الحسين ممارسا للحرية
بدر شبيب الشبيب
حين تفقد السلطات الشرعية، فإنها تستخدم تقنيات متعددة للسيطرة على الآخرين أو «ضبط الرعاع» و«ترويض الوحش» إذا استخدمنا المصطلحات التشومسكية، نسبة إلى نعوم تشومسكي.
تتراوح تلك التقنيات بين الترهيب أو ما يعرف اليوم بسياسة العصا الغليظة أو القبضة الحديدية، حيث يستخدم البطش والتنكيل والسجن والنفي والحصار بشتى أنواعه لإرهاب الناس وإرغامهم على قبول الواقع والتعايش معه؛ وبين الترغيب وما يعرف بسياسة الجزرة لاستمالة بعض قوى التأثير الاجتماعي وكسبها إلى جانبه من خلال قوة المال والمناصب، وكثيرا ما تفلح في ذلك، إذ «الناس عبيد الدنيا» كما قال الإمام الحسين «عليه الصلاة والسلام» ؛ وبين الجمع بين العصا والجزرة في عملية احتواء مزدوج.
الإمام الحسين «عليه الصلاة والسلام» كان على نقيض السلطة تماما يرفض استخدام أي من هذه الأساليب لتطويع الناس. فقد خرج مطالبا بالحرية، ولا يقبل أن يكون معه إلا الأحرار الذين يختارون مواقفهم الحرة انطلاقا من قناعاتهم الراسخة دون أدنى إملاء.
لذا كان واضحا في جميع خطاباته من أولها لآخرها. أعلن منذ البداية أن أنصاره ينبغي أن يكونوا ذوي صفات متميزة، عمادها القرار الحر: «من كان باذلا فينا مهجته وموطنا على لقاء الله نفسه فليرحل فإني راحل مصبحا إن شاء الله».
وإذا كانت السلطات عموما حتى الديمقراطية منها، تقدم في الظروف الاستثنائية على تقييد الحريات بإعلان حالة الطوارئ، فإن الحسين ظل حتى النهاية متمسكا بخيار الحرية. فبالرغم من بيعة أصحابه الصادقة له، واجتيازهم للعديد من محطات التصفيات الدقيقة، فإنه ترك لهم الخيار لاتخاذ قرارهم دون أي ضغوط أو إكراه، ولم يفرض عليهم شرعيته الحقة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث أحلهم من بيعتهم له دون أي تبعات. فقد خاطبهم ليلة العاشر من المحرم قائلا: اللهم إني لا أعرف أهل بيت أبر ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحابا هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما قد ترون، وأنتم في حل من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمة، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، وتفرقوا في سواده، فإن القوم إنما يطلبونني، ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري.
يقول التاريخ متحدثا عن قرارات الأنصار الحرة ردا على خطابه الأبوي الرحيم: فقام إليه عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب، فقال: يا بن رسول الله، ماذا يقول لنا الناس إن نحن خذلنا شيخنا وكبيرنا وسيدنا وابن سيد الأعمام، وابن نبينا سيد الأنبياء، لم نضرب معه بسيف، ولم نقاتل معه برمح! لا والله أو نرد موردك، ونجعل أنفسنا دون نفسك، ودماءنا دون دمك، فإذا نحن فعلنا ذلك فقد قضينا ما علينا وخرجنا مما لزمنا.
وقام إليه رجل يقال له زهير بن القين البجلي، فقال: يا بن رسول الله، ووددت أني قتلت ثم نشرت، ثم قتلت ثم نشرت، ثم قتلت ثم نشرت فيك وفي الذين معك مائة قتلة، وإن الله دفع بي عنكم أهل البيت.
إن ما أنجزه الحسين «عليه الصلاة والسلام» من ممارسة للحرية حتى في أقسى اللحظات الحرجة هو من أعظم دروس كربلاء حيث انتصر الحسين للحرية بالحرية والأحرار.
الإمام الحسين... روحٌ إيمانية
رضي منصور العسيف
كيف نتعامل مع الأزمات؟
قد تعصف بالإنسان أزمة معينة، أزمة مالية، أو اجتماعية، أو نفسية، وتترك أثرها على نفسيته وروحه، وتؤثر في مسيرته الحياتية تأثيراً واضحاً، فقد تدفعه هذه الأزمة للتراجع عن المضي في تحقيق أهدافه، وقد تؤثر على نفسيته فيصاب بالتعب النفسي، أو القلق، وقد يتطور الأمر لإصابته بأحد الأمراض النفسية المزمنة!!
فما الذي يبقي الإنسان صامداً متحدياً مثل هذه الأزمات، وكيف يتجاوز الإنسان مرحلة الأزمة محافظاً على رباطة جأشه؟!
