أفضل وأجمل ما قرأت للشاعر محمود درويش
مأساة النرجس , ملهاة الفضة
عادوا...
من آخر النفَق الطويل إلىمراياهم.. وعادوا
حين استعادوا مِلْحَ إخوتهم , فرادى أَو جماعاتٍ , وعادوا
من أَساطيرِ الدفاع عن القلاع إِلى البسيط من الكلامْ
لن يرفعوا ’ منبعدُ ’ أَيديَهُمْ ولا راياتِهمْ للمعجزات إِذا أَرادوا
عادوا ليحتفلوا بماءوجودهم ، ويُرتِّبوا هذا الهواءْ
ويزوِّجوا أَبناءهم لبناتهم ، ويرقِّصواجَسَداً توارى في الرخامْ
ويُعَلِّقوا بسُقُوفهمْ بَصَلاً ’ وباميةً ’ وثوماًللشتاءْ
وليحلبوا أَثداء مَاعِزِهمْ ’ وغيماً سالَ من ريش الحمامْ
عادوا علىأَطراف هاجسهم إلى جُغرافيا السحرِ الإِلهي
وإلى بساط الموز في أَرض التضاريسالقديمةْ:
جبلٌ على بحرٍ ,
وخلف الذكريات بحيرتان ,
وساحلٌ للأنبياء –
وشارعٌ لروائح الليمون . لم تُصَب البلاد بأَيَّ سوءْ
هَبَّتْ رياح الخيل , والهكسوس هبُّوا ’ والتتَار مُقَنَّعينَ
وسافرينَ . وخلَّدوا أَسماءهم بالرمحأَو بالمنجنيق ...
وسافروا لم يحرموا إِبريل من عاداته : يلدُ الزهور منالصخور
ولزهرة الليمون أَجراسٌ , ولم يُصب التُرابُ بأي سوءٍ-
أَيَّ سوء ’ أَيَّ سوءٍ بعدهم . والأَرضُ تُورَثُ كاللغةْ
هَبَّتْ رياحُ الخيل وانطفأَترياحُ الخيل ’ وانبثق الشعير من الشعيرْ
عادوا لأنهمُ أَرادوا واستعادوا النارَفي ناياتهم , فأتى البعيدُ
من البعيد , مُضَرَّجاً بثيابهم وهشاشة البلور ’ وارتفع النشيدُ-
على المسافة والغياب . بأَيَّ أَسلحة تُصَدُّ الروح عنتحليقها؟
في كل منفى من منافيهم بلادٌ لم يصبها أَي سوءْ...
صنعواخرافَتَهُمْ كما شاءوا ’ وشادوا للحصى أَلَقَ الطيور . وكُلَّما
مَرُّوا بنهرٍ.. مَزَّقوهُ , وأَحرقوهُ من الحنين ...وكُلّما
مَرُّوا بسَوْسَنَةٍ بكوا وتساءلوا :هل نحن شعب أَم نبيذٌ للقرابين الجديدةْ؟
يا نشيدُ ! خذ العناصركُلَّها
واصعدْ بنا
سفحاً فسفحاً
واهبط الوديان –
هيّا يانشيدُ
فأَنت أَدرى بالمكانِ
وأَنت أَدرى بالزمانِ
وقُوَّةِ الأَشياءفينا..
لم يذهبوا أَبداً ولم يصلوا ’ لأَن قلوبهم حَبَّة ُ لَوْزٍ في الشوارع . كانت
الساحاتُ أَوسعَ من سماء لا تُغَطِّيهم . وكان البحر ينساهم وكانوا يعرفونشمالهم وجنوبهم ’ ويطِّيرون حمائمَ الذكرى إلى أَبراجها الأُولى , ويصطادون منشهدائهم نجماً يُسَيِّرهم إلى وحشِ الطفولةِ كلما قالوا :
وصلنا ... خرَّأَوَّلُهُمْ على قوسِ البدايةِ . أَيها البطلُ ابتعدْ عنا لنمشي فيك
نحو نهايةأُخرى ’ فتبّاً أُخرى ’ فتبّاً للبدايةِ أَيها البطل المضرّج بالبدايات الطويلةِقُلْ
لنا : كم مرةً ستكون رحلتُنا البدايةَ؟ أَيها البطل المُسَجَّى فوق أَرغفةالشعير
وفوق صوف اللوز ’ سوف نحنِّطُ الجرحَ الذي يمتصُّ روحك بالندى : بحليبِليلٍ لا ينامُ , بزهرة الليمونِ ’ بالحجر المُدَمَّى , بالنشيد – نشيدنا ,
وبريشةٍ مقلوعة من طائرِ الفينيق-
إِنَّ الأَرضَ تُورَثُ كاللغةْ !
