الصرع
هل الصرع مرض نفسي؟ أو عصبي- أو حسي, أو عضوي؟
عندما نقول نفسي : تعني انه مما تتوهمه النفس, أو مما تتعلق به كالحب أو مما يخيل إليها أو مما تعتقده أو بسبب حائل يحول بينها وبين رغبتها ويقيد حريتها..
وتعني بالعصبي: خروج المصاب عن التصرف الواعي وحصول التوتر والاضطراب وسرعة الانفعال وحب الانتقام وغير ذلك وهذا أيضاً له أسباب معلومة..
أما الحسي واختلاله وعدم انتظام حركته ونقل صورة وهمية مثل رؤية البحر والسراب.. وكل علة سبب ولابد..
أما العضوي: فهو الذي يصيب حيز من العضو والجسم..
والصرع على وزن ضرع
يقال: انصرع فعل مطاوع بمعنى القى عل الأرض
وصرعه: ألقاه
والمصروع: الملقي على الأرض
والصريع بمعنى المصروع
والجمع: صرعى
فترى القوم فيها صرعى كأنهم اعجاز نخل خاوية
ومنها المصارعة
لأن كل خصم يسعى لإلقاء صاحبه على الأرض
ويقال أيضاً للباب: فتح على مصراعيه, إذا كان مركباً من شقين لأن كل شق يسند إلى ما خلفه من البناء..
والصرعة: الذي يملك نفسه عند الغضب لأنه يصرعها ولا يدعها تثور
والشعر المصرع غالبه في الشعر اليمني الحميني, ويأتي في الموشح الأندلسي
وعلى كل حال فالصرع هو ذلك المرض الغليظ الذي لا يرحم, بل هو عدو لدود وخصم حقود, ماله عهد ولا ذمة, ولا يرقب في أحد إلا ولا زمه..
وقد يكثر في المجتمعات الفقيرة, اما لسوء التغذية واما لزواج الأقارب حيث تنتشر النزعة الوراثية..
وقد رأينا لذلك شواهد عدة..
وكان غالب الناس قديماً يحسبون ذلك تسلط الجان على الإنسان فيذهبون إلى المعزمين وكتاب الحجابات ولكن دون جدوى, ومن أغرب ما رأينا أن بعض المصابين وخاصة من الأطفال إذا جاءته النوبة أول مرة ووضع عليه الحجاب فإنه يسكن شهوراً بل قد يسكن إلى ثلاث سنوات, وما هو إلا نار تحت الرماد وسكون إلى ميعاد..
والصرع مرض قديم قد عرف عند الاغريق فكانوا يظنون أنه عقوبة من الآلهة أو أذية من الأرواح الشريرة..
ولكن الطبيب الماهر أبقراط رحمه الله وطيب ثراه أثبت أن الصرع مرض دماغي..
ويعتبر الأطباء العرب رواد في كتابتهم عن هذا المرض العضال..
يقول عنه الامام الرازي شيخ الأطباء رحمه اللهوجعل الجنة مثواه:
الصرع هو تشنج يعرض في جميع البدن, ولكنه غير دائم لأن علته تنقضي سريعاً..
وقال في التمييز بين نوبات الصرع الشديدة والخفيفة:
يعرف مقدار عظمه بسهولة النفس وعسره
إي إذا ملت النفس عسراً وشديداً فهو عظيم
وإن كان النفس سهلاً فهو خفيف
وحتى الزبد في أصحاب الاضطراب له عند الرازي دلالة خاصة
فيقول: الزبد في الصرع من شدة الحركة
وفي مرض السكتة من شدة الاستكراه أي الكظم
وقال: إذا كان الزبد أكثر فإن العلة أصعب وهذا ما أثبته العلم الحديث..
أما الشيخ الرئيس الحسين بن سينا رحمه الله تعالى فقد قال في الصرع:
هو علة تمنع الأعضاء الحسية عن افعالها منعاً غير تام
وذلك بسبب سدة تقع, وأكثره لتشنج كلي يعرض من آفة تصيب البطن المقدم من الدماغ فتحدث سدة غير كاملة فيمنع نفوذ قوة الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذاً تاماً من غير انقطاع كلي ويمنع عن التمكن من القيام ولا يمكن المصاب أن يبقى معه منتصب القامة..
