محاولات علمية لفهم آلية الشعور بالبرد
اختلاف طبيعي بين الناس في درجة حرارة الجسم
كشفت مجموعة من الباحثين الأميركيين النقاب عن آلية إحساس الأعصاب بالبرودة لدى لمس أحدنا قطعة من الثلج، أو تعرضه لنسيم منعش من الهواء البارد. وقال الباحثون إن إدراك الأعصاب لتعرض الجسم للبرودة، يعتمد على مدى وجود وتفاعل بروتينات معينة في جدران الخلايا العصبية.
وكلما حلت موجة من البرد أو الصقيع، استنفر الكثيرون طاقتهم لمقاومة الشعور بالبرد ولتجنب أي من تأثيراته الصحية الضارة، إما بالتنقل في الأسواق بحثاً عن ملابس صوفية ومدفأة منزلية، أو بالانشغال في إخراج الملابس الشتوية القديمة من مخازنها وسد أي منافذ في الشبابيك أو غيرها قد يدخل البرد منها إلى داخل حجرات البيت. لكن الواقع أن ثمة عدة عناصر تربط فيما بين الصحة والبرد، ولذا تكتسب الدراسات العلمية حول فهم آلية الشعور بالبرودة، أهمية من جوانب عدة. الأول يتعلق بتلك الأنظمة المعقدة من التوازن بين شعور جلد الإنسان بالبرودة أو بالحرارة، وتأثير كل منهما على المركز الدماغي لتنظيم حرارة الجسم كله، وتبعات ذلك على أداء الأعضاء المختلفة لوظائفها وجريان العمليات الكيميائية الحيوية في الجسم. اما الجانب الثاني فهو مرتبط بأن البرودة أحد الأحاسيس التي يُمكن تحمل إجراء اختبارات علمية عليها، بخلاف الحرارة أو الألم، ما يُمكن الاستفادة منه في تلك الأبحاث التي تُحاول توسيع فهمنا لآلية إحساس الأعصاب الطرفية بعوامل أخرى، كالألم والتعب واللذة والحكة وغيرها، كي يُمكن التوصل إلى وسيلة فاعلة في التعامل مع ما يُضايق الإنسان منها. والجانب الثالث يتمثل في آليات نشوء القشعريرة والشعور بالبرودة حال ارتفاع حرارة الجسم، أو الحمى، وتفاعلات جهاز مناعة الجسم ومقاومة الميكروبات لتأثيراتها. والرابع، حول الاضطرابات التي تطال قدرات المرء على الإحساس بالبرودة، سواءً نتيجة لأمراض معينة أو تناول بعض الأدوية، وتبعات ذلك من النواحي الصحية. وإن كان الباحثون الطبيون منشغلون بهذه الجوانب الحساسة، فإن البعض لا يزال منشغلاً في فهم تحلي البعض بصفة «برودة الأعصاب» إما في مواجهة مواقف حياتية تبعث على التوتر أو أي تغيرات مناخية، دون إبداء علامات على التضايق من أي منها، في حين أن الغالبية تستمتع بامتلاكها «مزاجاً حاراً» لا يتحمل أي تغيرات مناخية، ولا يتعامل بحكمة الهدوء مع تقلبات تصرفات منْ حوله.
* رسائل البرودة وثمة في الجسم منظومة واسعة الانتشار من الخلايا العصبية neurons المتخصصة في استقبال الإحساس sensory receptor. ومن ضمنها مجموعة من الخلايا العصبية المعنية بالإحساس الحراري thermoreceptor . وخلايا الإحساس الحراري نوعان، نوع متخصص في الإحساس بارتفاع الحرارة والدفء، ونوع متخصص في الإحساس بالبرودة cold-sensing. وبشكل عام، ترصد «خلايا الإحساس الحراري» تعرضها لأي تغيرات في درجات الحرارة، لتنقلها كإشارات أو رسائل إلى مناطق معنية في الدماغ. لكن يظل إحساسنا بالبرودة أسرع من إحساسنا بالحرارة، ولذلك أسباب، أهمها أن ثمة نوعين من الموصلات العصبية لنقل رسائل «مقدار درجة الحرارة» التي نتعرض لها. الأول نوع من الموصلات العصبية أو «الأسلاك» غير المغلفة بمادة مايلين unmyelinated وتستخدمه الخلايا العصبية المتخصصة في رصد الدفء والحرارة العالية. والثاني نوع من الموصلات العصبية المغلفة