الكلام في التبليغ يتضمن استعراضا موجزاً لبعض الأمور
في معنى التبليغ:
لاشك ولا شبهة في إن حركة التبليغ هي التي لفتت أنظار الناس إلى الإسلام ودخولهم في دين الله أفواجا أفواجا فهو من الواضحات وقد لفت أنظار المراقبين ممن آمن منهم ومن لم يؤمن.
فالتبليغ اليوم ليس كمثله بالأمس البعيد الذي يعتمد على شخص المبلغ المسلم لأن الطرف المقابل قد ارتقى أعلى مراتب الإعلام فما يثيره المبلغ اليوم لا يتعدى حدود معنى الإشارة فقط، إذا لا بد لنا من البداية أن ننظر إلى حركة التبليغ نظرة جدية وموضوعية فالحركة الإعلامية لا بد لها ان تكون حرة وغيورة على الدين وتخرج عن إطار المسميات وتدعم من أراد لنفسه أن يكون مبلغا، فلا زال الكثير من المسلمين لا يجدون أنفسهم في إطار المسؤولية على الدين هل يكون مسلما فقط أو ان يحمل الإسلام مبلّغا له من بلد إلى بلد كما كان الرعيل الأول من المسلمين العاملين تحت لواء رسول اللهk وقد نرى البعض من أبناء المسلمين لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن تمثيل الإسلام وتجسيد سلوكه وأخلاقه بالعشرة الحسنة وبالتالي ربما أساء البعض منهم إلى الإسلام بتصرفاتهم غير الملتزمة وربما ابعدوا الكثير من الناس عن اعتناق الإسلام، ولعل قول الشاعر هو بيان وعتاب
يقولون في الإسلام جهلا
بأنه يصد بنيه عن سبيلِ التقدم
فان كان ذا حقاً فكيف
تقدم أوائلهم من عصرهم المتقدم
وان كان ذنب المسلم اليوم جهله
فماذا على الإسلام من جهلِ مسلم
فالمسلم اليوم لا بد وان يظهر بالصورة التي تليق بالإسلام سواء في دار الإسلام أو في البلاد غير الإسلامية ولا بد من وسائل الإعلام دعم الحركة التبليغية دعما جديا ليقف أمام الوسائل الإعلامية الأخرى خصوصا الغربية منها والتي باتت تفوق الوسائل الإعلامية الإسلامية بتفوق صناعاتها وتكنولوجيتها عن الصناعة والتكنولوجيا الموجودة في بلاد المسلمين. فإقبال الناس هنا وهناك غربا وشرقا وعلى كل المستويات ومختلف الطبقات تتقدمهم الطبقة المثقفة
من المجتمعات الغربية يعود إلى خلو الأطروحات المادية الغربية من الحياة المثالية المبحوث عنها وفي الوقت نفسه نرى غناء الإسلام فكرا وعقيدة وسلوكا. فقد وجد الإنسان الغربي كل متطلبات الحياة ووسائل الراحة المادية المترفة إلا انه لم يجد القلب السليم المطمئن والنفس السعيدة والروح المتعالية والعقل الذي يتصل بالأعماق والآفاق التي تسموا به إلى عالم المثاليات.
إذاً ما أتيح للمسلمين أن يكونوا حملة للرسالة من خلال الحركة التبليغية لحمل الكلمة الصادقة للعالم من حولهم ولا شك أن اليوم الموعود الذي يظهر فيه الإسلام غظاً طريا على يد صاحب الأمر (عج) ويظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون وذلك قريبا إن شاء الله تعالى.
فلذا نرى أن التبليغ اهتم به الإسلام اهتماما خاصا وقد حددت الآيات القرآنية والنصوص الروائية الشريفة نبوية كانت أو مولوية.