إن الإجابة عن مثل هذا التساؤل تتركز في جملة واحدة، وهي «الروح الإيمانية»، فمن يمتلك روحاً إيمانية وقلبًا مفعمًا بالإيمان فإنه يستطيع تجاوز الأزمات دون أن تُغير في مسيرته، بل يمضي في مسيرته بكل إصرار وصمود.
وفي هذا الصدد يقول آية الله السيد هادي المدرسي: «الإيمان سلاح الروح ضد الموبقات، وملجأ النفس عند الملحات، ووسيلة المؤمنين في معترك الحياة.
الإيمان بالله تعالى يعطيك مضاءً في العزيمة، وقوة في القلب، وصفاء في الضمير، ووضوحاً في الرؤية، وثقة بالنصر. أفلح من انشغل بنفسه عن الناس، وأفلح منه، من انشغل بالله تعالى عن نفسه، وعن الناس معاً.
وفي مقطع آخر يقول آية الله السيد هادي المدرسي: «في أصعب حالات المعاناة احتفظ بإيمانك، فإن الإيمان قادر على زحزحة الجبال الراسيات، وتغيير مجرى الرياح السافيات، وتبديل الأحزان إلى مسرات». 1
وهذا ما نجده في سيرة الإمام الحسين «عليه الصلاة والسلام» الذي كان يمثل روحاً إيمانية تحدت كل تلك الجيوش وكل تلك المحن والمصائب التي تجلت في يوم عاشوراء.
ويتجلى الإيمان في كربلاء...
في اللحظات الأخيرة من حياة الإمام الحسين «عليه الصلاة والسلام» تعرض جسده للعديد من الضربات من مختلف الأسلحة، وجسمه الشريف أصبح كالقنفذ من كثرة نبت السهام عليه، حتى قال الإمام الباقر «عليه الصلاة والسلام» : أصيب الإمام الحسين «عليه الصلاة والسلام» ووجد به ثلاثمائة وبضعة وعشرون طعنة برمح وضربة بسيف أو رمية بسهم». 2
وعند مقتل طفله الرضيع، قال «عليه الصلاة والسلام» تلك الكلمة المفعمة بالإيمان: «هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين الله» 3 .
«إن الإمام الحسين «عليه الصلاة والسلام» حينما يقول «الله أكبر» فإن قلبه يتجدد استقامة وصبراً وصموداً، وحينما هوى إلى الأرض لا يجد كلمة يعبر بها عن واقعه إلا تلك الكلمة التي تكشف طبيعته وشخصيته وتصبغ حركته كلها بصبغة الإيمان، قال: «رضاً برضاك، لا معبود سواك».
هذه هي الكلمة الوحيدة التي قالها الإمام الحسين «عليه الصلاة والسلام» في تلك اللحظات، يقول المؤرخون: حينما وقع الإمام الحسين «عليه الصلاة والسلام» وبه تلك الجراحات الكثيرة وحوله الأعداء، جمع حفنة من التراب جعلها كالوسادة، ووضع رأسه عليها وأخذ يناجي ربه وكأنه في طرف والدنيا كلها في طرف آخر، ولا يهمه إلا كسب رضا الله سبحانه وتعالى.. ليؤكد مسيرته الالهية الخاصة» 4 .
ولهذا ينبغي لنا أن نتعلم من الحسين كيفية تنمية الروح الإيمانية في ذواتنا، وذلك من خلال:
أولاً: الارتباط الدائم بالله تعالى
وهذا دأب أهل البيت «عليهم الصلاة والسلام» ، فهم على صلة وارتباط دائم بالله تعالى، ففي كل حركة وكل عمل يقومون به نجدهم متوكلين على الله تعالى. ومن يقرأ سيرتهم يجد فيها كمًّا هائلاً من الأدعية التي تدعو الإنسان للتقرب إلى الله تعالى، بل لقد وضع أهل البيت «عليهم الصلاة والسلام» برنامجاً متكاملاً من شأنه أن يقوي العلاقة بين الخالق والمخلوق، ففي كل موقف هناك دعاء خاص بهذا الموقف، ويبقى على الإنسان أن يلبي نداء الرحمن: «ادعوني استجب لكم»، ليكون في ضيافة الله. وقد تجلى هذا الأمر في حياة الإمام الحسين «عليه الصلاة والسلام» ، فمن يقرأ أدعية الإمام «عليه الصلاة والسلام» ويتدبر فيها، سيجد تلك الكلمات الروحانية التي تنم عن قوة العلاقة الروحية، وتنم عن قوة الرابطة بين الإمام الحسين وبين الله تعالى. ومن يقرأ خطب الامام الحسين «عليه الصلاة والسلام» ، ورسائله، سيكتشف الشخصية الإيمانية التي كان يتمتع بها الإمام الحسين «عليه الصلاة والسلام» . وفي يوم عاشوراء كان الحسين «عليه الصلاة والسلام» على اتصال دائم مع الله تعالى، حيث نجده يقف أمام تلك الجيوش رافعاً يديه قائلاً:
اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب، وأنت رجائي في كلّ شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمّن سواك، ففرّجته عنّي وكشفته، فأنت وليّ كلّ نعمة وصاحب كل حسنة، ومنتهى كلّ رغبة 5 .
