ولأجل توضيح معاني ومفاهيم آية المؤذّن نرى من اللازم أن نبدأ بالآيات التي قبلها : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلوُا الصّالِحاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً اِلاّ وُسْعَها اُولئِكَ اَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خالِدُون).
جملة (لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً اِلاّ وُسْعَها) جاءت كجملة معترضة في الآية أعلاه وتشير إلى نكتة مهمة، وهي أن جميع الأشخاص لا يستوون في الإيمان والعمل الصالح ولا يصحّ أن يتوقع الإنسان من جميع الناس التساوي في الإيمان والعمل الصالح، بل كلُّ شخص يُكلّف بمقدار قدرته وإدراكه ولياقته، وبدون شك أن إيمان الإمام علي (عليه السلام) وسلمان وأبي ذرّ ليس بمستوى إيمان سائر الناس، ولذلك فالمتوقع من هؤلاء الأشخاص الأولياء غير ما يتوقع من الأشخاص العاديين، والخلاصة هي أن كلُّ إنسان مؤمن يدخل الجنّة بحسب قابليته وإيمانه وعمله الصالح.
(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ).
فهنا تتحرّك الآية الشريفة لبيان صفات المستحقين للجنّة بعد ورودهم إليها فأوّل ما يواجه المؤمن لدى دخوله الجنّة هي أن الله تعالى يطهر قلبه من أدران الحسد والحقد تماماً ويعود إليها الصفاء والطهر والخلوص، وكلمة «غلّ» تقال لحركة الماء الخفية تحت النباتات، وبما أن عنصر الحسد والحقد يتحرك في قلب الإنسان بصورة خفية ومستورة فلذا قيل عنه بأنه «غلّ».
سؤال : هل يعقل أنّ أهل الجنّة يعيشون الحسد والحقد ومع ذلك يدخلهم الله الجنّة ؟
الجواب : يستفاد من بعض الروايات أن بعض الدرجات الخفيفة للحسد والحقد يمكنها أن تكون لدى المؤمن وما لم يظهرها الإنسان لا تحسب ذنباً ومعصية ولا تتنافى مع الإيمان(المنار، ج 8 ، ص 421 نقلاً عن التفسير الامثل
)
، وبهذا فإنّ الله تعالى يطهّر قلوب هؤلاء المؤمنين من أهل الجنّة من هذه الدرجة الضعيفة من الحسد والحقد ليعيشوا في الجنّة بكامل السعادة والطمأنينة والراحة النفسية.
(تَجْري مِنْ تَحْتِهِمُ الاَْنْهارُ) إنّ أهل الجنّة يسكنون في قصور وبيوت تجري من تحتها الأنهار، أي أن الله تعالى قد بنى لهم هذه القصور والبيوت على الأنهار الجارية، وهذا من جملة النعم الاُخروية على أصحاب الجنّة والتي وردت في الكثير من الآيات الشريفة.
(وَقالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ اَنْ هَدانا اللهُ لَقَدْ جائَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) فعندما يشاهد أهل الجنّة كلُّ هذه النعم العظيمة والألطاف الإلهيّة الجليّة يتوجهون إلى ربّهم من موقع الشكر والثناء ويقولون : الحمد الذي هدانا لهذه النعم والمواهب الكثيرة ولولا عناية الله ورعايته ما كنّا لنهتدي إليها ولا نسلك الطريق إلى الجنّة، وأنّ رسل الله وأنبياءه كانوا يقولون الحقّ، أجل، فإنّ أهل الجنّة يعترفون بأن الهداية التشريعية للأنبياء والأولياء والكتب السماوية وكذلك الهداية التكوينية المنبعثة من الجوانب النفسانية والفطرية المودعة في وجود الإنسان هي التي أدّت بهم إلى اختيار طريق الجنّة وكسب رضا الله تعالى ونيل ألطافه وعناياته.
(وَنُودُوا اَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ اُوْرِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فبعد أن يشكر أهل الجنّة الله تعالى على عظيم نِعمه التي لا تحصى يقال لهم أن أدخلوا الجنّة فهي التي ورثتموها بأعمالكم.