...ونشيدهم حَجَرٌ يَحُكُّ الشمسَ . كانوا طيِّبين وساخرينْ
لا يعرفونالرقص والمزمار إِلاَّ في جنازاتهم الرفاق الراحلينْ
كانوا يُحبُّون النساء كمايحبون الفواكه والمبادئ والقططْ
كانوا يَعُدُّون السنين بعمر موتاهم . كانوايرحلون إِلى الهواجسْ : ماذا صنعنا بالقرنفل كي نكون بعيدَهُ؟ ماذا صنعنابالنوارسْ
لنكون سُكَّانَ المرافئ والملوحةِ في هواءٍ يابسٍ : مستقبلينمُوَدِّعينْ؟
...كانوا , كما كانوا , سليقةَ كلَّ نهرِ لا يفتِّش عنثباتْ
يجرون في الدنيا لعلَّ الدرب يأخذهم إلى درب النجاة من الشتاتْ
....ولأنهم لا يعرفون من الحياة سوى الحياة كما تقدِّمها الحياة
لم يسألواعما وراء مصيرهم وقبورهم . ما شأنهم بعد القيامهْ ؟
ما شأَنهم إن إِسماعيل أَمْإِسحقُ شاةً للإِلهْ؟
هذي الجحيم هي الجحيمُ . تعوَّدوا أَن يزرعوا النعناعَ فيقمصانهم وتعلَّموا أَن يزرعوا اللبلابَ حول خيامهم , وتعوَّدوا حفظ البنفسج فيأَغانيهم وفي أَحواض موتاهم.., ولم يُصَب البناتُ بأَيَّ سوءٍ ’ أَيَّ سوء ’ حينجَسَّدهُ الحنينُ لكنهم عادوا قبيل غروبهم ، عادوا إلى أَسمائهم
وإلى وضوح الوقتفي سَفَر السنونو
...وأَمَّا المنافي ’ فهي أمكنةٌ وأَزمنةٌ تُغيِّرأَهلها
وهي المساءُ إِذا تدلَّى من نوافذَ لا تطلُّ على أَحدْ
وهي الوصولُإلى السواحل فوق مركبة أَضاعتْ خليها
وهي الطيورُ إذا تمادت في مديح غنائها ’ وهي البلدْ
وقد انتمى للعرش ...واختصر الطبيعة في جَسَدْ
...لكنهم عادوا منالمنفى ’ وإن تركوا هناك خيولَهُمْ
فلأَنهم كسروا خرافتهم بأَيديهم لكي يتسربوامنها وكي يتحرروا ويفكَّروا بقلوبهم .عادوا من الأسطورة الكبرى يتذكروا أَيامهموكلامهم . عادوا إلى المألوف فيهم وهو يمشي
فوق الرصيف ويمضغ الكسَلَ اللذيذووقتَهُ من غير غاية
ويرى الزهورَ كما ترى الناسُ الزهورَ..بلا حكاية
منزهرةِ الليمون تُولَدُ زَهْرةُ الليمون ثانيةً وتفتح في الظلامِ
نوافذَ الدورِالقديمةِ للمدى ..وعلى سلام العائلة
..وكأَنهم عادوا , لأَن الوقت يكفي كي تعودالقافلة
من رحلة الهند البعيدة .أَصلحوا عرباتهمْ وتقدموا قبل الكلامْ
وعلىنوافذ آسيا الوسطى أَضاءوا نجمةَ الذكرى , وعادوا وكأَنهم عادوا من شمال الشامعادوا
وكأَنهم عادوا من الجُزر الصغيرة في المحيط الرحب , عادوا من فتوحات بلاعَدَدٍ ومن سَبي بلا عدد , وعادوا
وكأَنهم عادوا كعودة ظلّ مئذنة إلى صوتالمؤذّن في المغيبْ
لم تسخر الطرقاتُ منهم مثلما سخر الغريبُ منالغريبْ
النهر هاجسهم , تَلَعْثَمَ أمْ فاض النهَرْ
ولراية الصفصاف عرَّافٌيُعَلِّقُها على ما سال من ذهبِ القمرْ
...ولهم حكايَتُهُمْ . وآدَمُ – جَدُّهجرتهم بكى ندماً وللصحراء هاجَرْ