ثانياً: التخطيط للمستقبل
إننا في هذه الحياة الدنيا نعيش في غفلة عظيمة جدًّا، فنحن نعيش في دائرة محدودة جدًّا ولم نفكر فيما بعد هذه الحياة!! وأصبح الإنسان يلهث وراء المادة متجاهلاً ذلك العالم الذي ينتظره، ولذا تجده ينهار أمام أقلّ أزمة تعصف، فهو يفتقر إلى الرصيد الروحي، ولم يخطط لمستقبله الأبدي. أما الإمام الحسين «عليه الصلاة والسلام» فكان ينظر لهذه الحياة الزائلة والفانية، ويرغب في لقاء الله معتبراً الموت قنطرة إلى السعادة الأبدية. ينقل أنه لمّا اشتدّ الأمر بالحسين بن عليّ بن أبي طالب «عليه الصلاة والسلام» نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم، لأنّهم كلّما اشتدّ الأمر تغيّرت ألوانهم وارتعدت فرائصهم ووجلت قلوبهم، وكان الحسين صلوات الله عليه وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم، وتهدأ جوارحهم، وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا، ﻻ يبالي بالموت، فقال لهم الحسين «عليه الصلاة والسلام» :
صبراً بني الكرام! فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، إن أبي حدثني عن رسول الله ص أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنّاتهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كذبت ولا كذبت 6 .
ثالثاً: قوة الإيمان تُحجم الأزمة
مهما كانت حجم الأزمة إلا أنها تبقى ضئيلة جدًّا أمام قوة الإيمان التي يتمتع بها الإنسان، وهذا ما يعلِّمنا إياه الإمام الحسين «عليه الصلاة والسلام» ، حيث يقول حميد بن مسلم: «فو الله ما رأيت مكسوراً قط قتل أصحابه وأبناؤه وأهل بيته أربط جأشاً منه».
نعم، فقد كل شيء في الحياة ولكنه لم يفقد شيئاً واحداً هو أهم الأشياء، وهو الله سبحانه وتعالى، وهذا هو أقوى سلاح في مواجهة الأزمات.
وفي الختام، ينبغي لنا أن نقتدي بالإمام الحسين ونتعامل مع الأزمات بروح إيمانية صلبة، ولا يتسنى لنا ذلك إلا بالبناء الإيماني لشخصياتنا عبر البرامج الإيمانية المكثفة.
1 المدرسي، هادي، طرق مختصرة إلى المجد، الإيمان.
2 القمي، الشيخ عباس، نفس المهموم في مصيبة سيدنا الحسين المظلوم، ص 325 الطبعة الأولى 1412هـ 1992م ـ دار المحجة البيضاء، بيروت ـ لبنان.
3 المصدر السابق، ص 218.
4 المدرسي، محمد تقي، عاشوراء استمرار لحركة الأنبياء ص 116.
5 الشيرازي، السيد حسن، كلمة الإمام الحسين ص 183 الطبعة الثانية 1421هـ 2000م، دار العلوم، بيروت ـ لبنان.
6 المصدر السابق، ص 159.
7 نفس المهموم، مصدر سابق، ص 329.
المحبون عن وعي
بدر شبيب الشبيب
أدلى قائد ميداني من قواد جيش يزيد في معركة كربلاء بتصريح خطير جاء في سياق توبيخه لجيشه ونهيه لهم عن قتال المبارزة مع جيش الإمام الحسين. قال عمرو بن الحجاج الزبيدي لجيشه كما نقل الطبري في تاريخه: «ويلكم يا حمقاء، مهلا، أتدرون من تقاتلون؟ إنما تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوما مستميتين». فقد تضمن كلامه وصفا دقيقا ينم عن معرفة بالجيش المقابل، وأنه يضم شخصيات لها باع طويل في ميدان الفروسية والحرب، فهم ليسوا نكرات أو مغمورين، وأنهم بالإضافة لذلك يمتلكون وعيا ثاقبا أو «أهل البصائر» بحسب تعبيره، كما أنهم أفراد استشهاديون يحملون أرواحهم على أكفهم.
«أهل البصائر» كما يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه «أنصار الحسين» هو «تعبير يعنى به الواعون الذين يتخذون مواقفهم عن قناعات تتصل بالمبدأ الاسلامي، ولا تتصل بالاعتبارات النفعية».