(وَنَادَى اَصْحابُ الْجَنَّةِ اَصْحابَ النّارِ اَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً) فعندما يستقر أهل الجنّة في مساكنهم وقصورهم وينظرون إلى ما حولهم بحثاً عن أصدقائهم ومعارفهم لا يجدون أفراداً منهم ويدركون أنهم صاروا من أهل النار وحرموا الورود إلى الجنّة وبذلك يخاطبون أهل النار :
«إننا قد وجدنا ما وعد ربُّنا حقّاً وقد تبيّن لنا صحّة الطريق الذي سلكناه في الدنيا وأوصلنا هذا الطريق من خلال الإيمان والعمل الصالح إلى الجنّة وحظينا بجميع ما وعد الله تعالى للمؤمنين فهل وجدتم ما وعد ربُّكم حقّاً ؟ هل تحققت وعود الله في حقّكم من العقاب على ما ارتكبتم من الذنوب والجرائم ؟
«قالُوا نَعَمْ» وهكذا يجيب أهل النار على هذا السؤال بالإيجاب وأن الله قد أنجز ما وعدهم من العذاب والعقاب الاُخروي.
سؤال : لماذا يسأل أهل الجنّة هذه الاُمور من أهل النار ؟
الجواب : يحتمل أن سؤالهم كان لغرض تحصيل إطمئنان أكثر وإيمان أعلى بما وعد الله رغم أن أهل الجنّة يؤمنون بجميع ما وعدهم الأنبياء من اُمور الغيب ويعتقدون به ولكنهم عندما يرون ذلك باُمّ أعينهم أو يسمعون من أهل النار تحقّق الوعيد الإلهي بحقّهم فإنّ إيمانهم سيزداد ويتعمق أكثر.
الإحتمال الآخر هو أنهم يسألون أهل النار من أجل التهكم والذم والتقريع لهم كما كان أهل النار يلومون المؤمنين في الدنيا ويذّمونهم ويسخرون منهم على اعتقاداتهم وإيمانهم بالغيب فهذه المساءلة نوع من المقابلة بالمثل.
(فَاَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ اَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظّالِمينَ) كختام للمحاورة المذكورة بين أهل الجنّة وأهل النار لابدّ وأن يكون هناك من يختم هذا الحوار ولذلك ورد النداء الإلهي «أن لعنة الله على الظالمين» وتنتهي بذلك المساءلة ويسدل الستار على هذه المحاورة.
من هو المؤذّن ؟
سؤال : من هو المؤذّن في الآية 44 من سورة الأعراف ؟ ومن هو هذا الشخص الذي يختم الحوار المذكور بالنداء الإلهي والذي توحي الآية أن له سلطة على الجنّة والنار والقيامة ؟ ومن هو هذا الشخص الذي يسمعه جميع الناس في ذلك اليوم ويختم بكلامه عملية المحاورة بين أهل الجنّة وأهل النار ؟
الجواب : هناك روايات متعددة مذكورة في مصادر الشيعة وأهل السنّة تؤكد على أن
المؤذّن هو الإمام علي (عليه السلام)، وعلى سبيل المثال نشير إلى نماذج منها :
1 ـ أورد الحاكم الحسكاني الحنفي من أهل السنّة في «شواهد التنزيل» عن محمّد ابن الحنفية عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال :
«أَنا ذلِكَ الْمُؤذِّنُ».
وروى الحاكم بسنده عن أبي صالح عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال : قال علي(رضي الله عنه) : في كتاب الله أسماء لي لا يعرفها الناس منها المؤذن(1).
2 ـ وكذلك نقل الحافظ أبو بكر ابن مردويه في كتاب «المناقب» أن المؤذّن هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)(2).
3 ـ ونقل الآلوسي أحد المفسّرين المعروفين من أهل السنّة في تفسير «روح المعاني» عن ابن عبّاس أنه قال :
«اَلْمُؤَذِّنُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ»(3).
4 ـ وذكر الشيخ سليمان القندوزي مؤلف كتاب «ينابيع المودّة» في كتابه هذا أن المراد بالمؤذّن هو عليّ بن أبي طالب(4).
--------------------
1-نقلاً عن احقاق الحقّ : ج 3، ص 394.
2 . نقلاً عن احقاق الحقّ : ج 3، ص 393.
3 . روح المعاني : ج 8، ص 107 (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج 3، ص 393).
4 . ينابيع المودّة : ص 101 (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج 3، ص 393).
5 . مناقب المرتضوي : ص 60 (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج 3، ص 393).