والأَنبياء تشرَّدوا في كل أرض ’ والحضارةُهاجَرَتْ ’ والنخل هاجرْ لكنهم عادوا قوافلَ,
أَو رُؤى
أَو فكرةً,
أَوذاكرهْ
ورأوا من الصَور القديمة فتنةً أَو محنةً تكفي لوصف الآخرة
هل كانتالصحراءُ تكفي للضياع الآدميِّ؟ وصَبَّ آدمْ
في رَحْمَ زوجته ’ على مرأى منالتُفَّاح ’ شَهْدَ الشهوةِ الأُولى وقاومَ موتَهُ . يحيا ليعبد رَبَّهُ العاليليحيا
هل كان أَوَّلُ قاتٍل – قابيلُ – يعرف أَن نومَ أَخيه مَوْتْ؟
هل كانيعرف انه لا يعرف الأسماء, بعد, ولا اللغة
هل كانت إمرأة يغطَّيها قميص التوتأَوِّل خارطة ؟
لا شمسَ تحت الشمس إلا نور هذا القلب يخترق الظلالْ
كم منزمانٍ مرَّ كي يجدوا الجوابَ عن السؤالْ . وما السؤال إلا جوابٌ عن السؤال إلا جوابلا سؤال له . وكانت تلك أسئلة الرمالُ إلى الرمالْ نُبُوءةً ويغافل الصوفيُّ إمراةًليغزل صوف عتمتِهِ بلحيته , ويعلو جَسَداً من البلور . هل للروح أردافٌ وخاصرةٌوظلُّ ؟
في الأسر مُتَّسع لشمسِ الشكِّ منذ صاروا سكارى الباب – حُرّباتُهُم هيما تسقط من فضاء المُطَلق المكسور حول خيامهم :
خوذ , صفيح , زُرْقَةٌ , إبريقُماء , أسلحه
آثار إنسان , غرابٌ , ساعةٌ رمليةٌ , عشبٌ يغطي مذبحهْ .
هلنستطيع بناء معبدنا على متر من الدنيا ... لنعبدْ خالق الحشرات والأسماء والأعداءوالسر المخبأ في ذبابة ؟
هل نستطيع إعادة الماضي إلى أطراف حاضرنا , لنجسدْ فوقصخرتنا لمن كتب الزمان على الكتاب بلا كتابهْ ؟
هل نستطيع غناء أْغنيةٍ على حجرسماويَّ لنصمدْ ؟
للأساطير التي لم نستطع تغييرها إلا بتأويل السحابة ؟
هليستطيع بريدُنا المائيُّ أَن يأَتي على منقار هُدْهُدْ
ويعيدَ من سَبَإِرسالتَنَا ’ لنؤمن بالخُرافةِ والغرابهْ؟
..في التيه مُتَّسع لأحصنة تشبُّ منالسفوح إلى الأعالي
ومن السفوح تخر صوب القاع ، مُتَّسعٌ لفرسان يحثونالليالي
إن الليالي كُلَّها ليلٌ وإن الموت قتلٌ في الليالي
...يا نشيدُ ! خُذِ العناصرَ كُلَّها
واصعدْ بنا دهراً فدهراً
كي نرى من سيرة الإنسان ماسيُعيدُنا
من رحلةِ العبث الطويل إلى المكان – مكانِنَا ,
واصعد بنا قِمَمَالحراب لكي نُطلَّ على المدينةِ –
أَنتَ أدرى بالمكان , وقُوَّة الأَشياءفينا
أَنت أدرى بالزمان..
خذني إِلى حَجَرٍ –
لأجلس قرب جيتارالبعيدِ
خذني إلى قَمَرٍ –
لأعرف ما تبقَّى من شرودي
خذني إلى وَتَرٍ –
يَشُدّ البحرَ للبرِّ الشريدِ
خذني إلى سَفَرٍ –
قليلِ الموت في شريانِعودِ
خذني إلى مَطَرٍ –
على قرميد منزلنا الوحيدِ
خذني إليَّ لأَنتميلجنازتي في يوم عيدي
خذني إلى عيدي شهيداً في بنفسجة الشهيدِ
عادوا , ولكن لمأَعُدْ..