قلت ولعل أنواع الصرع الكثيرة لم تكن منتشرة على عهد الرازي وابن سينا فإنا قد رأينا بع أنواعاً كثيرة وهذا سبب لعدم اتفاق الاحثين على تعريف شامل لهذا المرض.
وأبسط ما يقال فيه أنه: نوبات متكررة بسبب احتلال بعض وظائف المخ النفسية أو الحسية أو الحركية.
تحدث فجأة وتتوقف فجأة..
وقد تسبق النوبة إشارة عضوية مثل صداع دائري أو نصفي أو أمامي أو خلفي, وقد يحدث ألم في فم المعدة أو خدر في اليد اليمنى أو اليسرى أو ارتحاء مفاجئ وغير ذلك..
وسنواصل الحديث عن الصرع وأنواعه في الحلقات القادمة..
يعرّفه بعض الأطباء اليمنيين القدامى فيقول:
هو خلط رديء الكيموس يغلظ في تجاويف الدماغ من زيادة خلط رديء كامن في جوفه يسمى صرعاً لأن صاحبه يفقد شعوره والتحكم في جوارحه.
ثم يهيج في أوقات معروفة غالباً وقد لا يتقيد بوقت معروف.. ويكثر في أوقات الغيم وعند نزول الغيث, والريح الباردة, ونحو ذلك فيدب من القدم إلى الرأس ومتى وصل إلى الدماغ رمى بصاحبه إلى الأرض وقد يصرخ ويتكلم وهو لا يشعر..
أما الأنطاكي فيعرّفه بقوله:
هو اجتماع خلط أو بخار في منافذ الروح في وقت مضبوط ولو غير محفوظ, وهو إما خاص بالدماغ إن صح البدن, وإلا فبمشاركة عضو معروف أو منه خاصة إن صح الدماغ..
ويكون عن البلغم غالباً أو السوداء أو الدم, ويندر عن الصفراء, فإن حدث عنها فهو أم الصبيان..
والعسرة من مطلق الصرع يسمى (ايلينسيا)..
ويعلم بعلامة الخلط الكائن عنه وضعف العضو مثل تضخم الطحال وكمية الزبد وكيفيته.. فالكثير الأبيض عن البلغم, والقليل عن السوداء والمتوسط الأحمر عن الدم..
وقصير الزمان حار, والزبد فيه من غلظ الرطوبة, والريح, وحركة القلب, وضيق النفس, وغيبة – يحس كل ذلك عن الحبس والسرة – وقد يشتبه بالاختناق والفرق بينهما عدم الزبد في الاختناق.. ثم الصرع قد يكون أدواراً محفوظة وأوقاتاً مضبوطة, وقد تختل الأدوار دون أوقات وجوده, وهذا الأخير عسر البرء, وكله سهل العلاج قبل البلوغ..
قلت وهذا الداء قد يصيب الحيوان..
ويقول الطب القديم إنه قد يشفى عن طريق الأوفاق والأسماء الروحانية وهو أمر غير صحيح لأن المادي لايدفعه إلا مادي مثله..
ومن الغريب أن الغالبية ينسبونه إلى الأرواح المؤذية من الجن ويذهبون إلى المعزمين ولكن دون جدوى..
وأنواع هذا الداء كثيرة, وإن كان بعضهم يحدوه إلى سبعة أنواع والأصح أنه أكثر من ذلك.. ونعني بذلك درجات حدوثه وكيفية حصوله – وقد وجدنا لحصوله أشكالاً كثيرة – وخاصة عند الأطفال فمن ذلك:
يعتري المصاب شحوباً ثم تخدر يده اليمنى أو اليسرى من المرفق ثم رعشة خفيفة ثم غيبوبة قد لا تتجاوز خمس دقائق.. وهذا أخفه, وقد يحصل ما ذكر ولكن بدون غيبوبة..
