ولدت آمنة حيدر الصدر في مدينة تضم مرقدي الإمامين الطاهرين المسمومين الإمام موسى بن جعفر وفيده الإمام محمد الجواد عليهم السلام، حيث القبتان الذهبيتان والمآذن الأربع المحيطة بهما وهي تناطح السحاب، في مدينة الكاظمية المتصلة البناء والعمران بمدينة بغداد.
ولدت آمنة في عام 1357 هـ 1937 م(1)، في عائلة علمية مؤمنة، تعهدت تبني الإسلام كعقيدة منقذة ، وتنتسب العائلة إلى البيت النبوي العاشمي، وينتهي نسبها الشريف إلى الإمام موسى بن جعفر عليه السلام.(2)
والدها أحد كبار علماء الإسلام في العراق الفقيه المحقق آية الله السيد (حيدر الصدر) توفي عنها وعمرها سنتان (1) ووالدتها هي الأخرى من عائلة علمية بارزة، فهي كريمة العلامة الكبير الشيخ عبدالحسين آل ياسين، وهي أخت المرجع الديني المحقق الشيخ (محمد رضا آل يس)(2) ، وتوصف والدة آمنة الصدر بخير ما توصف به الأمهات المؤمنات الحكيمات، إحتضنت إبنتها وربتها حسبما يمليه عليها دينها العظيم، وقد تركت الأم الصالحة آثارها البالغة في إبنتها حيث تجلت في سلوكه وسيرتها ومسيرتها(3).
وكان الأبوان قد فقدوا ثمانية أطفال تترواح أعمارهم بين عدة شهور وسبع سنوات، وقد أنعم الله عليهما بعد ذلك بولديهما محمد باقر وآمنة (1)، فكانا كالضيائين ينيران البيت، والوالدان حريصان على تربيتهما بمناهل اقرآن ومنابع علومه(2).
ولآمنة أخ كبير هو السيد إسماعيل الصدر الذي رباها وتكفل بأمور تربيتها(3).
وعندما كبرت آمنة وأحست بما حولها حيث فقدت أباها المعيل للأسرة الذي ترك فراغاً كبيرة في حياة هذه العائلة المجاهدة في سبيل الله
ولكنها منذ نعومة أظفارها لم تجعل لهذا الفراغ سيطرة على حياتها، وسارت هذه العائلة في موكب النور تحت الخطى للارتشاف من علم الإسلام الكبير، رغم الحالة المادية المتردية والفقر الذي كان يلازمهم وتواضع العيش ، إذ لم يهمهم ذلك. (1)
وإلتزام أخواها إسماعيل ومحمد باقر بتربيتها ورعايتها، حيث تلقت من العلوم الدينية والشؤون الإجتماعية والثقافية الشيء الكثير حتى غدت فيما بعد رائدة العمل الإسلامي في العراق(2).
لم تدخل المدارس الرسمية الملكية، لا ليحرمونها من العلم وهم أهله، فيتها كان مدرسة، وخير مدرسة- وعائلتها كانت معهداً- وهم نعم المعهد- وإهتم بها أخواها- فضلاً عن أمها- حتى علماها مبادئ القراءة والكتابة والحساب في بيتهم العامر بالإيمان والنابض بالعلم والجهاد(1).
حتى أطلعاها ودرساها المناهج الرسمية ، مضافاً لما أولياها من تعليم الدروس العلمية: النحو والمنطق والفقه والأصول وباقي المعارف الإسلامية، حسب مقتضيات التدرج والتبسيط، لما أحسا فيها الإستعداد للإستيعاب الذكي(2).