خذني هناك إلى هناك من الوريد إلى الوريدِ
..عادوا إلى ما كان فيهممن منازلَ , واستعادوا
قَدَمَ الحرير على البحيرات المضيئة ’ واستعادوا
ماضاع من قاموسهم : زيتونَ رُومَا في مخيّلة الجنودِ
توراةَ كنعانَ الدفينةَ تحتأنقاض تحت أنقاض الهياكل بين صُورَ وأورشليم
وطريقَ رائحةِ البخور إلى قُرَيْشَتهبُّ من شامِ الورودِ
وغزالةَ الأبد التي زُفّت إلى النيل الشماليِّالصعودِ
وإلى فحولةِ دجلةَ الوحشيِّ وَهْوَ يَزُفُّ سُومَرَ للخلودِ
كانوامعاً
كانوا معاً يتحاربون , ويَغْلِبون , ويُغْلَبونْ
كانوامعاً
يتزوَّجون وينجبون سُلالةَ الأَضدادِ أَو نسلَ الجنونْ
كانوامعاً
يتحالفون على الشمال ’ ويرفعون على الجحيمْ
جسرَ العبور من الجحيم إلىانتصار الروح فيهم كُلِّهم
ويعاودون الحربَ حول العقل . مَنْ لا عَقْلَ فيإِيمانِهِ
لا روح فيه..
هل نستطيع تناسخَ الإبداع من جلجامشَ المحروم منعُشْبِ الخلودِ
ومن أثينا بعد ذلك ؟ أين نحن الآن ! للرُّومان أَن يجدوا وجوديفي الرخام ’ وأَن يعيدوا نقطةَ الدنيا إلى روما ’ وأَن يلدوا جُدودي
من تفوُّقسيفهم
لكنًّ فينا من أَثينا
ما يجعل البحر القديمَ نشيدَنا
ونشيدُناحَجَرٌ يَحُكُّ الشمسَ فينا
حَجَرٌ يشعُّ غموضَنا أقصي الوضوحِ هو الغموضُ ,
فكيف ندرك ما نسينا؟
عاد المسيحُ إلى العشاء ’ كما نشاء ’ ومريٌ عادتْإِليهِ
على جديلتها الطويلة كي تُغَطَّيَ مسرحَ الرومان فينا
هل كان فيالزيتون ما يكفي من المعنى ..لنملأ راحيتهِ
سكينةً وجروحَهُ حَبَقاً ’ وندلقروحَنَا أَلَقاً عليهِ؟
..ويا نشيدُ , خذِ المعاني كلَّها
واصعدْ بنا جرحاًفجُرحاً
ضمِّدِ النسيانَ
واصعدْ ما استطعتَ بنا إلى الإنسانِ
حولَ خيامهِالأْولى
يُلَمِّعُ قُبّةَ الأفقِ المُغَطَّى بالنحاسِ
لكي يَرَى
ما لايَرَى
من قلبِهِ
واصعد بنا ’ واهبط بنَا نحو المكان
فأَنتَ أَدرى بالمكان ,
وأَنتَ أدرى بالزمان
...وفي الممرات استعدُّوا للحصار . نياقُهم عطشتْ وقدحلبوا السرابْ
حلبوا السرابَ ليشربوا لَبَنَ النبوءةِ من مخيّلة الجنوبْ
فيكل منفى قلعةٌ مكسورةٌ أَبوابُها لحصارهمْ ’ ولكُلِّ بابْ
صحراءُ تكملُ سيرةَالسفر الطويل من الحروب إِلى الحروبْ
ولكل عَوْسَجَةٍ على الصحراءِ هاجَرُهاجَرَتْ نحو الجنوبْ
مروا على أسمائهم منقوشةً فوق المعان والحصى
لم يعرفوها ....فالضحايا لا تصدِّق حَدْسها..
لم يعرفوها...
مَمْحُوَّةً بالرمل أَحياناً , وأَحياناً تغطيها نباتاتُ الغروبْ
تاريُخنا تاريخيهم , لولا اختلافُ الطير فيالرايات وحَّدتِ الشعوبُ – دروبَ فكرتها . نهايتُنا بدايتنا...