الإمام الحسين «عليه الصلاة والسلام» لم يكن يريد أن يكون معه إلا المحبون عن وعي، وعي بالواقع المرير الذي تمر به الأمة حينذاك، ووعي بالموقف الشرعي الصحيح الذي يجب أن يتخذ لتغيير الواقع، ووعي بمكانة القيادة ومقامها العظيم. لم يبحث الحسين «عليه الصلاة والسلام» عن إمَّعات أو همج رعاع أتباع كل ناعق، بل كان ينتقي أصحابه انتقاء ويصفيهم تصفية بعد تصفية، حتى لا يبقى إلا المحبون المخلصون.
تسأله أخته العقيلة زينب «عليها الصلاة والسلام» ليلة العاشر من المحرم سؤال الشفيق: أخي، هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم فإنّي أخشى أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة!
فبكى «عليه الصلاة والسلام» وقال: أَما وَاللهِ! لَقَدْ نَهَرْتُهُمْ وَبَلَوْتُهُمْ وَلَيْسَ فيهِم إِلاَّ الأشْوَسَ الأقْعَسَ؛ يَسْتَأْنِسُونَ بِالْمَنِيَّةِ دُوني اسْتِئْناسَ الطِّفْلِ بِلَبَنِ أُمِّهِ.
ويسأل هو ابن أخيه، الشاب اليافع «القاسم بن الحسن» سؤال المختبر الخبير: يا بني كيف الموت عندك؟! فأجابه القاسم جواب المحب العاشق لعمه وللشهادة: يا عم أحلى من العسل.
وعندما عرض على أصحابه مفارقته، وأبوا إلا ملازمته ونصرته، أوضح لهم المصير المحتوم الذي ينتظرهم ليكونوا على بصيرة تامة من أمرهم، قائلا: «يا قوم إني في غد أقتل وتقتلون كلكم معي، ولا يبقى منكم واحد!». فقالوا بلسان المحبين الواعين: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرفنا بالقتل معك، أوَ لا نرضى أن نكون معك في درجتك يا ابن رسول الله؟.
وفي موقف اختباري آخر، رأى نافع بن هلال ليلة العاشر مفردا، فقال له: يا هِلالُ! ألا تَسْلُكُ ما بَيْنَ هذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ مِنْ وَقْتِكَ هذا وَانْجُ بِنَفْسِكَ. فوقع على قدميه وقال: إذن ثكلت هلالاً أُمّه! سيّدي، إنّ سيفي بألف وفرسي مثله، فو الله الذي منّ عليّ بك لا أفارقك حتّى يَكِلاّ عن فَري وجَري.
وفي موقف آخر أيضا، وصل الخبر إلى محمد بن بشير الحضرمي أن ابنه قد أُسِر بثغر الري، فقال: عند الله أحتسبه ونفسي ما كنت أؤثر أن يؤسر وأبقى بعده. فسمع الحسين «عليه الصلاة والسلام» قوله، فأذن له في المضي، لاستنقاذ ولده من الأسر. فكان الرد من «الحضرمي» المحب الواعي: أكلتني السباع حيا إن فارقتك.
أما ابنه علي بن الحسين الملقب بالأكبر، فقد استوقفه فعل تكرر من أبيه بطريقة ملفتة، وهم في الطريق إلى كربلاء. فسأل أباه الحسين «عليه الصلاة والسلام» : مم حمدت الله واسترجعت؟ فقال: «يا بني، إني خفقتُ خفقة فَعَنَّ لي فارس على فرس وهو يقول: القوم يسيرون، والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نُعِيَت إلينا» فقال له: يا أبت لا أراك الله سوءا، ألسنا على الحق؟ قال: «بلى، والذي إليه مرجع العباد» قال: فإننا إذن لا نبالي أن نموت محقين.
محب آخر من المحبين الواعين هو زهير بن القين الذي عبر حبه ويقينه قائلا للإمام الحسين: والله لوددتُ أني قُتِلتُ ثم نُشِرتُ ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف مرة وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك لفعلت.
أما مسلم بن عوسجة، فإنه كان مشغولا بمحبوبه الحسين «عليه الصلاة والسلام» حتى اللحظات الأخيرة، فقد جاءه حبيب بن مظاهر الأسدي، وهو في الرمق الأخير، وقال له: لولا أني في الأثر لأحببتُ أن توصي إلي بما يهمك. فقال مسلم لحبيب: أوصيك بهذا، يعنى الحسين «عليه الصلاة والسلام» .
الحب حبان؛ حب يصدر عن أهواء النفس وشهواتها، وحب يصدر عن وعي عميق ومعرفة دقيقة بالمحبوب، وشتان بين الحبين.
عن الحبين تحدث القرآن فقال: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِله ﴾.
دمتم بحب... أحبكم جميعا..