!
اضطربت النجف ، تحول شتاؤهاالبارد صيفاً لاهباً ! واحتار المؤمنون : ماذا نفعل ؟ ولكنه لم يكن يمهلهم ليجدوا حيلة ،بل بادر في اليوم السابع من المحرم .. وهجم على الحسينيات التي تخرج منها مواكبالتطبير ، واعتقل أصحاب الحسينيات ورؤساء المواكب وزجهم فيالسجون
.
وفي عصر اليوم التاسع منالمحرم أمر باغلاق أبواب الحرم الشريف ، والابقاء على كبار خدام الروضة الحيدرية ،بما فيهم " الكليدار " داخل الصحن الشريف
.
ثم جاءوا بمفرزة من قوات الشرطة من مناطق الشمال ، ولمتكن لغتهم عربية ، وتناقلت أوساط أنهم من الديانة اليزيدية ( عبدة الشيطان ) وقدرابطت هذه القوات داخل الصحن الشريف أيضا
.
أما أهالي النجف فقد قرروا اللجوء إلى وادي السلامويقيموا عزاءهم هناك ، فلبسوا أكفانهم ، وربط كل منهم على عضده قطعه من القماش كتبعليها : " روحي فداء للحسين " ... وكان الوضع في غاية التوتر ، وما كنت ترى في طرقات النجفإلا النساء ، وما كانت احداهن تخرج إلا ومعها سلاح أخيها وأبيها أو زوجها ، يخفينهتحت عباءتهن
.
وفي المساء شاهد الناسعربة متوسطة تحمل مدفعا رشاشاً تتوجه لتستقر على قمة " جبل المشراق " .. وهو مرتفع يشرفعلى الوادي ويتسلط عليه
.
واستمرتالأجواء في توتر يتصاعد كلما قربت الساعات المرتقبة ودنا موعد التطبير ... وقدانتشرت قوات الأمن حتى وكأن الأحكام العرفية قد فرضت ، وأن حكومة عسكرية تسلمت زمامالأمور
!
كانت هذه القوات تحسب أنبقاءها منتظرة ، سيجعلها في موقع دفاعي يفقدها زمام المبادرة ، ويعرضها لتطورات غيرمدروسة
.
من هنا حددت الشرطة ساعةالصفر لتكون قبيل صلاة الفجر ، فالتطبير لا يكون إلا بعد أداء صلاةالفجر
.
وفعلا ، فوجئ المطبرون بإطلاقعدد كبير من القنابل التنويرية ، التي حولت ليل النجف إلى نهار مسفر يميل إلى صصفرةتشبه الأيام المغبرة
!
قرر المطبرونعدم الانتظار
...
رتلت سيوفهم أنغامالعشق قبل موعده ، صاحوا " حيدر حيدر " وخرجوا من الوادي عدوا متدافعين ، فلما رأىالجنود المرابطون وراء المدفع الرشاش منظر المطبرين والدماء تشخب منهم والأكفانالبضاء تحولت حمراء ... ملأهم الرعب ، فتركوا أسلحتهم بما فيها العربة والرشاش وفرواعلى وجوههم ! ( أحفاد عمر الفرار
)
وقام الأهالي عندها بدفع العربة مع رشاشها ، حتى أوصلوهاإلى قرب مبنى مركز البريد الواقع آخر السوق الكبير
...
واندفعوا بعد ذلك باتجاه الحرم الشريف بصيحاتهم وقاماتهموهم يطبرون . يتقدمهم شخص يدعى ( عبج الأعمى ) وهو حامل البرزان ( البوق
) ...
ولم يكن حتى ذلك الحين قدنفخ في بوقه بعد ... أي لم يكن التطبير قد بدأ " رسمياً " وفقا للأعراف والتقاليدالمتبعه ... وكان ينتظر الدنو والاقتراب من الحرم الطاهر حتى يشرع في نفخه فيالبرزان
...
فلما بلغ المطبرون مسافةمائة متر من الباب المتصل بالسوق الكبير ، توقف الجميع وحانت لحظة صمت مطبق ، لفتالأجواء بقدسية وهيمنة عجيبة
...
لحظات
...
انطلق البرزان بسلام تحية الأمير ( كما هي العادة فيمواكب التطبير حيث يتم افتتاحها بالسلام من خلال البرزان " البوق
" )
لمتمض ثوان معدودة على انتهاء (عبج) من نفيره حتى فوجئ الجميع بصوت فرقعه أقرب إلىالانفجار دوى وسط ذهول عارم
!
لقد دكت أبواب الصحن الشريف كلها دفعة واحدة ! وانفتحتأمام المعزين ( حيث كان الجنود اليزيدين قد أحكمواغلقها
) ...
كأن المولى سلام الله عليه ، يفتح ذراعيه ليستقبل معزيه فيابنه وعزيزه الحسين عليه السلام ..
.
صوت الفرقعة الذي صحب انفتاح الأبواب كان مشابهالانفجار ، لكن من نوع غريب ! فلا حريق ، ولا دخان ، ولا ضرر بأحد ! حتى أن أشخاصاً كانواملتصقين بالباب وممسكين بعاضدته ومتعلقين بعروته ! مع أنه كان من القوة بحيث أنبقايا أخشاب الباب ماكانت تزيد في حجمها عن أعواد الكبريت
!
الأبواب كانت مغلقة بسلاسل من الفضة ، مقفوله بأقفالعثمانة لا تفتح إلا بعد دوران المفتاح عليه عدة مرات ، الأبواب كانت بسمك شبر كاملناهيك ما رص عليها ! كل هذا تهشم بفرقعة واحدة
!!!
بعد ذلك دخل المطبرون الصحن الشريف ، اقتلعوا ألواحاغليظة كانت منصوبه فوق بئر في الصحن الشريف قرب مقبرة السيد محمد سعيد الحبوبي ،وهوو بها على أفراد الشرطة اليزيديين الذين فروا وخرجوا من الصحن الشريف ، ولم يبقإلا مأمور مركز النجف وهو ضابط متعجرف اسمه ( نامق ) طالما عانى أهالي النجف من ظلمهوجبروته ، ظفر به الأهالي واقفاً بحذائه المعروف ( كان يلبس حذاء ذا عنق طويلة تبلغركبتيه ، وقد اشتهر بين الأهالي بحذائه هذا ! ) على الشرفة المقابلة للضريح الشريف ( الطارمة ) فحملوه وألقوه على أم رأسه ثم داسوه وسحقوه بأقدامهم حتىهلك
...
عندها ارتجلت الهوسات ، واستقرتالجموع على صيحة وهتاف واحد وهو : " داحي البوب قبل طرالفجر"
..
وكان هذا هتافهم في التطبير، ثم طافوا مرتين بالصحن الشريف ، وخرجواإلى بيوتهم ...
منذ تلك السنة التزمأهالي النجف هذا الهتاف في المستهلات التي يخرجون بها للعزاء ، وصارت من التقاليدوالمراسم المتبعه في صبيحة كل عاشوراء حتى جاء صدام لعنه الله ومنع كل تلكالمراسيم ..
.
هذه القصة متواترةلدى أهالي النجف من الجيل السابق ، بل حتى من جيلنا ، وهناك من الشهود الأحياء لهذه القضية أطال الله في أعمارهم ، الذين حضروا الواقعةبأنفسهم ...