التبليغ وحركة التغيير
[إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ]([1])
[وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ* تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ]([2])
لاشك ولا ريب أن الدعوة الإلهية فكراً ونظاماً وأسساً وأهدافاً توصلنا إلى ان الحركة التبليغية هي حركة تغييرية تستهدف تغيير الواقع الفكري والاجتماعي للإنسان فهي تقوم على أساس الإيمان بالله تعالى والدعوة إليه ليوحد ويعبد في الأرض، ومن خلال هذا تتضح طبيعة التغيير، فهي تدعو إلى تغيير الفكر ومحتوى الذات من المواطن والمشاعر والملكات والقوى النفسية كقاعدة أساسية توجب تغييرا شاملا في السلوك والعلاقات وعلى كافة الأصعدة ويوضح ذلك القران الكريم [إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ]([3]) فالقلب السليم هو أساس سلامة البناء واستقامة الفرد والجماعة فعلى هذا يستحق المثوبة أو العقوبة. روي أن ملكا سأل لقمان الحكيمB أن يأتيه بأطيب مضغتين من الشاة فجاءه باللسان والقلب ثم قال له جئني بأخبث مضغتين من الشاة فجاء باللسان والقلب فقال الملك يا لقمان كيف هذا فقال له لقمان أن طابا طاب طعمهما وان خبثا خبث طعمهما . قال تعالى [يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سليم)([4])
ولذلك نرى القران الكريم يبين حركة التغيير اجتماعيا بمعانيه ومحتوياته على أساس تغيير طبيعة الذات الإنسانية ومحتواها الداخلي.فالتغيير يبدأ من أعماق نفس الإنسانية وتطهير ذاتها ووجدانها ليحصل على القلب السليم الخالي من الشوائب ونوازع الشر والعدوان والانحراف وترسبات العقل الباطن. ومن خلال الدراسة الجدية للآيات التي تبين بنية الرسالة الإسلامية وما تدعو إليه، نفهم إنها رسالة مغيرة ومستأصلة للواقع الجاهلي بجميع أبعاده.
إذاً هي حركة هدم للخبائث وبناء للفكر الذي ينسجم ومبادئ الإسلام الحق. فالإسلام حركة لبناء الفرد والمجتمع والدولة فعلى الإنسان أن يواكب هذه الرسالة الحقة وان لا يعمل على العكس منها كما ذكرنا الآيات التي مرة [تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ]([5]) وقوله[وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي ..]([6])وقوله في الآيات الأخرى:[ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ]([7])
[فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ([8])
هكذا هي الرسالة الإلهية انطلاقة واستدامة في الفكر والعقيدة لتكون قاعدة البناء الأساس لبناء الإنسان وتحديد مسار الحياة فهي تدعو إلى التوحيد، لكي تبنى حضارة سليمة في الفرد والمجتمع وتطهّر الذات وتغيير المحتوى الداخلي للإنسان بمشاعره ووجدانه من الحب والكراهية والسخط والرضا ...... حيث يثبت القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ]([9]) [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ]([10])
[مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ]([11])
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء]([12]) وقد وطدّ النبي4 العلاقات النفسية والعاطفية بين المؤمنين بقوله4 :
(أوثق عُرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)([13]) وقوله4 :
(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)([14])وعن أمير المؤمنينB: (خير الناس من نفع الناس)([15])وعن أبي عبد اللهB قال: قال رسول الله4: (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقاً)([16]) وبهذه الأسس غيّر الإسلام المشاعر والعواطف والدوافع النفسية والخلقية فنظمها على أساس التولي لله ولرسوله وللمؤمنين والتبرؤ من أعداء الله ثم يصف القرآن العمق الوجداني والتفاعل بين العقيدة والعاطفة والمشاعر التي تمنح القناعة الفكرية حافزا نفسياً من خلال الحركة التبليغية الرسالية.
[وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ]([17])
وجوب التبليغ
[وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]([18])
[وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]([19])
منذ الفجر الأول للبشرية وعلى هذه المعمورة أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل والأنبياء عليهم السلام،هداة ومصلحين لإنقاذ البشرية ولتنظيم حياتهم ومعايشهم وأفكارهم من خلال التبليغ الى دعوة التوحيد لله جل وعلا وعبادته. وعلى كل الفترات المتعاقبة وقد سجل القرآن الكريم هذه الحالة بقوله تعالى: [وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ]([20])
فالدعوة إلى الله تعالى وعبادته وإصلاح الإنسان والمجتمع وتنظيم الحياة العامة والخاصة بحاجة الى من يقوم بهذه المهمة ألا وهم الرسل والأنبياء لبيان معالم عالم الدنيا وقوانينه وأحكامه وكذلك عالم الآخرة المرتبط بعالم الدنيا ولا يمكن التعرف عليه وعلى الطريق الموصل إلى السعادة والنجاة في ذلك العالم إلا بالبيان والهدى الإلهيين ويترتب على هذا الارتباط بين معرفة الله وعبادته ووصول البيان وتعريف الإنسان بما يستحق من الجزاء في عالم الآخرة وهو العدل الإلهي لارتباط الاستحقاق بالإيمان والعمل في دار الدنيا ولذلك نرى القرآن الكريم ثبت مثل هذه الحقيقة وأوضح انه لا مسؤولية ولا جزاء إلا بعد البيان والتبليغ من خلال الرسل والأنبياء وإيصال الأحكام إلى البشرية فقال تعالى[وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً]([21]) ثم خاطب تعالى الإنسان بتحمله المسؤولية حال وصول البيان والخطاب إليه[وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]([22]) فبعد هذا التفصيل من قبل الجليل جل وعلا من إرسال المبلغين من الرسل والأنبياء وإقامة الأدلة والبراهين والمعجزات، قال تعالى: [لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ]([23])
فمما تقدم نفهم أن تبليغ الرســـالة الإلهية من أهم الواجبـــات كانــت ولازالـت على هذه المعمــورة.
خلاصة البحث
الأول: إيصال الأحكام
وهو إيصال ما أنزل الله، وما كُلف العبد به من العمل بالأحكام، وهو المهمة الأساسية للمبلغ بعد ما اخرج الدرر النفيسة المربوطة بالمعارف الإسلامية من معدنها، وكنوز النصوص الواردة عن النبي4 والأئمة الهداةGالذين هم عدل القرآن الكريم الذي هو المصدر الأساسي لاستنباط الأحكام الشرعية، ونحن إذا تمكنا من إيصال رسالة الله إلى القلوب الميتة، وأحييناها، فقد أدينا مهمتنا الكبرى طبقاً وتبعاً لما قام به الأنبياء والأوصياءG من المجاهدة المريرة، حيث أوصلوا الحقائق الإلهية إلى القلوب،وجعلوها منوّرة، ثم من بعدهم قام العلماء العظام إلى يومنا هذا بهذه المهمة، والذين نجدهم اليوم في صدارة المبلغين، كما لا بد أن نعلم بان التبليغ وقول كلمة الحق يغذي الأفكار والقلوب، بل العقول ويجعلها نقية ويزيل رينها بحيث لا تشوبها بعد ذلك شائبة ولا تتأثر بالشبهات وزيف الأقوال والتبليغ هو في الحقيقة أكبر أمانة إلهية في أعناق الكل قال تعالى: [أنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]([24]) وفي الواقع أن الدين يمنح الإنسان حالة السكون والاطمئنان والاستقرار والثقة بالله ويجعل الإنسان بعد أن عرفه حق معرفته أن يتوكل عليه في جميع أمـوره [وَمَــــن يَتَــــوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَـــهــُوَ حَسْبُهُ ......]([25]) أي من يجعل أمره بيد الله ويفوضه إليه مع الثقة بحسن تقديره وتدبيره فأنه يكفيه أمره في الدنيا ويعطيه ثوابه في الآخرة [ ......إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ]([26]) أي إنها لا تكون إلا مشيئته لأنه يدبّر الأمر بحسب ما قدّر، ومن جملة ذلك التبليغ والموعظة، وهي عبارة عن التوصية بالتقوى والحث على الطاعات والتحذير عن المعاصي والاغترار بالدنيا وزخرفها وترك شكر المنعم بعدما أعطاه من النعم الكبرى والجسيمة ومن جملة النعم دين الإسلام والولاية والذي كان يقيناً من أفضل الأديان ومذهبنا من خير المذاهب وهو الفرقة الناجية.
