استوقفني تعقيب وضّاح خُنفر مدير عام قناة الجزيرة السابق علي نشر موقع ويكيليكس لبرقية تتحدث عن لقاء جمعه ومسئول إستخباراتي أمريكي..فقد نفي خُتفر ما ادعاه ويكيلكس من استجابة للضغط الأمريكي بعدم نشر محتوي استخباراتي أمريكي..أعقبه بتعقيب بسيط وكأنه توضيح لما جري..قال أن الذي حدث هو إشكال بسيط مع المخابرات الامريكية عن قيام القناة علي إعداد برومو"إعلان" يعرض فيه صور بعض ضحايا الحرب العراقية وفي خلفيتها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش..وأثناء العرض يتم عرض موسيقي حزينة..إلي هنا قد لا يلحظ أحد خُبث ذلك الأخطبوط الإعلامي وكأن هذا البرومو هو إعلان عادي غير مؤثر..
تعالوا لنتصور المشهد أكثر:
في الجزء الثالث من الشريط قلنا ما يلي"أساس التفكير ينبع من العقل..ولا عملية تفكير دون وجود معلومة تساعد العقل علي التصور فيما يُعرف بإدراك الأشياء..هكذا تبدو أن عملية التفكير مرتبطة بالحواس ولكن الأصل فيها هو العقل..وطالما كانت الحواس مقيدة وفاقدة لوظيفتها بدون وصول المعلومة إليها فلا يُمكن تكوين رأي أو قرار دون إخضاعه للمؤثر..فالمؤثر هنا هو الواقع الخارجي -وسيط ومصدر المعلومة-والأثر هنا هو الحاسة وحالتها والقرار المُنبني عليها صحة لمسها للأشياء...إذا نستنتج من هذا أن الواقع الخارجي بمصدر المعلومة ووسائط نقلها هو المُرجح لتكوين رأي وقرار للإنسان، وبما أن المعلومة لذاتها بحاجة لمصدر ووسيط ينقلها إلي حواس الإنسان فالمصدر الوسيط كلاهما متهمان..المصدر هو الإعلام والوسيط هي الحالة الثقافية والتوعوية للشعوب.."....ذلك بتوضيح مسبق عن شكل الضربة الإعلامية في الجزء الأول.. ."أما الإعلام فدكتاتوريته لامركزية تتشعب أذرعه كالأخطبوط يسلك فيه مقام القوة الناعمة فيسلب أول ما يسلب الوعي والإدراك..ومن ثم ينتقل للمرحلة التالية وهي التوجيه والحشد "
معني هذا أن البرومو هو عبارة عن تجميع لفلسفة عميقة تستهدف الوعي والشعور بالأساس....ولا علاقة لها بالمصداقية أكثر من الحشد والتجييش..فالصورة التي ستنطبع في الذهن من أثر البرومو هي إدانة للرئيس بوش وتحميله تلك الجرائم المعروضة..وبالموسيقي الحزينة التي تخاطب الوجدان تقضي علي أي عامل مقاوم لتلك العملية التي تستهدف بالأصل وعي الإنسان وإدراكه...فإذا كانت الجزيرة استجابت للضغط الأمريكي ومنعت إذاعة البرومو..في حين نري الآن عشرات وربما مئات من تلك الإعلانات الدعائية التي تتخلل الفواصل في محاولة لسلب وعي المشاهد ووضعه في حالة انتباه تمهيدا لتوجيهه..ذلك أشبه بما يكون النائم من أثر التنويم المغناطيسي..فلماذا تقف الحالة الإعلامية التحشيدية علي الدعاية أكثر من المصداقية وإلا لرفض الإستجابة للضغوط..
سيقول قائل ولماذا لا علاقة لها بالمصداقية..أقول أن المصداقية تعني الحقيقة..ولا مصداقية مع حقيقة منقوصة..والمشهود للإعلام الخليجي وخاصة قناتي الجزيرة والعربية أنهما يستخدمان نفس الأسلوب في التجييش والتعبئة النفسية والروحية ضد طرف..في حين يتغاضون بشكل متعمد عن جرائم الطرف الآخر والذي لا يقل وحشية ..أيضا وكما يتبنيان خطابا ثوريا في بلاد معينة نجدهم يعادون نفس الخطاب في بلاد وضد شعوب أخري..مما يُخرج الفِعل من سياقه الإصلاحي إلي سياق آخر أكثر براجماتية ملئ بالديماغوجية التي أصبحت هي الأخري وسيلة حصرية لرفع مستوي التأهب الشعبي..
في الواقع لا أجد إعلاما ينقل الحقيقة كاملة في هذا الوقت .نقريبا أي وسيلة إعلامية موجودة حاليا لاتعمل إلا لصالح أصحابها أو من يساندها سواءا كان شخصا أو تيارا أو دولة..لذلك فمن يبغي الحقيقة لن يقف علي مصدرا إعلاميا معينا عسي أن يفلت من بين براثن الاخطبوط..وسوف يبحث عن ضالته في التعدد المصادري للإعلام..وإن كان علي شكل الرأي والرأي الآخر..فكم من الأشخاص والتيارات والفئات والشعوب التي ظُلمت عمدا مع سبق الإصرار والترصد..فقط كونهم يفتقدون للآلة الإعلامية التي تمكنهم من الذود عن أنفسهم..ونحن بدورنا وطالما أردنا الحق فلا نستسلم لأثر البرومو ونعمل علي إنشاء برومو معاكس يرفع الظلم والقهر..وينقل الحقيقة كاملة..فقط من أجل السلام والنهضة..
أستوقفتني مقولة الحاخام الإسرائيلي "يريتسورن " الذي قالها داخل اجتماع يهودي في القرن التاسع عشر إذ يقول.." إذا كان الذهب هو القوة الاولى في العالم، فإن الصحافة هي القوة الثانية. ولكنها لا تعمل من غير الأولى وعلينا بواسطة الذهب أن نستولي على الصحافة، وحينما نستولي عليها نسعى جاهدين لتحطيم الحياة العائلية والاخلاقية والدين والفضائل الموجودة لدى البشرية عامة"..كلمة خطيرة تزيل القداسة عن الإعلام بعدما تبين أن المال والإعلام وجهين لعُملة واحدة..فأينما وجدت المال فستجد الإعلام..وأينما وجدت الإعلام فاعلم أن المال ليس بعيدا..
إن الوظيفة الأصلية للإعلام ليست في النقل أوالتحرير أكثر من كونه آداة تثقيف وتنوير مجتمعية تنهض بالشعوب من ظلام الجمود إلي نور الإنطلاق..نحسب أن هناك جهاتا إعلامية تلتزم بهذه القيمة قدر استطاعتها..ومع ذلك نحسب أن الأغلبية لا تلتزم وتستعمل تلك القوة الجبارة"الإعلام" لخدمة شخوص أو جهات قد يكونون حلقات متصلة لهدم الروح والمجتمع عبر إعلاء نزعات متفق عليها من قبل..وهو ما أشرنا إليه في السابق بالتأثير علي الحواس..فوظيفة الإعلام المضلل ليست موجهة أصلا إلي العقل بل إلي الحواس ..لأن العقل سينتبه إلي تلك الوظيفة القذرة ويكشفها-وقد حدث ذلك عدة مرات-بينما الحاسة فهي غير قادرة علي التمييز إذا ما كانت المادة المعلوماتية مُخاطبة للأيدلوجيا كمرجعية تُسيطر علي القلب .