( العمل لوجه الله تعالى )
مر البهلول يوما بمسجد – لم يتم بناؤه بعد – في محلة من محال بغداد ليطلع على بنائه , فلما رأى المسجد لم يكترث بشكل بنائه وزخرفة جدارانه وسقفه وقبته , وكأنه كان يخبئ شيئا في نفسه , ثم إنه نظر من خارج المسجد إلى لوحة خشبية كبيرة معلقة على جدار المسجد مكتوب عليها : مسجد الشيخ جمال .
والشيخ جمال هذا , رجل يحب الشهرة ويحب أن يطلع الناس على أفعال البر التي كان يقوم بها , وكان بهلول يعرف ذلك تماما .
غرق بهلول في تفكيره بالمسجد ولوحته واذا به قد أحس بثقل يد على كتفه , فلما التفت إلى خلفه رأى الشيخ جمال وهو مبتسم ,وقد حدق النظر إليه , ابتدره بهلول قائلا : (( السلام عليكم )) .
رفع الشيخ جمال يده عن عاتق البهلول وأجابه بتلك الابتسامة : (( وعليكم السلام )) .
قال البهلول : (( إنه مسجد كبير وحسن البناء )) .
خطا الشيخ جمال خطوة إلى الأمام وساير بهلولا , ثم قال : (( أسأل الله القبول )) .
قال بهلول – وكأن شيئا قد لفت نظره - : (( أريد أن أسألك عن شيء إلا أني لا أدري أسألك عن ذلك أم لا ؟ )) .
قال الشيخ : (( لا بأس عليك , سل فإني أرجو أن أملك لسؤالك جوابا مقنعا )) .
حرك بهلول رأسه وقال : (( طبعا , هو كذلك )) , إلا أنه بعد ذلك مكث قليلا ثم قال : (( لمن بنيت هذا المسجد ؟ )) .
لم يكن الشيخ جمال يتوقع مثل هذا السؤال , ومكث يفكر قليلا فخطر على ذهنه أن بهلولا رجل مجنون , ولا ينبغي العجب من المجنون أن يسأل مثل هذا السؤال , فأجابه قائلا : (( وهل يكون بناء المسجد لغير الله ؟! )) .
قال البهلول : (( نعم , نعم الأمر كما تقول , لن يدع الله عملك بلا
أجر , إنه لن ينسى أجر ذلك أبدا )) .
لم يتكلم الشيخ جمال بعد ذلك بشيء لأنه لا يفهم ماذا يريد البهلول منه بالضبط , لذا أخذ يخطو خطوات قصيرة لكن متواصلة حتى ابتعد عن بهلول .
وفي صباح الغد علا صوت الشيخ جمال بالصياح أمام المسجد الذي بناه بحيث يسمعه كل من يمر بالمسجد , وهو يقول : (( أيها الناس , اشهدوا على ما قام به بهلول , انه يدعي تملك هذا المسجد ... أيها الناس ... )) .
وكان الحق في ذلك مع الشيخ جمال , فإن اللوحة الخشبية مكتوب عليها (( مسجد بهلول )) لذا أصاب الشيخ جمال الدوار في رأسه من شدة الصدمة , وبح صوته من كثرة الصياح , ذلك أنه لم يخطر على باله يوما أن شخصا مثل بهلول يأتي ويكتب اسمه على لوحة المسجد الذي بناه الشيخ , فكيف تجرأ بهلول على مثل هذا العمل ؟ لكن مع ذلك , فقد كان الشيخ يخبئ لهيب غضبه , ويهدئ نفسه بما يخطر على باله بأن بهلولا رجل مجنون , لكن سرعان ما يجيب به نفسه , فيقول : (( إن للجنون حدا , أليس يعلم الناس من بنى المسجد , فقد سمعنا بكل ما يصدر عن المجانين إلا مثل هذه الأعمال , آه ... إنه يريد أن يكون المسجد باسمه , لكني سوف أعطيه درسا لن يجرأ بعده على مثل ذلك أبدا ... سوف أريق ماء وجهه أمام الناس )) .
اجتمع عمال بناء المسجد حول الشيخ جمال ليستمعوا ما يقول , وإذا به صاح فجأة بصوت عال وغضب : (( هلموا بنا لنبحث عن بهلول كي نعطيه درسا لا يتجاسر بعده على حقوق الآخرين )) .
ذهب هو مسرعا وتبعه بعض عمال البناء الذين كانوا يتحينون الفرص للهروب من العمل , قائلين للشيخ : (( نحن نأتي معك يا شيخ للبحث عن بهلول )) .
