اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
******الإمامة في ذريّة إبراهيم ****
الآية التي نريد بحثها، تتصل بمفهوم الإمامة بالمعنى الذي يعتقد به الشيعة. إن ما يذهب إليه الشيعة في هذه الآية أنها تفيد وجود حقيقة أخرى باسم الإمامة، وهذه الحقيقة لم ينحصر وجودها بعد رحيل نبي الإسلام، بل هي تعود إلى زمن ظهور الأنبياء، وهي باقية في ذرية إبراهيم ماكثة فيهم إلى يوم القيامة.
والآية التي نعنيها قوله تعالى في سورة البقرة {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}1.
ابتلاء نبي الله إبراهيم (عليه السلام)
لقد تحدث القرآن عن الابتلاءات التي نزلت بإبراهيم (عليه السلام)، وأشار لثباته في مواجهة نمرود والخط النمرودي، وكيف أنه أبدى استعداده كي يحرق بالنار في الثبات على المواجهة، ثم أشار إلى بقية ما وقع له.من ذلك، الأمر المدهش الذي نزل به، والذي لا طاقة لأحدٍ به، إلا الإنسان الذي يسلّم لأمر الله تماما ويعبده مطلقا.لقد رزق عليه السلام وهو في شيخوخته،من زوجته هاجر، ولدٌ كان هو الأول جاء بعد انقطاع الذرية. وفي هذه اللحظة يأتيه الأمر أن يغادر الشام وسورية ويذهب تلقاء الحجاز، حيث عليه أن يترك زوجته ووليده وحيدين هناك، ويغادرهما.لم يكن هذا الأمر يتسق مع أي منطق سوى منطق التسليم المطلق فقد كان ذلك أمر الله (كان يحس ذلك عن طريق الوحي) فهو إذن مُطاع. يقول تعالى - فيما حكاه عن إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} 2 .
تعني الإمامة أن يبلغ الإنسان حدّ ما يُصطلح عليه بالإنسان الكامل، وهذا الإنسان يتحول بتمام وجوده إلى مقتدىً للآخرين. وعندما جُعلت الإمامة لإبراهيم، فكَّر بذريّته فوراً، فجاءه الجواب {"لا ينال عهدي الظالمين"}.
كان إبراهيم يعرف عن طريق الوحي الإلهي مآل الأمر ونهايته، ولكنه خرج من هذا الاختبار على أحسن ما يكون.
ذبح اسماعيل (عليه السلام):
المسألة الثانية التي جاءت أمضى من الأولى، هي الأمر بذبح ولده. فقد جاء الأمر أن يذبح ولده بيده في منطقة منى، التي نحظى فيها الآن بإحياء ذكرى ذلك التسليم المطلق الذي أبداه إبراهيم، بتقديمنا للأضاحي والقرابين.
بعد أن تكرّر عليه الأمر في عالم الرؤيا مرتين وثلاث، أمسى على يقين أنه إزاء الوحي الإلهي، لذلك فاتح ولده بالقضية، فما كان من الابن إلا أن قال بتسليم ودون نقاش {"يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ}"3 .
يأتي القرآن ليجسد اللوحة على نحو مدهش عجيب، وهو يقول: {"فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}"4. أي حينما أمضيا الأمر، بحيث لم يشك إبراهيم أنه فاعلٌ وأنه ذابح ولده لا محال، وأيقن إسماعيل أنه مذبوح.. لما فعلا ذلك بمنتهى الاطمئنان واليقين جاءهما النداء: {"وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَد صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}"5.
والمعنى أن هدفنا لم يكن ذبح إسماعيل وفصل رأسه عن جسده، ولم يصدر القرآن بأمر ينهى فيه إبراهيم عن الذبح، بل قال (قد صدقت الرؤيا). أي: بتنفيذك عمليا ما هو مطلوب انتهى المشهد، لأن الهدف لم يكن - كما ذكرنا - ذبح إسماعيل، بل ظهور الإسلام والتسليم منك أنت الأب ومن ولدك. وهذا ما كان.
النص القرآني واضح في أن إبراهيم عليه السلام وُهِبَ الذرية على كبر، فهذه زوجه عندما جاءت الملائكة تبشره بالغلام، تقول: {"أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا". ردت الملائكة "أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}"6
لقد جاءت ذريه ابراهيم إذن وهو شيخ، وعندما جاءته الذرية كان نبيا، ولما كانت الآيات التي جاءت في القرآن عن إبراهيم عليه السلام كثيرة، فالمستفاد منها، أنه وُهب الذرية وهو على كِبر سنٍّ في السبعين أو الثمانين، بعد أن كان نبيا. ثم بقي حيّاً بعد ذلك عقدا من السنين أو عقدين حتى كبر إسحاق وإسماعيل، وقد بلغ إسماعيل من العمر مبلغاً شارك أباه إبراهيم عليه السلام في بناء الكعبة.
