بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ، إلى قيام يوم الدين .
قال تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ )
هذه الآية الكريمة نصّت أنه سيكون بعد وفاة الرسول (ص) إنقلاب على الأعقاب ، ورجعة للناس عن الإسلام ، وهذا من الغيبيات التي أخبر بها القرآن الكريم .
وفعلا ، تحقق هذا الغيب الذي أخبر به الله تعالى ، على لسان خاتم انبياءه ، فوقع الخلاف بعد الرسول (ص) على الخلافة ، وافترقت الأمة ، ووقعت الحروب الداخلية ، في زمن الخليفة الأول والتي سميت بحروب الرّدة ، ثم إستقرّت الأمور ، وبعد مايقارب الربع قرن ، تصدى أمير المؤمنين علي (ع) للخلافة ، وأيضاً وقعت فيها حروب داخلية كبيرة وعظيمة ، ولست بصدد إستعراض لتلك الحروب ، وأسبابها ، وبيان الحق والباطل فيها ، لافي زمن الخلافة الأولى ، ولافي زمن الامام امير المؤمنين .
ثم جاءت نهضة الإمام الحسين ، والتي كان هدفها الأوحد ، إرجاع الأمة إلى ماكانت عليه على عهد الرسول ، وأبيه أمير المؤمنين من أمة تأمر بالمعروف ، وتتناهى فيما بينها عن المنكر ، ولنشر العدالة على كافة المسلمين ، وغير المسلمين الذين عانوا من جور السلطات التي تعاقبت على الأمة ، بعد الرسول سيما في عهد الدولة الاموية .
وبعد إستشهاد الإمام الحسين ، أصبح الصراع فكرياً وعلمياً ، وكان نتيجة ذلك الصراع ، نشوء خمسة مذاهب ، هي التي بقيت ، من أصل مذاهب عديدة تأسست ثم بادت .
المذاهب الاسلامية التي بقيت واستمرت هي المذاهب المعروفة وهي خمسة : المذهب الشيعي والمذاهب السنية الأربعة وهي : الحنبلية والشافعية والحنفية والمالكية .
ولأنّ هذه المذاهب السنية الأربعة ، تتفق في الأصول الإعتقادية ، سميت بتسمية مذهب واحد ، وهو المذهب السني ، بإعتبار إتباعه لسنة النبي محمد ، وتلك المذاهب ترى إنتهاء عصر النص بموت النبي عام 11 للهجرة ، ومن ثم ابتدأ عصر الإجتهاد عندها ، والأخذ فيه كان عن الصحابة والتابعين ، ثم إنتهى عصر الإجتهاد عندهم وأغلق الإجتهاد على أئمة المذاهب الأربعة ، وكان آخرهم أحمد إبن حنبل المتوفي سنة 241 للهجرة .
وأمّا المذهب الشيعي ، فهو مذهب يختلف عن السنة في أصل إعتقادي مهم وهو الإمامة ، ويرى إستمرار عصر النص ، بوجود الائمة ، الذين نص عليهم النبي ، ولهم أدلتهم على ذلك .
وأمّا في الفروع الفقهية ، فالمذاهب الخمسة فيها اختلافات كثيرة ، ومهمة في بعض الحالات ، وسبب الخلاف واضح ، ففي المذاهب السنية الاربعة ، حيث أن كل منهم يرجع إلى أحد مؤسسي المذاهب الأربعة ، وهم مختلفون في إجتهاداتهم ، وأمّا المذهب الشيعي ، فسبب خلافه الرئيسي في الفروع مع المذاهب الأخرى ، هو إستمرار عصر النص بالنسبة اليهم إلى سنة 260 للهجرة ، وهو عصر الغيبة ، فيكون الفارق بين المذهبين ، في إنتهاء عصر النص ، هو حوالي 249 سنة ، ومنذ انتهاء عصر النص عند الشيعة ، انفتح باب الاجتهاد .
وعليه يصبح الفرق واضحا بين المذهبين فإن عصر الإجتهاد إنتهى عند المذاهب السنية ، قبل إنتهاء عصر النص عند الشيعة بعشرين سنة ، حيث إن الشيعة إلى عام 260 لم يكونوا يعملوا بالإجتهاد ، بل يعتمدون على وجود النص .
