق الفضيلة لا الرذيلة، وحسدني آخرون على القليل الذي حصلته بالكد والتعب، ونفروا مني لانني رفضت ذل العيش تحت حكم الطاغية، ومن مددت يدي له بالعون من دون منٌ أو أذى كافأني بالجحود والانكار.
سواءً كانت الحكاية من نسج الخيال أم من الواقع فمن المؤكد بانها لا تنطبق كثيراً على الحالة في العراق، وليس مقبولاً الاستدلال من تجربتي الشخصية، فهي حالة واحدة لا عينة دراسية ممثلة للمجتمع العراقي، وإن كانت مثيلاتها كثر، ولكني سأكتفي بذكر حالة اخرى، وهي وإن حدثت قبل أكثر من نصف قرن إلا أنها تعكس أعرافاً اجتماعية ما زالت مؤثرة في فكر وسلوك شريحة واسعة من العراقيين.
اقدم أحد أفراد عشيرة معروفة في جنوب العراق على قتل أخيه رئيس القبيلة طمعاً بالمشيخة والرئاسة، لم يكن حدثاً غير مسبوق، ويتناقل مؤرخون ورواة اسماء رؤساء قبائل أو مشيخات قبلية استحوذوا على الرئاسة أو المشيخة بقتل اخوانهم أو أقاربهم، وعلى سبيل المثال أقدم الشيخ مبارك جد السلالة الحاكمة في الكويت قبل أكثر من قرن على قتل اخيه الشيخ وأخ ثان ليحوز على المشيخة، ولكن المختلف في حالة الشيخ العراقي الذي قتل أخاه هو ما كتبه قريب لهما ونشره في كتاب تبريراً لهذا الفعل ( فريق آل المزهر آل فرعون. القضاء العشائري. بغداد: مطبعة النجاح، 1941، ص 62):
[ ولكن هذا الرجل الذي قتل ابن عمه أو أخاه إذا أجلي فهو يحترم من مراحل جلائه للمنزلة الرفيعة التي كان يتمتع بها، كما أنه لا ينظر بنظر المجرم العادي بل بنظر الرجل الطموح، فتراه بين ظهراني القبيلة التي اتخذها مركزاً لسكناه من جلائه هذا إذا دخل عليهم أو حل في نواديهم يقومون له إجلالاً ويحترمونه احتراماً ما يحترم الرجل الشجاع لطموحه في الزعامة وحبه للسيطرة وشغفه بالنفوذ، وإذا وجد رجل يتصف بهذه الصفات يجب أن يحترم، فإنه إنما أقدم على القتل لا لأمر دنيء، بل لأمر خطير بعيد عن الدناءة، فيجب على القبيلة التي يحل بساحتها أن تحترمه]
يؤكد المؤلف وهو الخبير بالقضاء والعرف العشائري أن الحكم الفصل في قضية قتل الأخ لأخيه هو لعرف القبيلة لا شرع الله، وجزاء قاتل أخيه طمعاً بالرئاسة هو الجلاء فقط، كما ينبغي على الجميع احترام قاتل أخيه، فهو رجل طموح، ويستحق منا الوقوف له اجلالاً، لأنه أثبت شجاعته في قتله لأخيه، وبرهن على طموحه للزعامة، وما حبه للسيطرة وشغفه بالنفوذ إلا فضائل يحمد عليها، وهو ابعد ما يكون عن الدناءة.
هذا هو شرع القبيلة وقانون القبليين، وهو مخالف لشرع الله، بل بالضد منه تماماً، إذ يقول الله في محكم كتابه الكريم:
“وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ”. (المائدة: 27-31)
الله في قرآنه المجيد في صف ابن آدم القتيل التقي المظلوم، أما شرع القبليين العراقيين فهو في الجانب الآخر، يناصر ابن آدم القاتل الظالم الخاسر، مع فارق مهم، هو أن ابن آدم القاتل ندم على قتل أخيه، أما العراقي قاتل أخيه فهو غير نادم، بل ينتظر من الذين يحل بينهم التقدير والاجلال والاحترام.
في العراق يعترف الدستور بالقبلية، ويستغلها الساسة وبعض رجال الدين، ويحتكم لها الأفراد في حل نزاعاتهم وقضايهم، لذا لا يستاء أحدكم من إساءات أخوانه، ولا يرهق علماء الاجتماع أنفسهم بالبحث عن اسباب استسهال الإرهابيين من العراقيين وغيرهم لسفك دماء أخوتهم في الوطن والدين وحتى القبيلة فهم كلهم قبليون أو متبعون لأعراف القبيلة، وقد بلغ بهم وبأسلافهم التعلق بهذه الأعراف حد تحوير شرع الله ليجيز لهم قتل الأبرياء من أجل السلطة والتسلط، ولا عجب أن تمسك حاكم بالسلطة وكأنها العروة الوثقى لأن القوة يعلى ولا يعلى عليها في ناموس القبلية، ولا غرابة أن ارتفعت مكانة المختلسين والمرتشين بين القبليين لأن الثروة غاية عظمى عندهم تبرر لهم كل الوسائل.
لا دين مع القبلية لأنها دين القبليين الذين يحتكمون لشرعها، ولا مواطنة مع القبلية لأنها محتكرة للولاءات، ولا أخوة حقة مع القبلية لأن أعرافها تضحي بها في سبيل شهوة الملك والقوة والسيطرة، ولا مستقبل مع القبلية لأنها رمال متحركة، والحركة الوحيدة فيها هي نحو الأسفل والموت اختناقاً، ولنتذكر بأن الله وصف آبن آدم القاتل بالخاسر، وهو الوصف المنطبق تماماً على العراق في الماضي والحاضر.
اللهم إني أبرء إليك من القبيلة وأعرافها ومن أخوة القبليين ومن وطن يعترف دستوره ونظامه السياسي ورجال دينه بالقبلية.
30 أيلول 2012م