وإِنَّالأَرضَ
تُورَثُ
كاللغهْ
لو كان ذو القرنين ذا قرن ’ وكان الكونُأَكبرْ
لتشرَّقَ الشرقيَّ في أَلواحِهِ ..وتغرَّبَ الغربيُّ أَكثرْ
لو كانقصيرُ فيلسوفاً كانت الأرضُ الصغيرةُ دارَ قيصرْ
تاريخُنا تاريخنا...
ولنَخلةالبدويَّ أن تمتدِّ نحو الأَطلسيِّ
على طريق دمشقَ كي نشفى من الظمأ المميت إلىغمامهْ
تاريخُنا تاريخهم
تاريخهم تاريخُنا
لولا الخلافُ على مواعيدالقيامهْ !
من وحَّد الأَرضَ العنيدة خارج السيفِ المُرَصَّع بالحماسةِ؟
لاأَحدْ...
من عاد من سَفَرٍ إلى حَبَقِ الطفولةِ؟
لا أَحَدْ
من صاغَ سيرتهبمنأى عن هُبُوب نقيضها وعن البطولةِ؟
لا أَحدْ...
لا بُدَّ من منفى يَبيضُلآلئ الذكرى ويختزلُ الأَبَدْ
في لحظة تسعُ الزمانَ ,
...لعلَّهم كتبوا علىأَسمائهم أسماءَهم ,
وتذكروا في فضة الزيتون أَوَّلَ شاعرٍ سَجَّى هناكسماءهم
يا بحر إِيجةَ ’ عُدْ بنا يا بحرُ..قد نبحتْ كلابُ العائلاتْ
لتعيدَنامن حيث هَبَّتْ ريحُنا ...فالنَّصْرُ مَوْتْ
والموتُ نصرٌ في هِرَقْلَ...وخطوةُالشهداء بَيْتْ
نجن الذين أتو لكي يأتون وينتصروا ...رمتنا الكاهناتْ
بشمالغربتنا ولم يَسْأَلنَ عن زوجاتنا . من ماتَ ماتَ,
ومن تذكَّر بيتَهُ قتل المزيدمن العجائز والبناتْ
أَلقى بأَطفال المدينة من أسرتهم إلى الواديالسحيق
ليعود قبل الوقتِ من الشيطان،
هل خُنَّا نظامَ ضميرنا
لتخوننازوجاتُنا ؟
كان الضميرُ إليهنَّ البخورَ وعطرَ هيلينَ الجميلة
النصر موتكالهزيمة ’ والجريمة قد إلى الفضيلة
يا بَحْرُ ! أَنتَ تُزيَّنُ القتلى بقاتلهم ’ أَعِدْنَا أيها البحرُ القديمُ
إلى نُباح كلابنا في أَرضنا الأولى وتابعْأَيها البحرُ القديمُ
مغامرات البحث عمَّا ضاعَ من أسطولنا ... وزوارق الصيدالقديمةِ ، عن رجال أَصبحوا شجراً من المرجان في القيعانِ ,
أَما نحن , فاحملْنالنرجعَ
من حروب الذَّودِ عن عرشَ السرير إلى فراشِ نسائنا
وإلى قماش الحورأَخضرَ في الرمادِ وفي رؤى شعرائنا
لا بد من بَرِّ لنرسُوَ فوق خطوتنا وبُنْدُقِدارنا
فالضوء – هذا الضوء ’ لا يكفي لنقطف فيه توتَ ديارنا
....كانوا هناكيحاورون الموجَ كي يتشبَّهوا بالعائدين من المعارك تحت قوس النصر . لم تذهب منافيناسدى أَبداً ’ ولم نذهب إلى المنفى سدى . سيموت موتاهم بلا ندمٍ على شيءِ وللأحياءِالماضي بحاضرهم ’ وأن يبكوا على مهلٍ على مهلٍ لئلاَّ يسمع الأَعداءُ ما فيهم منالخزف
المكسَّر أَيها الشهداءُ قد كنتم على حَقَّ ’ لأَن البيت أَجملُ من طريقِالبيتِ , رغم خيانةِ الأَزهار ’ لكنَّ النوافذَ لا تُطلُّ على سماءالقلب...
والمنفى هو المنفى هنا وهناك . لم نذهب إلى المنفى سُدىً أَبداً ’ ولمتذهبْ منافينا سُدىً
والأرضُ
تُوْرَثُ
كاللغة !