بمادة مايلين myelinated، والتي تُستخدم من قبل خلايا الإحساس بالبرودة، لتخبر الدماغ بأن الجلد يتعرض إما لبرودة خفيفة لذيذة أو برودة شديدة مؤلمة. ولذا يختلف تأثر الدماغ باستخدام نوعين مختلفين من «الأسلاك» العصبية لتوصيل الرسائل الحرارية إليه. ذلك أن الألياف العصبية المغلفة بمادة مايلين، أو ما تُسمى «ايه.. أكسون»، سريعة جداً في توصيل رسالة «البرودة»، بينما الأسلاك العصبية غير المغلفة بمادة مايلين، أو ما تُسمى سي فايبر C-fibres ، بطيئة جداً في توصيل رسالة «الحرارة». واختلاف آلية التوصيل قد يُبرر الشعور السريع بالبرودة، إلا أن هذا ليس المهم في الأمر، بل هو في حاجة «مركز تنظيم حرارة الجسم»، الموجود في الدماغ، إلى التنبه السريع بتعرض أجسامنا للبرودة أكثر من حاجته إلى التنبه إلى ارتفاع درجة حرارة فيما حولنا وفي مناطق معينة من الجسم. والخلايا العصبية المتخصصة في الإحساس بالبرودة موجودة في مناطق مختلفة من الجسم. مثل الجلد cutaneous receptors والفم وقرنية العين cornea ومثانة البول وأجزاء من الجهاز التناسلي للمرأة. وحينما تصل رسائل البرودة من الجلد إلى الدماغ، فإن منطقة ما تحت المهاد hypothalamus تتفاعل لتنظيم حرارة الجسم كله thermoregulation. وحينما تتبخر مياه الدموع lacrimal fluid على سطح القرنية، ويبدأ تكون حالة من الجفاف فيها، فإن خلايا الإحساس الحراري في القرنية ترسل رسائل إلى الدماغ بأن ثمة برودة وجفافاً حولها، ما يُثير بدورة تنشيط عملية إغلاق الجفن reflex blink، أو ما يُسمى رف أو رمش العين، كي يتم من خلال ذلك ترطيب القرنية وتغليفها بكمية من مياه الدمع. كما قد تُضيف خلايا الإحساس بالبرودة، الموجودة في الفم، إما طعماً ألذ، أو طعماً غير مستساغ، لما يضعه المرء في فمه من المأكولات أو المشروبات. ويبدو أن الأمر في جانب منه مرتبط بالتعود، ولذا نرى البعض يُفضل تناول أنواع من المشروبات حينما تكون باردة، ولا يستسيغها البتة حال دفئها، بينما البعض الآخر لا يتقبل تناول اللحوم المطبوخة أو غيرها إلا حينما تُقدم إليه ساخنة.
* أعصاب باردة وأشار الباحثون من جامعة جنوب كاليفورنيا إلى أن غالبية هذه الخلايا العصبية تحس بالبرودة من خلال نشوء نشاط في أحد أنواع البروتينات الموجودة على جدرانها. وتحديداً قالوا إن بروتينات تي آر بي إم -8 TRPM8 الموجودة على جدران الخلايا العصبية، هي المعنية بإتمام عملية الإحساس برمتها.
ووفق ما تم نشره في 15 ديسمبر من مجلة علوم الأعصاب Journal of Neuroscience، قال الدكتور ديفيد ماك كيمي وزملاؤه الباحثون من جامعة جنوب كاليفورنيا إن أكثر من 75% من الأعصاب المعنية بالإحساس بالبرودة تسـتـخـدم نظام بروتينات تي آر بي إم -8 في التعرف على مدى واسع من درجات الإحساس بالبرودة. لكن هذا النظام البروتيني أكثر استخداماً حال شعور الخلايا العصبية بدرجات غير مؤلمة من البرودة، لأن هناك أنظمة أخرى تُستخدم بشكل رئيسي حال تعرض الجلد مثلاً للحروق الناجمة عن الصقيع. ومعلوم أن ثمة ما يُطلق عليه طبياً حروق عضة الصقيع frostbite burn of، وهي التي تنجم عن تعرض الجلد في الأطراف أو غيرها من مناطق الجسم لدرجات متدنية من البرودة ولمدة زمنية كافية كي تُحدث خلخلة في التراكيب الطبيعية لمكونات أنسجة الجلد. وبالتالي تبدو على الجلد قروح وجروح أشبه بتلك التي تحصل عند الحروق.
