النقطة التي تزل عليها الأقدام غالباً هي أن الناس متى سمعوا إسم القضاء والقدر ظنوا أنه حتمي وجبري. في حين أن الحق ليس كذلك، فقد يتمثل القضاء والقدر الالهي في اختيار الناس وإرادتهم. وهناك حديث عن الامام علي بن أبي طالب عليه السلام يؤيد هذا الموضوع بوضوح:
"عن أمير المؤمنين أنه قال لرجل سأله بعد انصرافه من الشام فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام أكان بقضاء وقدر؟ قال عليه السلام: نعم يا شيخ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم وادياً إلا بقضاء الله وقدره...".
"فقال الشيخ: عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟" أي: فليس لأتعابنا التي تحملناها في سفرنا هذا من أجر عند الله...؟
فيجيب الامام عليه السلام: "مه يا شيخ، فان الله قد عظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين ولا إليه مضطرين، لعلك ظننت أنه قضاء حتم وقدر لازم؟! لو كان ذلك لبطل الثواب والعقاب، ولسقط الوعد والوعيد"1.
فنجد الامام عليه السلام في هذا الحديث ينسب جميع الأفعال الارادية للبشر إلى القضاء والقدر الالهي. ولكنه مع ذلك يقول: إن هذا القضاء لم يكن حتمياً والقدر لم يكن لازماً. وبنفس المضمون ورد حديث آخر عن الامام الرضا عليه السلام يسأل فيه الراوي عن معنى الأمر بين الأمرين فيقول:"فما أمر بين أمرين؟ فقال: وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا وترك ما نهوا عنه"2.
الأمر بين الأمرين
وهنا يسأل الراوي:"فقلت له: فهل لله عز وجل مشية وإرادة في ذلك؟ فقال: أما الطاعات فإرادة الله ومشيته فيها: الأمر بها، والرضا لها، والمعاونة عليها، وإرادته ومشيته في المعاصي النهي عنها، والسخط لها، والخذلان عليها" فهذه الفقرة تبين إرادة الله في أعمال البشر وكيفية التأثير عليها..."قلت: فلله عز وجل فيها القضاء؟! قال: نعم، ما من فعل يفعله العبد من خير وشر إلا ولله فيه قضاء. قلت: فما معنى هذا القضاء؟! قال: الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة"3.
فنجد أن الامام الرضا عليه السلام يسند جميع الأفعال الصالحة والطالحة للبشر إلى القضاء الالهي بكل صراحة فإن قضاء الله في أعمال البشر هو حريتهم... تلك الحرية، وذلك الاختيار اللذين يستحق بهما الثواب في الطاعة والعقاب في المعصية.
الثالثة تقف موقفاً وسطاً بين الافراط في حق الارادة الانسانية والتفريط فيها وهي التي ترى أن (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين) وهؤلاء هم (الامامية). وأول من عبر عن هذا الاصطلاح عندهم إمامهم السادس جعفر بن محمد الصادق (رئيس المذهب الجعفري). ولقد كثر البحث والنقاش في الاستدلال على صحة أحد هذه المذاهب الثلاثة، ولكن المثال الآتي يؤيد صحة استناد أفعالنا إلى إرادتنا وحريتنا، في حين كونها مسيرة بإرادة الله أيضاً ويثبت حقانية مذهب الأمامية في الموضوع. لنفرض إنساناً كانت يده شلاء لا يستطيع تحريكها بنفسه. وقد استطاع الطبيب بأن يوجد فيها حركة إرادية وقتية بواسطة قوة الكهرباء بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء وإذا انفصلت عن مصدر القوة لم يمكنه تحريكها أصلاً. فتحريك المريض يده والطبيب يمده بالقوة في كل آن يوضح الأمر بين الأمرين، حيث لا تستند الحركة إلى الرجل مستقلاً لأنها موقوفة على إيصال القوة إلى يده، وقد فرضنا أنها بفعل الطبيب. ولا تستند إلى الطبيب مستقلاً، لأن التحريك قد أصدره الرجل بإرادته، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنه مريد ولم يفوض إليه الفعل لأن المدد من غيره، وهكذا فالأفعال الصادرة منا بمشيئتنا، ولكننا لا نشاء شيئاً إلا بمشيئة الله. ولتفصيل الموضوع يراجع كتب العقائد والكلام المفصلة.
المصادر:
1- تحف العقول ص:468.
2- بحار الأنوار ج 3ص:5.
3- بحار الأنوار ج 3ص:5
تحياتي اخوكم حيدر