|
عضو جديد
|
رقم العضوية : 24320
|
الإنتساب : Oct 2008
|
المشاركات : 36
|
بمعدل : 0.01 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
منتدى العقائد والتواجد الشيعي
بحث حولة عقيدة الشييعة (عقائدنا)
بتاريخ : 29-07-2012 الساعة : 03:46 AM
عقائدنا
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
1- إننا نعيش في عصر يجري فيه تحول عظيم مصدره أحد أكبر الرسالات السماوية ألا وهو الدين الإسلامي الذي يشهد في عصرنا ولادة أخرى جديدة، استيقظ على إثرها المسلمون وعادوا إلى أصولهم يبحثون عن حلول لمشاكلهم في مطاوي تعاليمه وأصوله وفروعه، بعد أن عجزت الأنظمة والتشريعات الوضعية عن تقديم الحلول الناجعة للمشكلات.
فما هو السبب الكامن وراء هذا التحول؟ إنه موضوع آخر، إلا أن المهم أن تأثيرات هذا التحول الجبار تلمس بوضوح في جميع البلدان الإسلامية، بل حتى خارج العالم الإسلامي، ولهذا يوجد لذا كثير من الناس طموح لمعرفة كلمة الإسلام، ورسالته الموجهة للعالم.
وحري بنا في مثل هذه الظروف الحساسة أن نوضح الإسلام كما هو دون أية إضافات أو شوائب، وبتعبير واضح: أن نسهل فهمه على عامة الناس، ونبين الحقيقة كما هي لنروي ظمأ الناس الذين يريدون اكتساب المزيد من المعرفة للإسلام ولمذاهبه، لكي لا نسمح للآخرين أن يتحدثوا بالنيابة عنا ويقرروا بدلاً منا.
2- مما لا ينكر أن في الإسلام – كسائر الرسالات السماوية – مذاهب مختلفة، لكل منها خصائصه العقائدية والعملية، غير أن هذه الاختلافات ليست بمستوى أن تمنع التقارب والتعاون بين أتباع هذا الدين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم؛ حيث يمكنهم بالتعاون الاحتفاظ بكيانهم ووجودهم أمام تيارات الشرق والغرب، وإحباط مخططات الأعداء للنيل منهم.
ولا ريب في أن مثل هذا التفاهم يحتاج تعميقاً لأسسه إلى مراعاة بعض الأصول والضوابط، ومن أهمها اطلاع الفرق الإسلامية بعضها على بعض بوضوح رؤية؛ لأن من شأن هذه المعرفة أن تمهد الطريق أمام التعاون والتفاهم وتمنع أي سوء فهم قد يحصل بينها.
ومن أفضل سبل المعرفة المتبادلة مطالعة عقائد كل مذهب في الأصول والفروع من علماء المذهب نفسه، وإلا فإن الاطلاع على معتقدات أي مذهب من خلال الجاهلين به أو بواسطة العدو يحجب عن الوصول إلى الهدف ويؤدي إلى الافتراق بدلاً عن الاتحاد.
3- بلحاظ النقطتين المذكورتين آنفاً بادرنا إلى جمع معتقدات المذهب الشيعي بأصوله وفروعه وخصوصياته في هذا الكتاب المختصر الذي يتسم بالخصائص التالية:
أ. أنه يمثل عصارة لجميع مواضيع المذهب الضرورية. ويرفع عن كاهل القارئ مشقة مراجعة كتب عديدة.
ب. بحوثه واضحة بعيدة عن أي لبس أو إبهام أو غموض وقد تجنبنا استخدام المصطلحات الخاصة بالأجواء العلمية والحوزوية الخاصة بطلاب العلوم الشرعية دون أن يؤثر ذلك في عمق البحوث الواردة فيه.
ت. رغم أن الهدف هو ذكر العقائد دون بيان دلائلها، إلا أن البحوث اقترنت في المواقع الحساسة بالأدلة من الكتاب والسنة والعقل، ما سمحت لنا طبيعة هذا المؤلَّف المختصر بذلك.
ث. ابتعدنا عن أسلوب المجاملة أو الحكم مسبقاً على الآخرين، لكي يعكس الكتاب الحقائق كما هي.
ج. مراعاة الأدب وعفة القلم حيال المذاهب الأخرى في جميع البحوث.
وأخيراً فإن الكتاب أعد وفق المنهج المذكور لدى حج بيت الله الحرام، حيث يلهم الله المرء صفاءً أوفر، وروحاً أزكى وأطهر، ثم تمت مناقشة بحوثه بحضور جمع من العلماء وفي جلسات عديدة حتى أكمل بإذن الله تعالى وتوفيقه.