ومنه ما يبدأ بصداع مصحوباً بالحمى, أو يبدأ بالمغص وهذا كثير ثم يتغير ثم يلقى على الأرض, ومنهم من يبدأ الصراع قبل ثلاثة أيام.. ومنهم من يصيح بصوت عال بصورة مفاجئة ثم يرتمي, ومنهم من يصيح ويضحك ولا يرتمي ولكنه يخاف ويحاول الاحتماء بالذي حوله.. ومنهم من يصمت ويتجمد في مكانه ولا يبدي ولا يعيد أو يتكلم ويجيب ولكنه لا يشعر بشيء.. ومنهم من يصيح ويميل عنقه إلى جهة وتجحض عيناه ويزبد ويرفس برجله, ويضرب بيديه, وربما يفرز شيئاً من باطنه ويجرح لسانه, وهذا هو الغالب..
ومن أنواع الصرع – الكابوس –
وهذا النوع لا يهيج إلا في الليل وترى صاحبه يحصل له التخبط والطرش وقد يذهب ويجيء ويدخل الحمام وهو لا يدري حتى الصباح..
ومنه نوع إذا حصل قبض المصاب أي شيء أمامه وأمسكه حتى لا يقدر أحد على تخليص ذلك حتى يفيق..
ومنه إذا حصل يفقد صاحبه الوعي أولاً ولمدة يومين أو ثلاثة أيام ثم ينصرع , وهذا نادر..
والبعض يرى في غشوته بعض الأشباح حتى يظن إنها أرواح مؤذية وإنما هي خيالات كانت ملازمة له..
ومنهم من يصيح ويشير بيده إلى جهة معينة ثم يميل بجسمه قليلاً قليلاً حتى يقع على الأرض..
ومنهم من يشعر أولاً بضيق وخوف ويكثر هذا عند النساء ثم يضطرب.. وهكذا..
ومازلنا نجد أنواعاً جديدة وهذا المرض العضال له علاقة نفسانية ومادية لأن صور حدوثه تثبت ذلك..
قلنا في العدد الماضي أن الصرع من أمراض الدماغ ، ولم يقدم العلم تفسيراً واضحاً لهذا المرض وبيان أسبابه وتحديد محله ، ليسهل علاجه ، ويتم القضاء عليه .
وقلنا أن القرآن الكريم لم يشر إلى الدماغ بصورة ظاهرة ، وإنما أشار إلى السمع والبصر ، وأحياناً يقرنهما بالفؤاد .
أي أنه تارة يذكر الصفة ، وتارة يذكر الآلة ، ومن ذلك قوله : " ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين " ، وقوله : " وجعل لكم السمع والأبصار قليلاً ما تشكرون " ، يشير إلى أهميتها البالغة التي يقل الشكر معها ، ويغفل كثير من الناس عن أسرارها .
وحتى لفظ الحس لم يأت في القرآن ، سوى ثلاث جمل فعلية مشتقة منه !
- " فلما أحس عيسى منهم الكفر قال : من أنصاري إلى الله "
- " فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون " .
- " هل تحس منهم من أحد أو نسمع لهم ركزا " .
وكذلك لم يذكر القرآن " الرأس " إلا ست عشر مرة على جهة الوصف فقط لا على جهة المنة في مثل قوله : " ثم نكسوا على رؤوسهم- ولا تحلقوا رؤوسكم- محلقين رؤوسكم ومقصرين " وغير ذلك .
إلا أن الله تعالى منح الرأس أشرف العبادة وهي السجود
لأن الرأس يجمع كل ذرات الجسم ، فحين يسجد الإنسان فكأنه سجد بجميع ذرات جسمه الظاهرة والباطنة .
إن مرض- الصرع- من أشد الأمراض وأصعبها ، وما زال أمره مجهولاً منذ الآف السنين ولا بد وقد تبلج صبح العلم من معرفة أصله ومصدره .