....لم يُشْبهوا الأسرى ’ ولم يتقمَّصُوا حريةَ الشهداءِ . لم يتخلَّصوا من
صيف وحشتهم . لماذا أَشعلواالجبلَ البعيد بنارِ وحشتهم ’ وغابوا حين لم يجدوا لمنحدراتهم طُرُقاً تُوزِّعهمعلى الوديان ؟ قد يأتي الرعاةُ الأولون
إلى الصدى . قد يعثرون على بقايا صوتهموثبابهم , وعلى زمان سلاحهم , وعل تعرُّج نايِهِمْ مِنْ كُلِّ شعبٍ أَلَّفواأسطورةً كي يشبهوا أَبطالها ’ في كلِّ حربٍ ماتَ منهم فارسٌ ’ لكنَّ للأَنهاروِجْهَتَها وليس الأَمس أَمس
ليسكنوا أَعلى قليلاً من مَصَبِّالنهرِ
جيتاراتُهُمْ فَرَسٌ وأَندلُسٌ على قدَمَيْ
فتاةِ الريحِ دُقِّينا علىإِبَرِ
الصنوبرِ الغابات دُقِّينا تَرِقَّ الروحُ
فينا نتركِ الميناء للميناءدُقَّينا
بإيقاع النبيذ على سواد السرِّ بين الأَبيضين
وَخلِّصينا الآن منمُرْجانِ واديكِ
الكبير وعَلِّمينا مهنةَ الفَرَحِ المَسَلح
بالدم الغجريِّدُقِّينا ودُقّي ما يُطلُّ
من القلة بكعبك العالي لتلتفت
الشعوبُ إلى بدايةحربها : رَجُلٌ
يفتش في البراري عن سكينته
ويسكن امرأة
....وعلى أَعاليالموج , موج البحر والصحراء كانوا يرفعون جزيرةً لوجودهم
إِني وقد دافعتُ عنسَفري إِلى قَدَري أدافع عن نشيدي
بين النخيل وظلِّه المثقوبِ . من عدمي سأمشيمن جديدِ
نحو الوجود – يقول شاعرهم وقد عادوا – سأترك للبعيدِ
ولزهرة الليمونجِسْرَ الأَزرقِ المكسورِ بالأمطار .مُرُّوا
يا منشدونَ , إذا استطعتم أَنتُعيدوا
للخيول صهيلها ’ مُرُّوا إِذاً يا منشدونْ
الخيلُ تلهثُ خلف قلبي وهويقفز من يديَّ إلى السدودْ
ها نحن نحن, فمن يغيَّرنا ؟ نعودُ ولا نعودْ
ونسيرفينا...
عندما يأتي نهارٌ واحدٌ لا موتَ فيه
وليلةٌ لا حلمَ فيها , نبلغالميناءَ محترقين بالوردِ الأَخيرِ
وكأَنهم عادوا ,
لأَن البحر يهبط عنأَصابعهم وعن طرف السريرِ
كانوا يرون بيوتهم خلفَ السحابِ
ويسمعون ثُغاءَماعزهم , وكانوا
يتحسَّسون قُرونَ غزلانِ الحكايةِ..
يضرمون النارَ فوقالتَّلِّ . كانوا
يتبادلون الهالَ كانوا يعجنونَ فطائرَ العيدالسعيدِ
أَتذكرون؟
أَيامَ غربيتنا هناك ؟ ويرقصون على الحقائبِ ساخرينْ
منسيرة المنفى البعيد ومن بلاد سوف يهجرها الحنينْ
هل تذكرون حصارَ قرطاجَالأَخيرْ؟
هل تذكرون سقوطَ صورْ
وممالكَ الإفرنجِ فوق الساحلِ السوريَّ ’ والموتَ الكبيرْ
في نهر دجلةَ عندما فاضَ الرمادُ على المدينةِوالعصورْ؟
((ها نحن عدنا يا صلاح الدين))...
فابحث عن بَنِينْ.
كانوايعيدون الحكاية من نهايتها إلى زمن الفكاهةْ
قد تدخل المأساةُ في الملهاةيوماً
قد تدخل الملهاةُ في المأساة يوماً..