(ينقل عن والدة آمنة، أن آمنة كانت تهتم بالقراءة والتركيز فيها، ومنذ ضغرها كانت تميل إلى الإنفراد وبغرفة خاصة طلباً للهدوء، ليست هي إنعزالية- بل كانت إجتماعية الطبع- لكنها لا ترى إن إجتماعيتها تفرض عليها أن تهدر الوقت وتبدد الزمن في حلقات أحاديث مفرغة، إنها تميل إلى الإنفراد للتأمل بهدوء، وتنعزل دانما إنطواء، بل لتوفر على نفسها وشخصيتها التي تعدها تهيؤاً للعطاء والبذل الغالي والرخيص في سبيل الله(3).
(ووجد أخواها فيها إستعدادات رائعة من خلال ما تكتبه من رسائل غلى والدتها، حينما تسافر وتمكث في النجف، وما تكتبه في أوراق ومسودات مهملة فزاد حرصهما عل موعيتها، خصوصاً أخوها محمد باقر(ص) الذي راح يضاعف إهتمامه بقابليتها). (1).
وحينما قرر شقيقاها الرحيل إلى مدينة العلم والعلماء في النجف الأشرف لإكمال دراستهما، رحلت العلوية آمنة الصدر معهما.
وكان عمرها آنذاك أحد عشر عاماً، وهناك في النجف أخذت تدرس الكتب والدروس الخاصة باللغة وعلومها والفقه وأصوله والحديث وعلومه، كما درست الأخلاق وعلوم القرآن والتفسير والسيرة النبوية.
هذا إضافة إلى تلقيها العلوم الدينية، حيث إنكبت آمنة (بنت الهدى) (2) على مطالعة الكتب والمؤلفات، فإتسعا معالم إطلاعها ومعرفتها بكثير من الأمور ، وأمست الطبيب والحكيم الذي راح يدرس الطب ليكون معالجاً لمن اصابه المرض، والفقه الذي يعلم الفقه، فكانت في مستوى جيد حيث أهلتها الدراسة إلى الإنتقال لمرحلة جديدة، وهي دراسة المجتمع وتشخيص أمراض المرأة المسلمة في العراق والعالم الإسلامي،
فكانت نشأتها وحياتها (علم وعمل وتقى وزهد)(1) حتى صارت عالمة جليلة كما قال عنها الإمام الخميني (قدس) في بيان نعي الشهيد الصدر: (.... كانت عالمة من أساتذة العلم والأخلاق ومفاخر العلم والأدب((2)
= ومن ذكرياتها كما ترويها لأحد مريداتها إذ تقول: (حينما كنت صغيرة كانت حالتنا المادية ضعيفة جداً، ولكن كانت لدي يومية مخصصة قدرها (عشرة فلوس) كنت أجمع هذا المبلغ اليومي البسيط، ثم أذهب إلى السوق لشراء كتاب إسلامي، وكانت لي صديقة تفعل كفعلي في جمع المبلغ اليومي لها، ولكنها تشتري كتاباً آخر ، كي تقرأ كل واحدة منا كتاب صديقتها(1).
- وتقول أيضاً السيدة أم حيدر القبانجي : ( من الذكريات التي سمعتها منها مباشرة، هي أنها كانت في الثانية عشر من العمر دعيت إلى حفلة عرس وكل صبية في مثل هذا العمر ترغب في الذهاب إلى مثل هذه الحفلات. ولكنها نظرت إلى حذاءها فوجدته ممزقاً ولا يمكن معه حضور الحفلة، وكان عندها صندوق تجمع فيه المال اليسير لتشتري به في نهاية الشهر كتاباً إلا أنها لم تستعمل هذا المال لغرض آخر ففضلت الكتاب على شراء الحذاء ولم تذهب للحفلة، وهذا يدل على إهتمامها ببناء شخصيتها ووجودها الذي أفاض بعد ذلك بالخير والبركة(2).