إذاً التبليغ هو أقوى أساس قد قامت عليه رسالات الأنبياء وهو الذي يضمن نشر الإسلام والتشيع وأول من يتحمل هذه المسؤولية العلماء الأعلام تأسياً بالنبي4 والأئمةG ولذا تراهم يهتمون بالتبليغ اهتماما خاصا واعتبروا ذلك من أفضل العبادات، ملبين دعوتهم بنشر الأحاديث والأحكام، فقد روى الكليني في إسناده عن معاوية ابن عمار انه قال: (قلت لأبي عبد اللهB: رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس ويشدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ولعل عابداً من شيعتكم ليست له هذه الراوية أيهما أفضل؟ قال: الراوية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد)([27])
وهذه المسألة الخطيرة، والتكليف بها يسمى بإرشاد الجاهل، وخطبائنا وفقهم الله قد اهتموا بها أيضاً تأسياً بالأنبياء والأئمة والعلماء الأعلام.
وقد يتصور البعض بان التبليغ يكون مختصاً بالخطباء والمبلغين، أي بجماعة خاصة، وهذا تصور خاطئ فالتبليغ هو واجب على كل فرد مطلع بالأحكام، ومتمكناً من نشرها، ونشر الأحاديث الواردة عن أهل البيتG قال رسول الله 4: ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)([28]) فإذا ارتكب شخص المحرمات والقبائح، وترك الواجبات فيجب على كل فرد مطلع بالأحكام، أن يرشده فلو كان المسلمون يعملون بوظائفهم الشرعية لكان وضعهم الاجتماعي أحسن من هذا، ولساد الأمن جميع البلدان الإسلامية مع إنّا نرى أن النبي4 والأئمةB يحثون على البيان، وإظهار الحق، والأخذ بيد المنحرف، وإرشاده إلى الطريق المستقيم.وقد ذكروا فوائد جمة للتبليغ والإرشاد كما سيأتي
الثاني: المؤثرات في الانحراف
ما هي المؤثرات في انحراف الشخص عن الجادة المستقيمة. وكيفية إرشاده إلى الصراط المستقيم.
لا يخفى بان المؤثرات في ذلك هي عدة أمور:
1. الوراثة
وقد قسمها علماء الوراثة إلى طبيعية وكسبية، كما ثبت علمياً أن جميع صفات الأب أو الأم من الخلقة يورثها الأولاد، فإذا كان الأبوان مؤمنين سيؤثران في الولد، وعلى العكس لو كانا فاسقين سيؤثران أيضاً، كما قال النبي4: (كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)([29]).
2. التلقين
أن الأم حينما تريد أن ترفع طفلها الصغير تقول: يا الله فهذا تلقين وحينما يريد الطفل أن يقوم فتقول له: قل يالله فهذا تلقين، ففي الحقيقة أن لهذا التلقين أثر بالغ في سلوك الطفل، قال رسول الله4: (لا تلقنوا الكذاب فتكذبوا فان بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الإنسان حتى لقنهم أبوهم)([30])
3. التقليد
أن الطفل حينما يرى الأب أو الأم يقومان بفعل ما سوف يتعلم منهما ذلك الفعل تقليداً لهما في ذلك، لذلك إذا صدر منهما عمل حسن فسوف يقلدهما وكذا في القبيح.
4. المحيط
فالمحيط يؤثر تأثيراً بالغاً في الشخص فإذا كان المحيط منزّها عن الرذائل فسوف يجعل الشخص الفاسق مؤمناً، وعلى العكس لو كان ملوثاً بالرذائل فقد يجعل المؤمن فاسداً، فان ابن نوح ولد في بيت النبوّة ولكن أثّر فيه المحيط وانحرف عن الطريق المستقيم حتى خاطب الله نبيه بقوله:
[إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ]([31])، وابتلاه بالعذاب في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد، وقد روي عن الرضاB في تفسير الآية أنه قال: (قال أبو عبد اللهB: ان الله تعالى قال لنوح: انه ليس من اهلك لأنه كان مخالفاً له وجعل من اتبعه من أهله)([32]) .