نرجو أن نكون قد أفلحنا في بلوغ الأهداف المشار إليها، ليصبح ذخراً لنا في معادنا.
(ربنا إننا سمعنا منادياً للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار) سورة آل عمران/193.
الفصل الأول
معرفة الله والتوحيد
1- وجود القادر المتعال:
إننا نعتقد بأن الله تعالى هو الذي خلق عالم الوجود، حيث تتجلى آثار عظمته وعلمه وقدرته في جميع الكائنات؛ في عالم الإنسان، وفي عالم الحيوان والنبات، وفي نجوم السماوات والعوالم العليا، وفي كل مكان.
إننا نعتقد أنه كلما تدبرنا في أسرار الكائنات أدركنا عظمة ذاته المنزهة وسعة علمه وقدرته، وكلما تقدم العلم البشري فتحت أمامنا أبواب جديدة من علمه وحكمته وانطلق تفكيرنا إلى مديات أوسع وآفاق أعظم؛ وهذا التفكير سيزيد من حبنا لذاته المقدسة ويقربنا منه ويحيطنا بنور جلاله وجماله.
قال تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون) الذاريات/20و21.
وقال جل من قائل: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً…) آل عمران/190-191.
2- صفاته الجمالية والجلالية:
إننا نعتقد أن ذاته منزهة عن كل عيب ونقص، وتتصف بجميع الكمالات، بل هو الكمال المطلق ومطلق الكمال. وبعبارة ثانية: أن كل كمال وجمال في هذا العالم مستل من ذاته المنزهة: (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) الحشر/23-24.
والصفات المذكورة في هاتين الآيتين الكريمتين تمثل بعض الصفات الجمالية والجلالية الإلهية.
3- ذاته المنزهة غير متناهية:
إننا نعتقد أنه وجود غير متناه من حيث العلم والقدرة والحياة الأبدية؛ ولهذا لا يمكن حصره في الزمان والمكان، لأنهما محدودان، وإنما هو حاضر في كل زمان ومكان لأنه فوقهما: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم) الزخرف/84.
(وهو معكم أينما كنتم واله بما تعملون بصير) الحديد/4.
إنه أقرب إلينا من أنفسنا، فهو في أعماق نفوسنا، وفي كل مكان، ومع ذلك فهو لا يحد بمكان: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ق/16.
(هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) الحديد/3.
ولا تعني بعض الآيات الكريمة من قبيل: (ذو العرش المجيد) البروج/15، و (الرحمن على العرش استوى)[1] أن له مكاناً خاصاً به تعالى، وإنما تثبت هذه الآيات حاكميته وسلطته على كل العالم المادي وعالم ما وراء الطبيعة؛ لأننا إذا حددنا له مكاناً خاصاً فقد حددناه ووصفناه بصفات المخلوقات، واعتبرناه مثل سائر الأشياء، والحال أنه ليس مثلها، كما قال تعالى عن نفسه: (ليس كمثله شيء) الشورى/11.
و (لم يكن له كفؤاً أحد) التوحيد/4.
4- نفي التجسيم عنه:
إننا نعتقد بأنه تبارك وتعالى لا يمكن رؤيته، لأن الشيء الذي يرى بالعين هو جسم ولا بد له من مكان ولون وشكل وجهة، وهذه كلها من صفات المخلوقات، والله تعالى أعظم من أن يتصف بصفات مخلوقاته؛ وعليه فإن الاعتقاد بإمكان رؤية الله هو نوع من الشرك: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) الأنعام/103.
ولهذا فإن موسى (عليه السلام) لما طلب منه بنو إسرائيل رؤية الله شرطاً للإيمان: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً) البقرة/55، أخذهم موسى إلى جبل الطور، فسمع من الله تعالى الجواب التالي: (لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) الأعراف/143؛ إذ تكشف الآية الكريمة عن أنه لا يمكن رؤية الله تعالى مطلقاً.
إننا نعتقد أن المراد من بعض الآيات والروايات التي تتحدث عن رؤية الله تبارك وتعالى، هي الرؤية القلبية والشهود الباطن؛ ذلك أن القرآن يفسر بعضه بعضا[2].
ويقول أمير المؤمنين علي عليه السلام في جواب من سأله: (يا أمير المؤمنين، هل رأيت ربك…؟)، يقول: (أأعبد ما لا أرى؟). ثم قال: (لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان)[3].