كانت بنت الهدى عالمة جليلة، ومربية قديرة وكاتبة أديبة ومفكرة إسلامية، وموضع ثق أكابر مراجع المسلمين الإمامية، كالمرجع الخوئي(قدس) إلى جانب الإشراف والمتابعة للمشاريع الإسلامية التربوية كمدرسة الزهراء عليها السلام في بغداد والمدارس الإسلامية في النجف الأشرف، وقد أغنت بسلوكها وجهادها ومثابرتها وفكرها وتأليفها وتقاها الساحة النسوية، حيث تمثل بنت الهدى حياء الإسلام وخلق الرسالة وسجايا جدتها فاطمة الزهراء عليها السلام، وتمثلت بها تعاليم القرآن الكريم وتجسد فيها الإيمان الخالص لله عز وجل ، فأحبت إسلامها العظيم وآمنت به وتبرت فيه وعاشت في معينه النابض، فعكست ذلك قولاً وفعلاً فكانت تعامل الجميع معاملة الإسلام، لا تفرق بين أحد منهن بصدرها الحنون، وتعالج تصدعهن وكأنها المؤدبة، فكانت سكناً لبنات جنسها، فترى البسمة ظاهرة في إستقبالها للنساء تجلي عنهن كربات الدهر.
وكانت ذكية وفطنة غلى درجة عالية مما أكسبتها قابلية كبيرة في تلقف العلوم وكسب المعرفة، وكانت كريمة النفس ، سخية اليد نحو المعوزات، وهذه صفة المؤمنات الصالحات فتراها تكرم المحتاج بمختلف الوسائل عن طريق الهدايا العينية أو المبالغ النقدية، حيث تحمل شعور المسؤول وتهتم بالجميع فتزور المرضى وتتفقد المحتاجين وتصل عوائل الشهداء وتسأل عن إحتياجاتهم، كل ذلك دون كلل أو ملل، وكانت دقيقة الملاحظة ذكية، كما كانت حريصة على الوقت لا تفرط في الدقيقة قدر إمكانها ، حيث أعمالها الواسعة الكثيرة تتطلب منها الوفاء بالوعود والإلتزام بالمواعيد، فكان عملها يشغل الليل والنهار. (1).
كانت بنت الهدى تفكر وتنظر وتكتب في كيفية الوصول بالمجتمع والأمة إلى أعلى مراقي السمو الإنساني من خلال الرسالة الإلهية العظيمة، كانت تعيش الهم الرسالي في تفكيرها إهتمامها
وللكاتبة بنت الهدى آثار علمية أتحفت بها المكتبة الإسلامية والتي إمتازت بالعمق والأصالة والدعوة إلى الإسلام عن طريق هذه الآثار.
ونذكر من آثارها العلمية:
1- كتاب (كلمة ودعوة)، وهو أول كتاب صدر للشهيدة في أوائل الستينات.
2- كتاب الفضيلة تنتصر ، وهي قصة إسلامية طويلة تبين فيها إنتصار الفضيلة والتقوى على الرذيلة والفاحشة، وصدرت من خلال سلسلة(من هدي الإسلام) ، في النجف الأشرف.
3- (المرأة مع النبي) وقد صدر لها ضمن سلسلة (من هدي الإسلام ) أيضاُ.
4- (إمرأتان ورجل ) وهي قصة إسلامية طويلة خيالية تحمل معاني كبيرة في التربية والتوجيه.
5- (صراع من واقع الحياة) مجموعة قصصية.
6- (الباحثة عن الحقيقة) قصة طويلة كتبت عام 1979.
7- ذكريات على تلال مكة) كتبتها بعد ذهابها إلى الحج سنة 1973 وكانت بصحبة ست نساء، تروي فيها كيفية أداء مناسك الحج(1) وتعقبها رواية رحلة الحج بقصيدة شعرية طويلة.
8- الخالة الضائعة، مجموعة قصصية، كتبتها عام 1974.