5. علة انحراف بعض المسلمين
لا يخفى بأن ظهور المفاسد في المجتمع، وشيوع الفحشاء والمنكر بين المسلمين إنما هو لعدم متابعتهم الأحكام الإلهية، وتركهم لما أمر به الأنبياء والأوصياءG، وعدم ترددهم إلى المساجد والحضور في الجلسات الدينية، وعدم استماعهم إلى الأقوال المفيدة من المبلغين والوعاظ، وعدم معرفتهم بما حدد لهم من الوظائف كي يعملوا بها ولذا نراهم خارجين عن مسير الفطرة، وتوجهوا بدلا عن ذلك إلى مجالس اللهو والغناء، وحليت الدنيا بأعينهم ونسوا الآخرة وكان نتيجة ذلك هو الابتلاء بما كسبت أيديهم قال تعالى:
[ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ]([33])، أما ظهور الفساد في البر فيمنع السماء أمطارها فيقع الجدب والقحط في الغذاء والآفات في الزرع، وقلة الثمرات، وكثرة الأمراض والأوبئة، وموت الفجأة، وكثرة الحرق والهدم، وأما في البحر فبكثرة الطوفان والفيضانات، وثوران البحر بحيث تترتب الخسارات، والمضار الكثيرة من غرق السفن، وقلة المياه، وهلاك الأسماك وغيرها ليذوقوا الشدة في العاجل، ويخسروا من الآجل إلى جهنم وبئس المصير.
إذاً لا بد من الالتفات إلى أقوال علماء النفس حيث إنهم يقولون أن الوراثة طبيعية وكسبية فالطبيعية أن الإنسان يرث من آبائه وأجداده الطول أو القصر أو لون البشرة ولون العين وغيرها ولكنه يرث من المجتمع الصفات الأخلاقية ولذا قال الشاعر:
صاحب أخا ثقة تحظا بصحبته
فالطبع مكتسب من كل مصحوب
فلا بد من تجنب المحيط الفاسد والارتباط بالمحيط الطيب الطاهر الذي يحمل الصفات الحسنة التي يريدها الله تعالى لخلقه.
الثالث: الدواء
أن الدواء لكل ما ذكر سابقاً هو التبليغ الذي جعله الله تعالى واجباً،وقد وردت آيات وروايات كثيرة تأمر بذلك منها، قال الله تعالى: [ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]([34]) ومنها قوله تعالى:[قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ]([35]) ومنها أيضا [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ]([36])، كما وردت روايات كثيرة في هذا المعنى، فعن الإمام علي أمير المؤمنينBانه قال: ( أن الله لم يأخذ على الجهال عهداً بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهال، لأن العلم كان قبل الجهل)([37])
وقال الحسنB: (رحــم الله أمـرا وعـظ نفسه ووعظ أخاه وأهل بيته)([38])
وورد عن الإمام الباقرB
أنه قال: (جاء رجل إلى النبي4 فقال يا رسول الله ما هو حق العلم؟ قال: الإنصات له. قال: ثم مه؟ قال: الاستماع, قال: ثم مه؟ قال: الحفظ له, قال:ثم مه؟ قال: العمل به، ثم قال:مه؟ قال: نشره)([39]).
إذاً التبليغ وبيان نشر الأحكام هو الدواء لهذا الانحراف والجهل، ولذا أوجب الله ذلك على العلماء والمبلغين، ومن ذلك تعرف فوائد التبليغ، والنفع العائد على المبلغين دنيوياً وأخروياً.
وقد ورد عن الإمام الصادقB انه قال: (قال رسول الله4: يجيء الرجل يوم القيامة وله من الحسنات كالسحاب الركام، أو كالجبال الرواسي فيقول: يا رب انّى لي هذا ولم اعملها؟ فيقول: هذا علمك الذي علمته الناس يعمل به من بعدك)([40]).