وقد وقعت نزاعات بين هذه المذاهب ، في بداية نشأتها ، ثم وقعت نزاعات على مرّ العصور ، كان سببها إستغلال بعض المتطرفين من أتباع المذاهب أو اصحاب المصالح السياسية ، للخلافات العقائدية ، ولسنا بصدد بيان الوقائع والحق فيها لاإجمالاً ، ولاتفصيلاً .
والمذاهب هذه متفقة فيما بينها ، إلى أنها لايكفر بعضها بعضا ، وأن من تشهد بالشهادتين ، حكم بإسلامه ، وحقن دمه وماله وعرضه ، إلا إذا أنكر أحد شيئا وكان الإنكار لضرورة من ضرورات الدين ، بحيث يعدّ الانكار راجعا إلى تكذيب النبي والعياذ بالله ، فيحكمون على مرتكب ذلك أنه مرتد عن الاسلام .
واتفقت تلك المذاهب على وجوب مودّة ومحبة ذوي القربى بالنسبة للرسول انسجاماً مع قوله تعالى : (( قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ))
أمّا المذهب السلفي ، فقد ابتدأت نشأته وبذرت بذرته في عهد أحمد ابن تيمية الملقب ب ( شيخ الاسلام ) المولود 661 للهجرة ، حيث كان ظهوره ، بعد إنتهاء عصر الإجتهاد عند السنة ، بحوالي الأربع مئة سنة ، حيث إبتدع امور كثيرة في الإسلام ، وأنكرها عليه علماء عصره من ائمة المذاهب السنية ، وانتقدوا عليه انه خرج عن إجماعهم ، حتى إشتكوا عليه إلى والي مصر ، وبعد مناظرة بينه وبين العلماء ، سجن لمدة سنة ونصف في قلعة الجبل ، ثم أطلق سراحه وأعيد حبسه بعد مدة في برج الاسنكدرية لمدة ثمانية اشهر ، ثم خرج وعاد إلى دمشق ، وعاد فقهاء دمشق إلى مناقشته فيما خالفهم فيه ، وقرروا حبسه في قلعة دمشق ، ثم أفرج عنه بأمر السلطان ثم أعتقل وتوفي في سجن قلعة دمشق عام 728 للهجرة وكان عمره 67 سنة .
ثم بعد إبن تيمية بحوالي الاربع مئة سنة أيضاً ، جاء محمد بن عبد الوهاب المتوفي سنة 1206 للهجرة ، وتأّثر بإبن تيمية وسار على نهجه ، واتبع فتاواه ، بحجة تنقية الاسلام والمسلمين من الكثير من الأمور التي دخلت عليهم من الشرك بالله ، وحالفه الحظ ، وتحالف آل سعود ، وإتفق مع محمد بن سعود على انشاء الدولة السعودية ، وتأسست في نجد ، وكانت عاصمتها الدرعية ، سنة 1774 ميلادية ، وسقطت تلك الدولة على يد العثمانيين عام 1818 على يد العثمانيين ، ثم تأسست الدولة السعودية الحالية بعد صراع طويل ، وتاريخ حافل بالحروب ، ليس هنا محل ذكره وتفصيل تاريخه .
وبذلك تعززت تلك الاراء المتطرفة ، وأصبحت مذهبا ، حيث اعتمدت السعودية المذهب الوهابي ، تبعا لمحمد بن عبد الوهاب هو المذهب الرسمي .
وبسبب موقعية السعودية ، في جغرافيا المسلمين ، واحتضانها للحرمين الشريفين ، وإمكانياتها الإقتصادية الهائلة ، تمكن هذا المذهب ، من الوقوف والصمود ، والحصول على نوع ولو يسير من الانتشار في العالم الاسلامي .
