هذا هو الزهد
ولد في ذلك البيت البسيط صرخات الطفلين الجديدين في هذا العالم المليء بالسواد والحزن والألم ،لم يكن لذلك الفلاح الأب الحيلة إلا أن يذهب بعنزته الوحيدة إلى السوق حتى يستبدلها بنقود تغطي تكاليف الولادة والأم الجائعة حتى ترضع توأميها
مرت الأيام والسنون على الطفلين وأصبحا يعرفان معنى الحياة في هذه الدنيا وكيف التعامل معها ولكن بطريقين مختلفين
فالأول وكان اسمه (ابن الآخرة) ينظر لها كأنها رحلة قصيرة وستنتهي أخيرا بالوصول إلى حياة أبدية فالحاذق يجب أن يعمل لتحصيل تلك الحياة الأبدية السعيدة أما هذه الدنيا فتنقضي بأي شيء وان كان بجرعة ماء مر من بئر قديم وقطعة خبز مخضرّ حول أطرافه من العفن لا يهم المهم تلك الحياة وليست هذه الأضحوكة التي تسمى بالدنيا
أما الثاني وكان اسمه (ابن الدنيا) فكان يرى أن هذه الدنيا جميلة يجب أن نتمتع بها ونستلذ بملذاتها ولا بد من تحصيل المال لتحصيل تلك الملذات والسعادة ،وهذه السعادة ستوصلني إلى تلك الحياة الثانية
(ابن الآخرة) ذهب نحو الجبل وقعد في مغارة ظلماء تلك المغارة لم يكن فيها إلا سجادة وقربة ماء وحصير بالٍ وبعض أقراص من الخبز وفانوس قديم فيه بعض الزيت ومسبحة
(ابن الدنيا) بدأ يشق طريقه في السوق والعمل والمتاجرة وغرق في لجات بحر الدنيا لأم رأسه
في يوم مشرق مضيء قرر (ابن الآخرة) زيارة أخيه وشقيقه ابن الدنيا ،نزل من صومعته المنفردة متجها إلى أخيه فقد مرت عشرون سنة وهو لم يراه
نزل والناس تركض أمامه تحاول أن تمس أطراف أقدامه أو بعضا من خيوط ردائه المبارك ،ضجت الناس إليه وهو ينظر لهم بعين الرحمة لهم لإنهم كحال أخيه( ابن الدنيا)
وصل إلى متجر أخيه الذي كان كخلية النحل يعج بالعاملين والمشترين
سأل عن أخيه فأرشدوه إلى موضع يجلس فيه يراقب مجريات العمل
دخل عليه وقد سبقته دموع الاشتياق والحنين ,قبل أن يتكلم بادره أخوه أنت أخي (ابن الآخرة ) احتضنه بشدة وشوق ودموع
جلسا يتذكران أيام الصبا والبساطة في كوخ أبيهما وحقلهما الصغير
قال(ابن الآخرة ) يا أخي ألم تفكر في ما عزمت عليه منذ عشرون سنة ؟ ألم تشبع من جمع الأموال والذهب ؟ أليس يكفي ما ضيعته من أيام عمرك في هم الدنيا وتعبها ؟
قال (ابن الدنيا) ولكني يا أخي لم أعص الله طرفة عين واني بعملي هذا قد فتحت مئات البيوت وأعلتهم وزوجت الكثير من الذين كانوا يعملون عندي وحقوق الله في أموالي قد أخرجتها كاملة مع الزيادة فهل أنا مذنب أو مقصر بشيء ؟
قال( ابن الآخرة ) نعم أنت مذنب بتعلّقك بحب الدنيا وزينتها
قال (ابن الدنيا) وماذا أفعل لكي اكفر عن ذنبي
قال له (ابن الآخرة) تعال معي إلى صومعتي هناك في أعلى الجبل وستعرف معنى الزهد هناك
قال(ابن الدنيا) والدموع تملأ عينيه الآن أذهب معك
وبالفعل مباشرة اتجه ابن الدنيا مع أخيه ابن الآخرة نحو الجبل وصومعة أخيه المليئة بحب الله والقرب له هجر الأوطان والأحباب والأموال والدنيا في سبيل تحقيق رضا الله
وأثناء الطريق توقف ابن الآخرة وقد اعتصر وجهه واحمر ،سأله أخوه ابن الدنيا عن السبب
فقال له ابن الآخرة:حين نزلت إليك من صومعتي كنت أحمل مسبحة من حجر كريم ظلت معي سنينا طوال وأنا اسبح بها لله عز وجل وحين جلسنا في متجرك سقطت مني ولم التفت إليها دعنى نرجع إلى المدينة ونبحث عنها
تأمل (ابن الدنيا )في حال أخيه ثم قال له :لقد تركت كل شيء بمجرد أن طلبت مني الذهاب إلى محل أتحصل فيه على رضا الله و أزهد بهذه الدنيا وأنت ضيعت مسبحتك وتردينا ألان أن نرجع إلى المدينة حتى نبحث عنها
يا عزيزي يا ابن الآخرة الزهد ليس معناه أن لا تملك شيء بل الزهد أن لا يملكك شيء
إنني راجع إلى صومعتي أو متجري فالأسماء مختلفة والمعنى واحد وأنت ارجع إلى صومعتك والى دنياك أيهما تريد فالمعنى واحد أيضا
انتهت
(أبو الحسن ألكاظمي)