ولأجل ذلك يلزم معرفة الدماغ وما فوقه أو دونه من منابع الحياة الأساسية ، على ضوء الآيات القرآنية ، لأن القرآن هو المعصوم الخالد ، ومصدر علم لما بقى من الدهر ،
قال تعالى : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه صدق الله العظيم
ويقال حجة دامغة : أي ليس منها مهرب ، ولا وراءها مطلب
ودمغهُ : غطاه ، فالحق يغطي الباطل ويزيل أثره ، ويعلوه كما يعلو الدماغ .
والدماغ أعلى ذروة في الجبل ، وفي جبال رازح في اليمن حصن يسمى : الدامغ ، أي أنه يسيطر على كل ما دونه .
وتسمى بصمة اليد دمغة ، لأنها تجمع أسرار الشخص كلها .
وقد يسمى الدماغ بالمخ لأنه خلاصة متناهية ، لكن المخ اسم مشترك ، فيقال مخ الساق ومخ العود ، ومخ القوم ، أي : الخلاصة العالية .
هو تلك الكتلة العجيبة ، الغريبة ، البسيطة المركبة ، الفريدة المعقدة ، الساجدة في ظلام تجويف الرأس ، المسؤولة عن أسرار الجوارح والحواس .
يعتبر الدماغ مجمعاً كلياً فلكياً لتدبير جميع شؤون الجسم ، وتنظيم الاستجابات الإرادية والذاتية للمنبهات الحسية .
فهو يضم مراكز تسيطر على التنفس ، وتنظيم درجة الحرارة ، وانتقال المواد داخل أجزاء الجسم ، وحفظ توازن جميع ذراتها ، وضبط الحركات الإرادية ، بالإضافة إلى مناطق الحواس المختلفة .
مثل السمع والبصر والشم والذوق- و اللمس . إضافة إلى الارتباطات العديدة بين أجزائه ، وما يشمل عليه من الأخاديد ، والسهول والمهاد والفصوص ، والخطوط المتعرجة ، والمنحنيات المتدرجة ، والخلجان الملتوية ، والمدارات المنطوية ،
إن ما وصل إليه العلم من معرفة هذا الكائن العظيم ، يعد محاولة أولية بنسبة واحد في المائة فقط .
ولعل الأيام القادمة خلاف ما قالوه ، وتثبت بيان ما جهلوه ، لقوله تعالى : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم " .
إن العلم عجز إلى الآن عن إدراك مواقع الرغبة ، والذاكرة ، والمصورة ، وغيرها ، والموجود عند الباحثين من المعلومات الخاصة بهذا العدد إنما هي إيضاحات تطلب من المصابين بألم الدماغ .
أو ما توصل إليه الباحثون ، بعد تجاربهم على الحيوانات ، وهي ليست كافية .
وحتى أولئك الذين كتبوا عن الدماغ ، قد بذلوا جهدا يحمدون عليه ، إلا أنهم أو غالبهم وقف وراء المصطلحات ، هروباً من التفاصيل الدقيقة .
وانحصر كلامهم في المراكز الأساسية ، والقواعد الأصلية ، على جهة الإجمال خوفاً من الضياع في هذه المجرة الهائلة .
والدماغ يتصرف في حالة غيابك- اللاإرادية- تصرفا متزناً بصورة فائقة ، ويتصرف في حالة حضورك- الإرادي- بنفس التصرف بزيادة التردد والإقدام منك-
وبما أن الدماغ قد اشتمل على هذه الأسرار العظيمة ، والقدرات الجسمية ، فإن القرآن لم يخصه بالذكر ، وإنما أطنب في ذكر السمع والبصر ، والفؤاد أحياناً .
كما أنه - أي القرآن- لم يذكر العقل بصفة مباشرة ، بل قال : لعلهم يعقلون- يتفكرون- يوقنون- يعلمون- يفقهون- بل قال : " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " .
ولعلنا في الموضوع القادم نبسط الكلام في ذلك إنشاء الله
السيد /محمد يحيى الجنيد
العنوان / اليمن