ومنذ فترة قريبة، بدأ الاهتمام العلمي بنوعية من المستقبلات البروتينية ذات القدرة والجهد المؤقت. وهي تراكيب بروتينية موجودة على جدران أنواع من خلايا الإحساس العصبي، تعمل كبوابات تتفاعل مع مثيرات خارجية ما، كي تنقل رسالة هذه المثيرات إلى داخل الخلية. والأمر ليس معقداً جداً للاستيعاب لو تخيلنا أن الخلية عبارة عن بيت متكامل التجهيز وتحيط به الجدران من كل جانب. وهذا البيت يصل إليه نوعان من الأشياء، الأول هو المواد الغذائية التموينية، التي تدخل إليه كاملة عبر أبواب معينة فيه. كما تصل إليه رسائل ومكالمات هاتفية تطلب ممن فيه أن يقوموا بوظائف معينة أو أن يُبلغوا رسائل إلى منْ هم يتواصلون معهم. وحينما تكون ثمة خلية عصبية مهمتها استشعار ما يجري حولها من تغيرات حرارية، أي إما برودة أو دفئا، فإن البرودة تطرق أبواباً معينة على جدران الخلية كي تقول لها: «أنا برودة حولك، أُشعري بي». وما يُحير العلماء هو كيف يقول البرد تلك العبارة للخلية؟ وهذا ما يُحاول الباحثون الأمـيـركـيون توضيحه. وقالوا إن هناك بروتينات من نوع إم-8 M8 المنتمية لفصيلة ميلاستين melastatin، من عائلة مستقبلات TRP والموجودة كمستقبلات لأي رسائل على جدران الخلية. وهذه المستقبلات تتفاعل مع البرودة عبر فتح قنوات channel تدخل من خلالها جزيئات عنصر الكالسيوم بكميات تتناسب عكسياً مع مقدار الحرارة الخارجية. أي دخول كميات عالية من الكالسيوم عند وجود برودة. وحال حصول هذا الأمر تدرك الخلية العصبية وجود برودة، وتعمل على كتابة رسالة إلى الدماغ، كي تقول له «حولي برودة»، وتنتقل الرسالة عبر أسلاك توصيل عالية السرعة في نقل الرسالة.
وكان ملحق الصحة بـ «الشرق الأوسط»، بتاريخ 1 نوفمبر 2007، قد عرض جانباً آخر من عمل فصيلة في V لعائلة مستقبلات TRP، وتحديداً مستقبلات TRPV1 عند الحديث عن شعورنا بحرارة الفلفل الحار واستخدامات تأثير مادة كابسياسين، المسؤولة عن حرارة الفلفل، على ألم الجروح. * تنظيم حرارة الجسم وبعيداً عن الخوض في تنوع السلوكيات التي يُمكن القيام بها للتأقلم مع الحرارة أو البرودة، مثل البحث عن الدفء أو البرودة في الملابس أو المأكولات أو مكان السكن أو غيرها، فإن الجلد أحد أهم ما يُستخدم في ضبط حرارة الجسم، عبر اختلاف تفاعل الجلد مع الأجواء الباردة أو الحارة. والآليات الأولية لتخليص الجسم من ارتفاع الحرارة هي زيادة إفراز العرق على الجلد من خلال الغدد العرقية، ما يُؤدي حال تبخر ماء العرق إلى ظهور حالة من البرودة على الجلد. كما يحصل توسع في الأوعية الدموية للجلد، ما يُسهم في تسريب الحرارة الداخلية للجسم إلى الهواء الخارجي. وحال البرودة يقل إفراز العرق وتنقبض تلك الأوعية الدموية في مناطق الجلد، للحفاظ على أكبر قدر ممكن للحرارة في الجسم.
لكن الطريف في الأمر هو استخدام الجسم للشعر في هذه الحالات، ذلك أن ثمة كميات من الهواء في ما بين الشعر، ذات درجة حرارة أعلى من الجسم. ولذا يجب التخلص منها حال ارتفاع الحرارة ويجب الإبقاء عليها حال انخفاض حرارة الجسم. ومن المعلوم أن هناك عضلة صغيرة جداً تسند قوام الشعرة. وحال ارتفاع الحرارة ورغبة الجسم في التخلص من تلك الكميات من الهواء ترتخي تلك العضلات الصغيرة، ما يُرخي الشعر ويزيد من فرص تخلص جلد الجسم من الحرارة إلى الهواء الخارجي. في حين أن البرودة تعمل على انقباض تلك العضلات الصغيرة، ما يجعل الشعرة منتصبة كي تحجز الهواء فيما بين الشعر ولا يسهل آنذاك تسرب حرارة الجلد إلى الهواء الخارجي.
وفي مرحلة متقدمة من استخدام الجسم لعضلات الجلد والشعر عند البرودة، تنشأ حالة الارتعاش shivering، أو القشعريرة. وهي عبارة عن انقباضات متتالية لتلك العضلات، ينتج عنها طاقة حرارية، تعمل على تدفئة الجسم! والواقع أن شأن التعامل مع حرارة أو برودة البيئة التي يعيش المخلوق فيها أبعد من ذلك، لأن آليات التعامل مع هذه الظروف هي ما تبرر لنا تجمع كميات الشحوم في سنام الجمل الذي يعيش في المناطق الحارة، وانتشارها في جسم الدب الذي يعيش في صقيع القطب الشمالي. وفي ما بين هذا وذاك، نُدرك لم لا يتعايش بارتياح مع الأجواء الحارة، منْ لديهم زيادة في كميات الشحوم في مناطق متعددة من الجسم. ولملحق الصحة بـ «الشرق الأوسط» عودة إلى الحديث عن تأثيرات انخفاض حرارة الجسم ووسائل التعامل معها بالغذاء وغيره.