توجه كل منهم إلى جهة , فلم يستغرق البحث عن بهلول أكثر من ساعة حتى عثروا عليه , فجاؤا به إلى المسجد , وكان يسبقهم في ذلك الشيخ جمال الذي استولى عليه الغضب , فلما واجه الشيخ بهلولا وجها لوجه – وقد كادت عيناه تخرجان من الحدقتين – صاح بصوت عال : (( أيها المجنون , ما حملك على ما فعلت ؟ )) .
نظر بهلول إلى من حوله , وقال بسكينة : (( وما فعلت ؟ )) .
حدق الشيخ جمال بوجه بهلول , وقال : (( إنك لن تجرأ على الاعتراف بذنبك أمام الملأ , أليس كذلك ؟ )) .
أجابه بهلول وكأنه لا يعلم شيئا : (( وهل أذنبت ؟ وما هو ذنبي ؟ )) .
تضاحك الشيخ جمال والغضب قد استولى عليه , فأشار بيده إلى لوحة المسجد , وقال : (( وهل يجرأ غيرك أن يكتب اسمه على لوحة مسجد بناه غيره ؟ )) .
ألقى بهلول ببصره إلى لوحة المسجد ثم صرف بصره وكأنه لم ير شئا ذي بال , وقال بهدوء : (( إن كنت تريد بذلك هذا – وأشار إلى اللوحة – فاني فعلته )) .
أخذ غضب الشيخ يزداد لحظة بعد أخرى حتى صاح ببهلول : (( هل أنت بنيت المسجد لتكتب اسمك عليه ؟ )) .
رفع بهلول رأسه – مرة أخرى – إلى لوحة المسجد وأجاب : (( إني لم ابن هذا المسجد , لكني كتبت اسمي عليه )) .
أمسك الشيخ جمال بهلولا من تلابيبه والتفت إلى الحاضرين , وقال : (( انظروا , إنه يعترف بذنبه , إنه اعترف )) .
ارتفع صوت الحاضرين بالكلام , فكل منهم تراه يقول شيئا , لكن بهلولا لم يرعوي لكلامهم , وأشار إليهم بيده أن اسكتوا , فسكتوا وسكت الشيخ جمال , وتجددت لبهلول الجرأة على رد الشيخ وقال : (( أيها الشيخ , أسألك عن شيء أحب أن تصدقني فيه )) .
قال الشيخ : (( ولماذا الكذب )) .
قال بهلول : (( بالأمس التقيت بك في هذا المكان وتكلمنا قليلا , ثم سألتك : لمن بنيت هذا المسجد ؟ قلت : أريد به وجه الله )) .
تبسم بهلول وقال بصوت عال : (( تقول لله ! فهل الله يعلم بأنك أردت وجهه أم لا ؟ )) .
أجابه الشيخ بغضب : (( مع أني لا أرغب في إطالة الكلام معك , أقول : نعم , إن الله يعلم بذلك , كي لا تكون لك الحجة علي عند القاضي )) .
سكت بهلول هنيئة ليلفت بذلك الأنظار إليه , ثم قال : (( يا أيها الشيخ , إن كنت قد بنيت هذا المسجد لله فلا ضير عليك أن يكون باسمك أو باسم غيرك لكن أعلم أنك قد أردت بذلك وجه غير الله , نعم أردت به الشهرة , فقد أحبطت بذلك أجرك )) .
كان كلام البهلول يحمل في طياته حقيقة مرة أيقظت الشيخ جمال من نوم الغفلة , فماذا عليه بعد ذلك أن يقول ؟
لقد ألجم بهلول الشيخ بذلك فأسكته , واستحسن الحاضرون جواب البهلول , ولم يتكلم أحد بعده بشيء .
قال البهلول – وهو يمشي مشيا تقاربت خطاه – للشيخ جمال : (( أريد أن أرفع اللوحة التي تحل اسمي من على المسجد )) .
أراد الشيخ أن يقول شيئا لكن الكلمات تلكأت على شفتيه فسكت .
خطا البهلول خطوات نحو اللوحة لكنه رجع والتفت إلى الحاضرين قائلا : (( أردت بذلك الكشف عن حقيقة , وهي أن تعلموا أن العمل إن كان لوجه الله تعالى فلا يضركم ما يكون رأي الناس فيه مادام الله هو المطلع على حقائق الأمور )) ثم انصرف ليرفع اللوحة التي كتبها باسمه .