إننا نعتقد أن وصف الله بصفات المخلوقات من قبيل المكان والجهة والجسمية والمشاهدة والرؤية، يؤدي إلى الابتعاد عن معرفة الله تبارك وتعالى، وإلى الشرك به. أجل، فهو تعالى أعظم من كل صفات المخلوقات، وليس كمثله شيء.
5- التوحيد روح التعاليم الإسلامية:
إننا نعتقد أن التوحيد من أهم الأمور التي يمكن من خلال معرفتها التوصل إلى معرفة الله؛ والتوحيد ليس أصلاً من أصول الدين فحسب، وإنما هو روح جميع العقائد الإسلامية وجوهرها، ويمكن القول بتمام الصراحة: أن أصول الإسلام الناصعة تتضمن كلاماً عن التوحيد والوحدة؛ وحدة ذاته المنزهة وتوحيد صفاته وأفعاله، وبتفسير آخر: وحدة دعوة الأنبياء ووحدة الدين الإلهي، ووحدة القبلة والكتاب، ووحدة الأحكام والقوانين الإلهية لجميع بني البشر، وأخيراً وحدة صفوف المسلمين ووحدة يوم المعاد.
وما يؤكد أهمية هذه الوحدة وهذا التوحيد هو التعبير القرآني الذي يعدّ الانحراف عن التوحيد والاتجاه نحو الشرك ذنباً لا يغفر: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً) النساء/48.
وقال تعالى: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) الزمر/65.
6- شُعب التوحيد:
إننا نعتقد أن للتوحيد شعباً كثيرة، من أهمها الأربعة التالية:
أ- توحيد الذات:
بمعنى أن ذاته عز وجل واحدة لا نظير لها ولا مثيل ولا شبيه.
ب- توحيد الصفات:
بمعنى أن صفات العلم والقدرة والأزلية ونحوها مجموعة في ذاته وعين ذاته الواحدة، وهي ليست كصفات المخلوقات المستقلة عن بعضها، والمنفصلة عن ذواتهم؛ وبطبيعة الحال فإن عينية ذاته تعالى مع صفاته تتطلب نوعاً من الدقة الفكرية.
ج- توحيد الأفعال:
بمعنى أن أي فعل وحركة وأثر في عالم الوجود ناجم عن إرادة الله ومشيئته: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) الزمر/62. و (له مقاليد السماوات والأرض) الشورى/12.
نعم؛ فلا مؤثر في الوجود إلا الله، ولكن هذا لا يعني أننا مجبرون على أفعالنا التي نقوم بها، بل إننا أحرار في الإرادة واتخاذ الموقف: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا) الإنسان/30.
(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) النجم/39
تبين الآيتان الكريمتان بوضوح أن الإنسان حر في إرادته، ولكن الله تبارك وتعالى هو الذي أعطى هذه الحرية والقدرة على أداء العمل واتخاذ الموقف؛ وعليه فإن أعمالنا تسند إليه دون أن يقلل ذلك من مسئوليتنا إزاء هذه الأعمال.
بلى، فهو أراد لنا أن نؤدي أعمالنا بحرية ليبتلينا ويضعنا على طريق التكامل؛ لأن الإنسان لا يتكامل إلا بحرية الإرادة وسلوك طريق الطاعة بمحض الاختيار؛ ذلك أن العمل القسري الخارج عن حرية الاختيار لا يمكن أن يدل على صلاح المرء أو فساده.
فلو كنا مجبرين على أفعالنا، لانتفى أي معنى ومفهوم لبعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية وفرض التكاليف الدينية، ولفقد الثواب والعقاب الإلهي أي محتوى له؛ وهذا هو ما تعلمناه من مدرسة أهل بيت النبي عليهم السلام: (أنه لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين)[4].
د- توحيد العبادة:
ويعني أن العبادة خاصة لله، وليس هناك من معبود سوى ذاته المقدسة، وتعتبر هذه الشعبة من أهم شعب التوحيد وأكثر ما شغلت اهتمام الأنبياء: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء… وذلك دين القيمة) البينة/5.
وعندما يطوي الإنسان مراحل التكامل الأخلاقي والعرفان يتعمق عنده مفهوم التوحيد، ويصل إلى مستوى لا يفكر فيه إلا بالله ويطلبه أينما حل وارتحل، ولا يشغل نفسه بما سواه: (كلما شغلك عن الله فهو صنمك).
إننا نعتقد أن شعب التوحيد غير محدودة بما ذكرنا، وإنما هناك فروع أخرى منها توحيد الملكية مثلا: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) البقرة/284.
