إن سورة العلق، هي أول سورة نزلت على النبي (ص)..
وقد افتتح الله عز وجل كلامه مع النبي (ص) بكلمة معبرة وملفتة، وهي: (اقْرَأْ).. والقراءة أمر مغاير للتلاوة،
فالقراءة عبارة عن جمع معاني الكلمات في الذهن، وإن لم ينطق الإنسان بكلمة واحدة كالذي يقرا الرسالة من عزيز عليه فتجرى دموعه والحال انه لم يتلفظ بمضامينها..
ولذا فإن الإنسان إذا قرأ قراءة ساهية، ولم يلتفت للمضامين، يقال بأنه تلا الكتاب، ولا يقال قرأ.
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).. إن رب العالمين يقول: يا رسول الله!.. إذا أردت أن تتفكر، وأن تتعمق وتتأمل، فباسم الله اقرأ، وباسم الله تأمل!..
وعلى الإنسان أن يجعل لنفسه محطة تأمل في ساعة من ساعات حياته كالسحر مثلا، قبل أن يدخل في بحر صلاة الليل، فيستحب له أن ينظر إلى السماء، ويتأمل،
وأن يقرأ هذه الآيات: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار)..
إذ أنّ ليس كل تفكر، هو التفكر الذي يوصل الإنسان إلى الهدف المنشود.
(خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ).. العلق هو الدم المتجمد، ويا لها من غرابة!..
إن بني آدم يجمع نجاسات ثلاث: أولا: خلق من مني يمنى، والنطفة نجسة بحسب الفتاوى..
ثانيا: يتحول إلى قطعة من الدم مقدمة للحم، وهو دم نجس..
وثالثا: عندما يموت يتحول إلى ميتة.. وبالتالي، فإن هذا هو السير الجسمي لبني آدم..
فإذا كنت أيتها المرأة تفتخرين بجمالك، ويا أيها الرجل إذا كنت تركن إلى هيئتك وإلى قوتك البدنية،
فتذكر ما قاله الإمام علي (ع): (أوله نطفة قذرة، وآخر جيفة نتنة، وهو فيما بينهما يحمل العَذِرَة)..
فما قيمة هذا البدن، الذي سيؤول إلى الديدان أولا، وإلى التراب ثانيا؟..
إننا لم نخلق لهذه النشأة، ولا لهذا التلذذ، وما خلقنا للشهوات وإنما خلقنا لنعيش عالما آخرا من البعثة.
إن الله عز وجل تولى الأبدان بالتربية والرعاية، ولكن ترك أمر الروح إلى الإنسان.. هذا خلق الله (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)!..
فقد تولى الوجود التكويني بالرعاية (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)..
والذي خلق الإنسان من علق، هو رب قادر، ورب عظيم، حيث بعث النبي الأمي خاتما للأنبياء، ذلك الذي كان عائلا فأغناه..
فهو الذي إذا تولى عبدا بالرعاية، أوصله إلى ما يريد..
وقد أراد الله عز وجل أن يربط على قلب أم موسى، فإذا بها تتحول إلى امرأة صابرة صامدة، أمام مثل هذا البلاء العظيم..
(وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)..
أما الإنسان فلنا أن نتساءل: ما الذي منحه لهذه الروح، وهذه اللطيفة الربانية التي دنسها في حالات كثيرة؟!.
(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ).. ينبغي على الإنسان ألا يخشى الضعف، ولا ينظر إلى قلة إمكاناته، ولا ينظر إلى ماضيه الأسود..
فإن المناجَى هو الرب الأكرم، الذي لا يتعامل مع الإنسان بالاستحقاق، وإنما يتعامل معه بالتفضل والتكرم..
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم)..
إن الجاهليين كانوا قتلة، فقد وأدوا بناتهم، وشربوا الخمور، وتعاملوا بالربا..
وإذا بالإسلام يأتي، ويجبّ ما قبله.. ومن هنا، فإن على الإنسان ألا ييأس، في أية مرحلة من مراحل حياته..
لأن اليأس من الكبائر، وكبيرة من الكبائر، تسوق الإنسان إلى الدواهي العظمى.
(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ).. إن الله عز وجل معلِّمٌ، ولكن تعليمه له أسباب.. فقد علم بالقلم، لأن العلم والمعرفة والثقافة، لا تأتي من خلال العبادة فقط..
فالإنسان الذي يعبد ولا يتثقف، ولا يقرأ، ولا يناقش، ولا يستوضح أمر دينه، فإن هذا لا يُتوقع منه الكمال..
يقول الله عز وجل: أنا أعلمك، ولكن انظر إلى ما كتب الآخرون!.. نعم، فهذه منّة من الله عز وجل، أن جعل الإنسان قادرا على القراءة، والفهم..
وفي بعض الأوقات إن المعاني العظيمة، تنتقل بالإشارة وبرمشة عين.. فما هذا الخلق البديع، الذي خلقه الله عز وجل!..
(عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).. نعم، العلم يكون بالقلم، ولكن للتعليم بابا آخر،
حيث يقول الله عز وجل: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)..
فهناك صنف من التعليم لا يتوقف على القلم، (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)..
وقال أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة، في وصف المتقين: (وكلّمهم في ذات عقولهم)..
إن الله تعالى إذا رأى القابلية في عبده المؤمن، يكلمه في نفسه، ويلقي في روعه ما ينبغي أن يفعله في حياته..
فمثلا أن نحتار في الأحكام، فهذا علاجه سهل، لأنه بإمكاننا أن نرجع إلى المجتهد الأعلم، أو الرسالة العملية، ونعمل بالفتوى، فتبرأ الذمة..
ولكن المشكلة في الموضوعات، فإننا لا نعلم ماذا نعمل في حياتنا: متى نقدم، ومتى نحجم؟.. متى نحب، ومتى نبغض؟.. متى نفرح،
ومتى نحزن؟.. متى نغضب، ومتى نرضا؟.. متى نُؤدّب، ومتى نسامح؟.. وكيف نتعامل مع أزواجنا، ومع أولادنا، ومع مجتمعنا؟..
إن هناك غموضا في التكاليف العملية يوميا، ولطالما اتخذ الإنسان موقفا خاطئا في حياته، فاستمر سنوات طوال وهو ضحية سلبيات ذلك الموقف..
وهذا لا يحتاج إلى جبرائيل، ولا يحتاج أن يكون الإنسان نبيا.. فالله عز وجل يقول في حديث شريف عن النبي (ص):
(ما تقرّب إليّ عبد بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، وإنه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتى أحبه..
فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها.. إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته....)
ولهذا قالوا: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله)!..
(كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى).. يقول الله عز وجل: إن الإنسان ظلوم، جهول، كفار، يطغى.. (أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)..
إن الغنى ليس مانعا عن عبادة الله عز وجل، بل العكس، فالمال هو نِعمَ الزاد للآخرة..
فالاستغناء المقصود به، هو الاستغناء القلبي لا الاستغناء الخارجي، أي رأى نفسه في باطنه مستغنيا..