عن إبن عباس قال: قال رسول الله4: (نعم العطية كلمة حق تسمعها ثم تحملها إلى أخٍ لك مسلم فتعلمها إياه )([41])
وقال رسول الله4: (ألا أحدثكم عن أقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم يوم القيامة الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله على منابر من نور فقيل من هم يا رسول الله قال: هم الذين يحببون عباد الله إلى الله ويحببون الله إلى عباده.قلنا هذا حبب الله إلى عباده. فكيف يحببون عباد الله إلى الله قال: يأمرونهم بما يحب الله وينهونهم عما يكره الله، فإذا أطاعوهم أحبهم الله)([42])
قال رسول الله4: (ما أهدى مسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة حكمةًٍ تزيده هدىً أو ترده بها عن ردى)([43])وقال رسول الله4: (ما تصدق مؤمن بصدقة أحب إلى الله من موعظة يعظ بها قوماً لقوم بعضهم وقد نفعه بها )([44]).
التبليغ وأثره في القلب
ورد عن المعصومينG الحث على التبليغ، وما الموعظة إلا حرز من الخطأ، وأمان من الأذى، وقد يكون له أثر فعال وتأثيره يكون سريعاً خصوصاً إذا خرج من القلب، أي إذا كلن المبلغ ملتزماً كما وقع من الإمام موسى بن جعفر مع مملوكة حينما كان B يمشي في أزقة الكوفة ويسمع صوت المغنّي وآلات الطرب وخرجت المملوكة من الدار فقال لها الإمام لمن هذه الدار؟ قالت لأحد المشاهير في هذا البلد وهو بشر، فقال لها انه عبد أم حر؟ فقالت له: انه حر وله عبيد كثيرون، فقال الإمامB صدقت انه حر حيث هو مشغول باللهو واللعب، ولو كان عبداً لم يكن يتجرأ أن يعمل هكذا ويرتكب هكذا ذنباً مقابل مولاه، وذهب الإمامB ونقلت المملوكة القضية لمولاها وكان بشر جالساً على بساط الخمر ولكن هذه الموعظة وهذا الكلام من الحكيم اللبيب أثّر مفعوله سريعاً في قلب بشر فقام من مكانه مضطرب،وخرج من الدار حافياً مسرعاً خلف الإمامB، ووقع على قدمي الإمامB، وتاب من ساعته، فقال للإمام: سيدي إلى الآن كنت غافلاً وعملت هذا العمل الشنيع أمام مولاي، وارتكبت المعاصي فهل من توبة؟ قالB: بشرط أن تندم فيما فعلت، ولا ترجع إلى المعصية، وان تطرح الآلات ووسائل اللهو واللعب، ففعل وبنتيجة هذه التوبة، وهذا العمل وصل إلى المقامات العالية.
إذاً للخطابة أثر فعال في النفوس وجلاء للقلوب، وعنه4:
(أن للقلوب صدءاً كصدأ النحاس فاجلوها بالاستغفار)([45])
وعنه4تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فان الحديث جلاء القلوب، أن القلوب ترين كما يرين السيف)([46])
وعن الفضيل بن يسار قال: قال لي أبو جعفرB: (يا فضيل إن حديثنا يحيي القلوب)([47])
وعن عبد السلام الهروي قال: سمعت أبا الحسن الرضاB يقول: (رحم الله عبداً أحيا أمرنا، فقلت له: كيف يحيي أمركم؟ قالB: يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لأتبعونا)([48]).
