إن القيمة الأساسية للنص ، في الخطب علي بن أبي طالب ، ورسائله ، ماثلة في حضور الإبداع النصي في النشاط الفكري والكلامي له على المستويين: الشفهي والتحريري . وتلك ميزة نادرة يتفرد بها علي بن أبي طالب بصورة ملموسة .
وهي ميزة تجعله في المقدمة من جميع كتاب النصوص المبرزين ، ذلك لأن أولئك الكتّاب ، مثلهم مثل الرسامين والنحّاتين الذين يصنعون نماذجهم ، بعد طول تأمل ، وتخطيط ، وممارسة ، وبعد مراجعات نقدية متواترة ، وصولاً إلى المحصلة الفنية النهائية ، على صعيد العمل .
وكان علي بن أبي طالب ، بعفويته الثاقبة ، يباشر عمله الإبداعي الفوري ، فيأتي النص المرتجل ، مثل النص المكتوب ، آية في الإتقان والروعة .
ومن الثابت ، أن جريان خطب علي بن أبي طالب على نحوه الباهر ، في طوله ، وقصره ، هو دليل على الفعالية الخارقة لعقل مبدع ، موهوب ، هو السيد المؤكد في عالم العقول .
لا يمكن أن تتوفر تلك الخصوصية لقوة النص في المخاطبة الارتجالية ، وفي الكتابة ، لشخص آخر ـ غير علي بن أبي طالب ـ الذي انطوت شخصيته على علوم وفنون وقدرات عظيمة ، تتلاقح فيما بينها بجدلية خصبة .
ورغم أن الخطاب عند علي بن أبي طالب خطاب سياسي ، وفقهي ، وتربوي ، ووعظي ، في إطار معرفي محكم ، إلا أنه ذو سمة رياضية ، ماثلة في بنية الخطاب الذي يتكامل نصاً مغنياً .
ولقد ارتكزت السمة الرياضية في البناء الأدبي للخطاب على دعامتين بارزتين ، الأولى هي في صلب بنية الخطاب ، وعلاقته الداخلية ، والثانية في خفاء المنهج ، أي في تنظيم فضائه .
المقوّم الأول ، هو المقوم النحوي ، الذي يعصم الخطاب الأدبي من التحرر الإنساني ، وبعض مظاهر اللانحوية ، التي قد يستكين إليها الوصف الأدبي والحماسة ، والارتجال ، وخاصة في الخطاب الشفهي .
إن أساس الخطاب في فعالية علي بن أبي طالب ـ من الناحية اللغوية ـ هو أساس نحوي ، ذلك لأن علياً بن أبي طالب هو واضع النحو العربي ، في منطلقه الأول .
قال لأبي الأسود الدؤلي ، حين أعرب عن ألمه من شيوع اللحن على اللسان العربي ، اكتب ما أملي عليك . ثم أملى عليه أصول النحو العربي ، ومنها أن كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل . ثم أملى عليه أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر . وفي خاتمة التوجيهات قال علي: يا أبا الأسود انحُ هذا النحو . وهكذا أصبح عند العرب علم النحو .
من هنا كان الأساس النحوي للنص في خطب علي بن أبي طالب ، يؤمن القاعدة المادية لشبكة العلاقات الداخلية للنص ، التي يرتكز عليها البناء البلاغي للنص .
ولا شك في أن تكامل الأساس النحوي والبناء البلاغي قائم ـ أصلاً ـ على المحور الفكري للنص ، وهو محور المعاني والدلالات .
وإذ يستكمل الخطاب ( العلوي ) شروطه المادية ـ اللغوية ، وجماع علاقاته الداخلية ، فإنه يستكمل الوحدة القائمة بين نصّية النص ـ بمعناها الأدبي ـ والفضاء الروحي للنص . أي أن النص يتوفر له البعدان الرمزيان للأرض والسماء في وحدتهما التامة .
أما المقوّم المادي الثاني للنص ، فهو المقوّم الرياضي الذي يستدلّ عليه ، استدلالاً ، لأنه لا يعبّر على نحو مباشر ، إلا بالنسبة إلى الملتقي النابه .
إن الذهنية الرياضية النشطة ، والمبادهة لعلي ، تنعكس تأثيراتها على تعبيراته الأدبية ، بصورة الإتقان المحكم لعرض الأفكار ، وكذلك في تقديمه المتقن للبناء اللغوي والبلاغي للخطاب .
فالاتساق الرياضي وارد في صلابة أفكاره ، وفي عظمة منطقه ، وبلاغته . ومردّ ذلك ثابت في معرفته العلمية بالحساب؛ تلك المعرفة التي كانت تكشف عنها سرعة البديهة في الجواب عن معضلات معقدة في المواريث والأقضية .
وذاعت الفريضة المنبرية التي أفتى بها وهو على منبر الكوفة ، حينما سئل عن ميت ترك زوجه وأبوين وابنتين ، فأجاب من فوره: صار ثُمنها تُسعاً .
وشكت ـ مرة ـ امرأة أن أخاها مات عن ستمائة دينار ولم يقسم لها من ميراثه غير دينار واحد ، فقال لها بسرعة: لعله ترك زوجة وابنتين وأما واثني عشر أخاً وأنت؟ وكان الأمر كذلك .
فمعرفته بعلم الحساب كانت أكثر من معرفة فقيه يتصرف في معضلات المواريث ، لأنه كان سريع الفطنة إلى حيله التي كانت تعد في ذلك الزمن ألغازاً تكدّ في حلها العقول .