الشهيدة بنت الهدى، الأسلوب القصصي لبيان الحقيقة الإسلامية، وعرض مفاهيم الإسلام وقيمه السمحاء، وذلك بتوجيه من أخيها الشهيد( محمد باقر الصدر)(رض) الذي أوعز إليها بضرورة تفريغ هذه المفاهيم في قصص وروايات تمثل الواقع الذي تعيشه المرأة، ولم يكن هذا الأمر إعتباطياً بقدر ما يمثل واقعية في معالجة أمراض المجتمع، فالأسلوب القصصي هو العلاج الأقدر على معالجة المشاكل)
وهذا ما تؤكده الشهيدة بنت الهدى بقولها : ( إن تجسيد المفاهيم العامة لوجهة النظر الإسلامية في الحياة هي الهدف من هذه القصص الصغيرة، لأني أؤمن بأن إعطاء المفهوم على المستوى النظري لا يمكن أن يحدث من التغيير والتأثير ما يحدثه إعطاؤه مجسداً أو محدداً في أحداث وقضايا من واقع الحياة، ومن أجل ذلك إهتم القرآن الكريم بإعطاء المثل والقيم عبر صور قصصية من حياة الأنبياء والدعاة إلى الله وما تلابسها من ظروف وأحداث)
(ومن خلال إستعراض الواقع الفاسد الذي تعيشه المرأة تستعرض الشهيدة العلاج الإسلامي لهذا الواقع الفاسد من خلال قصصها الرائعة حيث وضعت صورة مشرقة عن حياة المرأة المسلمة، ورسمت طريقها بكل وضوح بإعطائها المثل والقيم العليا ، وتبين لنا كيف يجب أن تعيش المرأة المسلمة في مجتمعها رغم الإنحطاط والفساد الذي يسود مجتمعاتنا اليوم.
- وتقول بنت الهدى في مقدمة(صراع من واقع الحياة): ( ولئن كانت هذه القصص القصيرة من نسج الخيال فهي منتزعة بلا شك إنتزاعاً من صميم الحياة التي تحياها الفتاة المسلمة اليوم، ولهذا فإن أي فتاة سوف تقرأ في هذه القصص أحداثاً عاشتها بشكل أو آخر أو تفاعلت معها أو مرت قريباً منها وسوف نجد في كل قصة الموقف الإيجابي الذي تفرضه وجهة النظر الإسلامية في الحياة، والبون الشاسع بين نظام هذا الموقع وطهارته وتساميه وبين الإنخفاض والإنحطاط الذي تمثله وجهات النظر الأخرى في الحياة
- وتقول أيضاً في مقدمة قصة(الفضيلة تنتصر) : (هذه – قارئي العزيز – ليست قصة- بل قصاصة ولا كاتبة للقصة، بل إني لم أحاول قبل الآن أن أكتب قصة إلا أن هذا الذي أقدمه اليوم إليك، راجية أن ينال منك الرضا والقبول، لا يعدو أن يكون صورة من صور المجتمع الذي نعيشه وأنموذجاً من واقع الحياة، حيث تتصارع قوى الخير والشر وتلتحم العقيدة بجيشها الفكري والروحي في معركة مع حضارات الإستعمار وأخلاق المستعمرين).
وتقول بنت الهدى أيضاً: ( أنا لا أقول: إن الخيال لعب دوره في تجسيد صورة محدودة لهذا الصراع لكي يبرزه بطريقة ترضيك وتدفعك إلى متابعته، ولكن غايتي الواقعية هي إبراز أن جوهر الصراع لا أطرافه وهوامشه، فإذا كنت قد نجحت في الجوهر والصور معاً فهذا غاية ما أتمناه، وإلا فإني على ثقة من قدرة قصتك هذه في إبراز المحتوى العقائدي للصراع الدائر بين دعوتي الفضيلة والرذيلة، وجوهر التناقض الذي تعاني منه حياة كل مسلم ومسلمة في هذا العصر، على أن ما قمت به لا يعدو عن كونه محاولة بناءة لفتح الطريق وتعبيده بغية السير في إحياء جهاز إعلامي صامت من أجهزة الإعلام التي تواكب سيرنا ونحن في بداية المنعطف هذا غيض من فيض عن حياة هذه المرأه المجاهدة