وقال الإمام أمير المؤمنينB: (من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به جاء يوم القيامة وعلى رأسه تاج من نور يضئ لأهل تلك العرصات، وعليه حلة لا يقوم لأقل سلك منها في الدنيا بحذافيرها ثم ينادي منادٍ: ياعباد الله هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمد ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فيتشبّث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزهة الجنان، فيخرج كل من كان علمه في الدنيا خيراً أو فتح عن قلبه من الجهل قفلاً أو أوضح له عن شبهة)([49])
وعن موسى بن عمرانB: (إلهي ما جزاء من دعا نفسا كافرة إلى الإسلام؟ قال: يا موسى آذن له في الشفاعة يوم القيامة لمن يريد)([50])
وعن الإمام الصادقB: (معلم الخير لتستغفر له دواب الأرض وحيتان البحر، وكل صغيرة وكبيرة في ارض الله وسمائه)([51])
لا يخفى أن التبليغ ليس مختصا بفرد دون فرد كما هو المألوف حيث يتصدى للدعوة إلى الحق، ويبلغ لله ورسوله جماعة خاصة اصطلح عليهم المبلغين، وقد اعتقد البعض بأن هذه المهمة هي من واجب الطلبة، ومختصاً بهم(أي المبلغين) وأن أهل العلم غير معنيين بذلك لأنهم انشغلوا بالبحث والتحصيل فصاروا يستنكفون من هذه المهمة الجليلة ونسبتها إليهم، وهذا في الواقع إعراض عما حث الله عليه، بل أن الأنبياءG كانوا خطباء كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم ووصف كيف خطب موسى ولوط وشعيب ونوح وإبراهيم وصالح وغيرهم من الأنبياء، وكذا نبينا محمد4 وأمير المؤمنينB وولدهG، إذ أن التبليغ والخطابة والوعظ والإرشاد مهم في نظر الله ورسوله4 وخلفائهG [ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]([52]) بل بعد أن نرى خطر فساد الأخلاق، وشيوع الفحشاء والمنكر، وان الناس قد انحرفوا عن الطريق المستقيم كما هو فعلاً في الواقع، وبعد أن أصبح مرضا تفشى في أكثر المدن لا يمكننا معالجته، ولا يمكن الوقوف أمامه إلاّ بالموعظة والتربية الصحيحة.
إذاً الإرشاد والموعظة غير مختص بجماعة دون جماعة بل على كل واحد ممن عرف الأحكام وهي من أخطر المهام.
الأساليب التي تساهم في نجاح العملية التبليغية
1. المبادئ والقيم والأفكار الإسلامية من حيث مطابقتها للعقل والعلم والذوق الإنساني السليم، ومالها من القدرة على حل مشاكل الإنسان وبناء حياته المتنامية.
2. مستوى فهم المجتهدين والمفكرين والمنّظرين الإسلاميين لتلك المبادئ والأفكار والقيم الإسلامية التي يخاطب بها الآخرين وقدرتهم على صياغة تلك الاجتهادات وتنظيرها.
3. الوسائل والأساليب والمؤسسات المستخدمة في حمل الإسلام وتبلغيه.
4. مستوى شخصية المبلغ الإسلامي ودرجة التزامه، وما يحمله من وعي وقدرة على التفاعل الاجتماعي، وفهمه للآخرين وتمثيل للمبادئ والقيم الإسلامية في سلوكه وممارساته المؤثرة في الآخرين.
الأسلوب القرآني في الدعوة
لقد عالج القرآن مسألة الوسائل والأساليب وتفقيه حملة الإسلام بالوعي وكيفية التعامل مع المخاطبين. كما في قوله تعالى: [ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]([53]) فعناية القرآن بعلاج هذه الأمور من أهمية الأسلوب التي يوعظ به وأهمية شخصية الواعظ والمبلغ وكما ذكرنا أن هذه هي ليست مهمة الخطيب أو المبلغ أو العالم بل هي مهمة كل من له القدرة على الوعظ والإرشاد ولذا بيّن القران الكريم هذه الصورة بقوله تعالى:[وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ]([54]) وأيضا آية النفر[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ]([55])إذاً فلا بد لمن يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه أن يختار الوسائل والأساليب المشروعة والمطابقة للاحکام الشرعية والوصول الي الاهداف الاسلامية السامية لصناعة المسلم الرسالي.
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن (صلواتك عليه وعلى آبائه)في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافضاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً وهب لنا رأفته ورحمته ودعائه وخير برحمتك يا أرحم الراحمين