في نَرْجسِ المأساة كانوايسخرونْ
من فِضَّة الملهاة , كانوا يسألون ويسألون:
ماذا سنحلم حين نعلم أَنمريمَ امرأة؟
كانوا يشمّون الحشائشَ وهي تفتح في الجدار ربيعَهاوجروحَهم
وتعيدهم من كل منفى . لَسْعَةُ القُرَّاصِ تشبهُ لسعةَالأَفعى
ورائحةُ الحَبَقْ
هي قهوة المنفيّ ...ممشى للعواطف حين تمشي فيمنازلها...
وصلنا !
صَفَّقُوا لكلابهم , لبيوت عودتهم , لأَجدادِ الحكايةِ , للمحاريث القديمة ,
لاحتكاك البحر بالبصل المُعَلِّق فوق أَسلحة قديمهْ
ماكان كانَ ومازحَ الأَزواجُ زوجاتِ الجنازاتِ :
انتهينا من دموع النادباتِ ’ الراقصات , الباكياتْ
نروى , إذاً , رَكْضَ القلوبِ مع الخيول إلى هبوبالذكرياتْ
نروي صُمُودَ هِرَقْل في دمه الأَخيرِ وفي جنونالأمهاتْ
ونَكُونُهُ ,
ونكونُ أُوليسَ إِذا أَرادَ البحرُ ذلك يابناتْ
نروي ونروي ’ حينما نروي , نداءَ القائد الكُرديِّ
للمتردِّد العربيِّ : هاتْ
سيفاً
وخُذْ مني الصلاةَ على النبيِّ وصَحْبِهِ ونسائِهِ
وخذِالزكاةْ
...ضحكوا كثيراً : قد يكون السجن أَجمل من بساتين المنافي
ورأوانوافذهم تطلّ على فُكاهتهم وتُوقد ورْدَها حول الضفافِ
ما كان كانَ , سيقفزونعلى السلالم ,
يفتحون خزائن الذكرى
وصندوقَ الثيابِ
يُلَمِّعُون مقابضَالأَبواب أَحياناً,
وأَحياناً يَعُدُّون الخواتمْ
كُبرَتْ أَصابعُهُم معالأَيام وانتفخت محاجرهم
ولم يجدوا على صَدَأ المرايا والزجاج وجوههم
حسناً ,
ستتسع الحديقةُ عندما يصلون بعد هنيهةٍ قبل النشيدْ
وسينظرون وراءهم :
هانحن نحن , فمن سيُرجِعُنا إِلى الصحراءِ؟
سوف نُلَقِّن الأَعداء درساً فيالزراعة وانبثاق الماء من حجرٍ...سنزرع فلفلاً في خوذة الجنديِّ ... نزرعُ حنطةً فيكل منحدرٍ لأنَّ القمح أَكبر من حدود الإِمبراطورية الحمقاءِ في كل العصورِ سنقتبسُعادات موتانا ونغسل فضَّة الأشجار من صدأ السنينِ...
بلادُنا هي أن تكونبلادَنا
وبلادنا هي أَن نكون بلادَها
هي أن نكونَ نباتَها وطيورَهاوجمادَها
وبلادُنا ميلادُنا
أَجدادُنا
أَحفادُنا
أَكبادُنا تمشي علىأَو زغبِ القطا ,
وبلادُنا هي أَن نُسيِّج بالبنفسج نارَها ورمادَها
هي أَنتكون بلادَنا
هي أن نكون بلادَها
هي جَنَّةٌ
أَو محنةٌ
سَيَّان –
سوف نُعَلِّم الأعداءَ تربيةَ الحمام إذا استطعنا أَن نُعَلِّمهمْ وسوف ننامبعد الظهر تحت عريشةِ العنبِ الظليلةِ , حولنا قططٌ تنام على رذاذِالضوءِ
أحصنةٌ تنام على انحناء شرودها . بَقَرٌ ينامُ ويمضغ الأعشاب َ . ديكُ لاينام
لأن في الدنيا دجاجاتٍ وسوف ننامُ بعد الظهرِ تحت عريشةِالعنبِ
الظليلةِ كمْ تعبنا .. كم تعبنا من هواء البحر والصحراءِ –
....كانوايرجعُونَ
ويحلمون بأَنهم وصلوا
لأَن البحر ينزل عن أَصابعهم وعن أكتافموتاهم