7- معجزات الأنبياء بإذن الله:
إننا نعتقد أن مبدأ التوحيد الأفعالي يؤكد حقيقة مفادها أن المعجزات الصادرة عن الأنبياء والأفعال الخارقة للطبيعة كلها بإذن الله تعالى، كما ورد في القرآن الكريم حول السيد المسيح عليه السلام: (وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني) المائدة/44.
وأيضاً ورد في أحد وزراء سليمان: (وقال الذي عند علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي) المائدة/110.
وعليه فإن إبراء السيد المسيح عليه السلام للأكمه والأبرص وإخراج الموتى بإذن الله تعالى هو عين التوحيد.
8- الملائكة:
إننا نعتقد بوجود الملائكة الذين كلف الله تعالى كلاً منهم بمهمة تخصه، فمنهم من كلف بإبلاغ الوحي للأنبياء كما ذكر في سورة النمل/40. ومنهم من كلف بتسجيل أفعال البشر (البقرة/97). ومنهم من كلف بقبض الأرواح (الانفطار/10). ومنهم من أعطي مهمة إعانة المؤمن المستقيم (الأعراف/37). ومنهم مكلف بإمداد المؤمنين في المعارك (فصلت/30). ومنهم مكلف بمعاقبة العصاة والمتمردين (الأحزاب/9)، وغيرها من التكاليف المهمة في نظام التكوين.
ولا تتنافى هذه المهام التي تؤديها الملائكة مع مبدأ التوحيد الأفعالي والتوحيد الربوبي، بل تؤكده، لأنها جارية بإذن الله وبحوله وقوته.
وهنا يتضح أن مسألة شفاعة الأنبياء عليهم السلام والمعصومين والملائكة هي عين التوحيد؛ لأنها لا تتم إلا بإذنه: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه)[5].
وسنوافيكم بالمزيد من الشرح حول هذه المسألة ومسألة التوسل في بحث النبوة من هذا الكتاب.
9- العبادة لله وحده:
إننا نعتقد أن العبادة لله تعالى وحده (وقد أشرنا إلى ذلك في بحث توحيد العبادة) في الصفحات السابقة، ومن يعبد غيره فهو مشرك، وقد تركزت دعوة كل الأنبياء حول هذا المحور: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، وورد هذا التعبير القرآني في آيات عديدة من الكتاب المجيد على لسان الأنبياء (يونس/3).
وهذا الشعار الإسلامي المهم يتردد على ألسنتنا يومياً عدة مرات في الصلاة، حينما نقول في سورة الحمد: (إياك نعبد وإياك نستعين).
ومن الواضح أن اعتقادنا بشفاعة الأنبياء والملائكة بإذن الله، الأمر الذي ورد في آيات القرآن الكريم، لا يعني العبادة، كما أن التوسل بالأنبياء لا يدخل في عداد العبادة ولا ينافي توحيد الأفعال أو توحيد العبادة؛ لأنه يعني الطلب من المتوسل به أن يسأل الله تبارك وتعالى حلاً لمشكلة المتوسِل، وهذا ما سيأتي شرحه في مبحث النبوة.
10- خفاء كنه ذاته المقدسة:
إننا نعتقد أن حقيقة الذات الإلهية المقدسة خافية على الجميع رغم كثرة آثار وجوده في العالم، ولا يستطيع أحد – أياً كان – أن يفقه كنه ذاته؛ لأن هذه الذات أزلية لا نهاية لها من جميع الوجوه، والإنسان محدود ومتناه لا يمكنه الإحاطة بالله وهو المحيط بكل شيء: (ألا إنه بكل شيء محيط) فصلت/54.
(والله من ورائهم محيط) البروج/20.
وجاء في الحديث النبوي الشريف: (ما عبدناك حق عبادتك وما عرفناك حق معرفتك) البحار 68: 23.
وهنا يجب ألا نقع في خطأ، وهو الكف عن دراسة العلم الإجمالي بالله، والتوقف عن ذكر بعض الألفاظ التي نمر عليها دون أن نتمكن من فهم المقصود منها؛ بحجة أننا محرومون من تحصيل العلم التفصيلي به تعالى، لأن ذلك هو سد لباب معرفة الله، وهو ما لا نعتقد به و لا نرتضيه؛ لأن القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية نزلت لفتح باب معرفة الله. ولتوضيح ذلك يمكننا الاستعانة بأمثلة كثيرة، منها أننا لا نعلم حقيقة الروح، لكننا على معرفة إجمالية بها، نلاحظ آثارها ونعترف بوجودها.