يشير قوله تعالى: {"وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}"
(البقرة/124). إلا أن الإمامة وهبت لإبراهيم بعد أن أتم ما نزل به من ابتلاءات.
والسؤال: متى كان ذلك، وبأي زمان تتصل الآية؟هل هي محددة بأوائل عمر إبراهيم؟
الشيء المؤكد أنها لا شأن لها بفترة ما قبل النبوة من حياة إبراهيم، لأنها تتحدث عن الوحي، وهو شأن من شؤون النبوة.
هي إذن تتصل بمرحلة النبوة، ولكن هل كان ذلك أوائل عهد إبراهيم بالنبوة؟
كلا، بل هي ترتبط بأواخر عهد النبوة، بدليلين،
الأول: أنها تتحدث صراحة عن أن ذلك حصل بعد الابتلاءات. وما أبتلي به إبراهيم حصل جميعه في عهد نبوته، وقد نزل به أهمها وهو في أواخر عمره.
الثاني: تذكر الآية في سياقها الذرية في قوله: (ومن ذريتي) أي كان له حين الآية ذرية (والذرية جاءته آخر عمره وهو شيخ بنص القرآن).
الآية تقول لإبراهيم: إنا نريد أن نهبك آخر عمرك شأنا آخر، ومنصبا مستقلا (غير النبوة، لأنه كان نبي) يعبر عنه قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}.
الشيء الواضح أن إبراهيم كان قبل الهبة الجديدة نبيا وكان رسولاً، طوى المراحل جميعا إلا واحدة، لم يكن ليبلغها إلا بعد أن يتم جميع الابتلاءات 7.
ألا يشير ذلك كله إلى أن في منطق القرآن حقيقةً أُخرى أسمها الإمامة؟
والآن ما معنى الإمامة؟
الإمامة عهد الله
تعني الإمامة أن يبلغ الإنسان حدّ ما يُصطلح عليه بالإنسان الكامل، وهذا الإنسان يتحول بتمام وجوده إلى مقتدىً للآخرين. وعندما جُعلت الإمامة لإبراهيم، فكَّر بذريّته فوراً، فجاءه الجواب"لا ينال عهدي الظالمين".
هذا النصُّ أطلق على الإمامة عنوان "عهد الله".
من هنا ما ذهبنا إليه نحن - الشيعة - من أن الإمامة التي نعتقد بها هي أمرٌ يرتبط بالله، ولهذا ترى القرآن ينسبه إليه سبحانه، فيقول "عهدي"، فهي ليست عهدا من عهود الناس.
وعندما نعرف أن الإمامة هي غير الحكومة، فلا نعجب إذن أن تكون أمرا مرتبطا بالله.
هناك من يسأل قائلا: هل الحكومة أمر يرتبط بالله أم بالناس؟
نقول في الجواب: إن هذه الحكومة التي نتحدث عنها في هذا المجال هي غير الإمامة.
الإمامة عهد الله، وعهد الله لن يكون في الظالمين من ذرية إبراهيم.لم يُجِب القرآن على سؤال إبراهيم(ومن ذريتي) بالنفي المطلق، كما لم يأت بالتأييد المطلق. بل ميز بين فئتين من الذرية، ولأنه استبعد الظالمين منهم من دائرة هذا العهد، فهو يبقى إذن في غير الظالمين. وهذه الآية تدل على بقاء الإمامة في ذرية إبراهيم اجمالا.
وآية أخرى
ثم في القرآن آية أخرى في هذا المضمار، هي حول إبراهيم أيضا، يقول فيها تعالى: {"وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}"8. وفي هذه الآية دلالة على أن الإمامة حقيقة باقية في نسل إبراهيم.
الهوامش:
1- البقرة/1242- إبراهيم373- الصافات1024- الصافات103
5- الصافات104-1056- هود: 72-73 7- في الحديث الشريف:"إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، وإن الله أتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما، فلما جمع له الأشياء، قال:"إني جاعلك للناس إماما"، قال: فمن عِظمها في عين إبراهيم، قال: ومن ذريتي". الكافي، ج 1،ص175، كتاب الحجّة، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة، الحديث2.المترجم