وكانوا يشهدون ’ فُجاءَةً : ريحانة البطل المسجّى فوق خطوته الأَخيرةْ :
أَهنا يموت على مسدسه وسُندسِهِ وعَتْبَتِهِ الأخيرةْ؟
أهنا يموت هنا ؟ هناوالآن في شمس الظهيرةْ
والآن , هَزَّت إصبعاه بشارةِ النصر الأخيرةْ
بوَّابةَالبيتِ القديم , وهزَّ أَسوار الجزيرةْ
الآن سدَّدَ آخرَ الخطوات نحو الباب ... واختتم المسيرةْ
برجوع موتانا . ونامَ البحرُ تحت نوافذ الدّورالصغيرةْ
...يا بحرُ ! لم نخطئ كثيراً ..أيها البحرُ القديمْ
لا تُعْطِنا ’ يا بحُ ’ أَكثر من سِوانا ...نحن ندري
أن الضحايا فيك أَكثرُ والمياهْ هيالغيومْ
....كانوا كما كانوا وكانوا يرجعون ويسألون كآبة الأَقدارِ
هل لابُدَّ من بطلٍ يموت لتكبر الرؤيا وتزداد النجومْ
نجْماً على راياتنا ؟
لميستطيعوا أن يضيفوا للنهايةِ وردةً
ويغَّيروا مجرى الأَساطير القديمة :
فالنشيدُ هو النشيدْ :
لا بُدَّ من بطلٍ يخرُّ على سياجِ النصرِ
في أوجالنشيدْ
....يَا أيها البطل الذي فينا .. تَمَهَّلْ !
عِشْ ليلةَ أُخرى لنبلغآخر العمر المُكلَّلْ
ببداية لم تكتملْ ،
عِشْ ليلةً أُخرى لنكملَ رحلةَالحُلُم المُضَرِّجْ
يا تاجَ شوكتنا ، ويا شَفَقَ الأساطيرِالمُتَوَّجْ
ببدايةٍ لا تنتهي . يا أيها البطلُ الذي فينا ...تمهَّلْ !
عِشْساعةً أُخرى لنبدأ رقصةَ النصرِ المُنَزَّلْ
لم ننتصر , بعدُ ’ انتظرْ يا أيهاالبطلُ انتظرْ
فعلامَ ترحلْ
قبل الوصولِ بساعةٍ ؟
يا أيها البطلُ
الذي
فينا
تمهِّلْ !
...مازالَ فيهم من منافيهم خريفُ الاعترافْ
ما زالفيهم شارعٌ يفضي ؟إلى المنفى ...
وأَنهارٌ تسير بلا ضفافْ
ما زال فيهم نرجسُرخوٌ يخاف من الجفافْ
ما زال فيهم ما يغيِّرهم إِذا عادوا ولم يجدوا :
الشقائق ذاتها
وَبَرَ السفرجلة العنيدة ذاتَها
والأقحوانةَ ذاتَها
والأَسكيدنيا ذاتَها
وسنابلَ القمح الطويلةَ ذاتَها
والبيلسانةَ الثومِالمجفَّف ذاتهَا
والسنديانَةَ ذاتَها
والأَبجديةَ ذاتَها
...كانوا علىوشك الهبوط إلى هواءِ بيوتهم..
من أَيَّ حلم يحلمون ؟
بأيِّ شيء يدخلونحدائقَ الأَبوابِ
والمنفى هو المنفى
...وكانوا يعرفون طريقَهم حتى نهايتهوكانوا يحلمونْ
جاءوا من الغد نحو حاضرهم ... وكانوا يعرفونْ
ما سوف يحدثللأغاني في حناجرهم ... وكانوا يحلمونْ
بقرنفُل المنفى الجديدِ على سياجِ البيت , كانوا يعرفونْ
ما سوف يحدث للصقور ’ ويحلمونْ
بصراعِ نرْجِسِهم مع الفردوسحين يصير منفاهم , وكانوا يعرفونْ
ما سوف يحدث للسنونو حين يْحرقه الربيعُ , ويحلمونْ
بربيع هاجسهم يجيءُ ولا يجيءُ , ويعرفونْ
ما سوف يحدُث حين يأتيالحُلْمُ من حُلُمٍ
ويعرف أنه كان يحلمُ ،
يعرفُون , ويحلمُون , ويرجعُون , ويحلمون , ويعرفُون ’ ويرجِعُون ’ ويرجعُون ’ ويحلُمون ’ ويحلُمون , ويحلمُون , ويرجعُونْ .