فعلى سبيل المثال البسيط : من جملة ماشرعه إبن تيمية ، إعتبار زيارة القبور من الشرك بالله تعالى ، مع إن القرآن لايحرمها إلا على قبور المنافقين والكفار ( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ) بل في الاية دلالة واضحة على جواز زيارة قبور المؤمنين والاولياء والصالحين ، وكذا ورد في الأخبار ، في صحاح المسلمين السنة ، أن النبي زار قبر والدته ( وفعله حجة ) ، وأنّه أمر بزيارة القبور ، وقال أنها تذكر بالموت والآخرة ، فضلا عمّا ورد في كتب الشيعة من إستحباب ذلك .
إلى غير ذلك من الترّهات والخزعبلات التي إبتدعها إبن تيمية وتابعه عليها إبن عبد الوهاب ، والتي تسببت بسجن إبن تيمية عدة مرات بحكم أصدره عليه علماء أهل السنة في مصر ودمشق ، كما تقدم ، الى أن مات في السجن .
وإلى اليوم نرى المسلمين من أهل السنة ، لايتبعون فتاواه ، ولايعملون برأيه ، فإنك ترى في مصر – على سبيل المثال - مقاماً ومزاراً للسيدة زينب عليها السلام ، ولرأس الحسين ، وكذا نجد قبراً ومسجداً عظيماً وكبيراً للبخاري في أوزبكستان مثلا ، مع أن مسألة البناء على القبور ، وزيارتها ، من الأساسيات التي يحكم ابن تيمية وإبن عبد الوهاب ، فيها بالكفر والشرك بالله .
بل إن من ينظر الى الوهابية السلفية ، وطريقة احكامها ، فلايمكن أن يسميها بالسلفية بالمعنى المدّعى ، بل مقتضى الانصاف ، أن تنعت بالتيارت التكفيرية ، كما تسميها وسائل الاعلام اليوم ، فطريقة السلف الصالح تحديداً ، لم تقم على التكفير والقتل على الصغيرة والكبيرة ، كما يرتكبون هؤولاء في هذه الايام .
بل إننا نراهم ، هم من يبتعد عن المسلمين ، ويكفرهم ، ويقتلهم ، برغم محاولة سائر المذاهب الإسلامية التقرب منهم لأجل رصّ الصفوف ، والحفاظ على وحدة المسلمين في وجه أعدائهم ،
ولكنهم لايبرحون ، ولايوفرون فرصة للنيل من المسلمين ، سيما من الشيعة ، الذين يعدونهم من اعتى اعدائهم ، ويكفرونهم علانيةً ، جهاراً نهاراً ، بل إنهم يفضلون اليهود على الشيعة .
فعلى سبيل المثال وليس الحصر ، تراهم في العراق مثلاً ، يقومون بالعمليات الانتحارية ، ضد الزوار ومواكب العزاء ، بدل أن يقوموا بتدمير أو تفجير ناقلة او دبابة أمريكية ، ونرى أيضا في حرب تموز 2006 ضد لبنان ، يطالعنا إمام الحرم المكي ، ويصدر فتوى بتحريم الدعاء للشيعة بالنصر ( مع أن الدعاء بالنصر هو أضعف من أضعف الإيمان ) في وجه اسرائيل ، التي هي أشد الناس عداوة للذين آمنوا على حد تعبير القرآن الكريم .
وما إلى ذلك من حوادث لاتعدّ ولاتحصى من مواقفهم الحاقدة ، والمشبوهة ضد المسلمين عموماً والشيعة خصوصاً .
وهذا ليس غريبا عن طائفة ، نشأت بعد عصر النص بما يزيد على الألف سنة ، استناداً لمحمد بن عبد الوهاب ، ولم تعترف بالمذاهب الموجودة ، والمتّصلة بعصر النص إجمالاً ، فأخذت مايعجبها من روايات تلك المذاهب ، وتركت الكثير منها .
الى هنا تم بيان تاريخ نشأة المذهب السلفي وظروف نشأته إجمالا ، ومدى بعده عن عصر النص ، وعصر الاجتهاد ، وإبتعاده الواضح عن سائر المذاهب الاسلامية وعن روح الاسلام ، الذي يظهر من فتاواه التي يتبناها ، والعقائد التي يرّوج لها .
والحمد لله رب العالمين .
سماحة الشيخ مرتضى الفقيه العاملي