يقول الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام: (كل ما ميز تموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم)[6].
ويبين الإمام علي عليه السلام طريق معرفة الله بتعبير جميل واضح فيقول: (لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته)[7].
11- لا تعطيل ولا تشبيه:
أننا نعتقد أن الوقوع في وادي (التشبيه) هو خطأ وشرك، كما أن تعطيل معرفة الله وصفاته هو خطأ أيضاً؛ بمعنى أننا لا نستطيع القول بأن الطريق إلى معرفة الله مغلق، كما لا يمكن أن نعده تعالى شبيهاً بالمخلوقات، فأحد النهجين إفراط والآخر تفريط، بل الحق هو إمكان معرفته تعالى من طريق آثاره في جميع عوالم الوجود.
النبوة
12- فلسفة بعثة الأنبياء:
إننا نعتقد أن الله تبارك وتعالى بعث الأنبياء والرسل لهداية الإنسان وإيصاله إلى الكمال المطلوب والسعادة الخالدة؛ ذلك أن الهدف من خلق الإنسان ما كان ليتحقق لو لم يبعث الله رسله فلو لا ذلك لغرق الإنسان في أوحال الضلال: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً) النساء/165.
إننا نعتقد أن خمسة فقط من بين الرسل المبعوثين هم (أولوا العزم) أي أصحاب شريعة جديدة وكتاب سماوي جديد، أولهم نوح عليه السلام والبقية كما في هذه الآية هم: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك، ومن نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ابن مريم، وأخذنا منهم ميثاقاً غليظا) الأحزاب/7.
(فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) الأحزاب/7.
إننا نعتقد أن محمداً صلى الله عليه وآله هو خاتم الأنبياء وآخر الرسل، وشريعته موجهة لجميع الناس وباقية ما بقي العالم، بمعنى أن المعارف والأحكام والتعاليم الإسلامية من الشمولية بحيث تلبي كل حاجات الإنسان المعنوية والمادية مدى الدهر، وكل دعوة جديدة للنبوة والرسالة هي دعوة باطلة مرفوضة: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما) الأحقاف/35.
13- التعايش بين اتباع الأديان الإلهية:
أننا نعتقد أن الدين الإسلامي هو الدين الرسمي الإلهي الوحيد في هذا الزمن، ونعتقد في الوقت ذاته بوجوب التعايش السلمي مع أتباع الأديان السماوية الأخرى، سواء عاشوا في البلاد الإسلامية أو خارجها، إلا من رفع لواء محاربة الإسلام والمسلمين: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) الأحزاب/40.
إننا نعتقد أنه يمكن تبيين حقيقة الإسلام وتعاليمه للجميع من خلال البحث المنطقي والنقاش الموضوعي، ونعتقد بأن قابلية الاستقطاب والجذب في الإسلام من القوة بحيث يمكن لفت الأنظار نحوه وكسب الناس إليه إذا جرى توضيحه بشكل صحيح، لا سيما في عالم اليوم حيث يكثر الإقبال عليه لوعي رسالته.
ولهذا فإننا نعتقد بأن الإسلام يجب ألا يفرض على الآخرين قسراً: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) الممتحنة/8.
إننا نعتقد أن التزام المسلمين بتعاليم الدين هو أسلوب آخر لتعريف الإسلام، كما قال الإمام الصادق عليه السلام: (كونوا دعاةً لنا بغير ألسنتكم)، ولا ضرورة للإجبار والقسر والإكراه.
14- عصمة الأنبياء:
إننا نعتقد أن جميع الأنبياء معصومون على مدى أعمارهم (قبل النبوة وبعدها)، ومصونون من الخطأ، والاشتباه، والذنب، وذلك بالتأييد الإلهي؛ لأن النبي إذا ارتكب الخطأ أو الذنب سلبت منه الثقة اللازمة لمنصب النبوة، وعندئذ لا يمكن للناس أن يثقوا بوساطته بينهم وبين الله، ولكي يعدوه أسوة لهم وإماماً في كل أعمالهم وسلوكهم.
ولهذا فإننا نعتقد أن ما يبدو من ظواهر بعض الآيات القرآنية من أن بعض الأنبياء ارتكبوا المعاصي، هو من قبيل ترك الأولى (بمعنى اختيار العمل الأقل صلاحاً من بين عملين صالحين، في حين كان من الأولى اختيار الأصلح)، أو بتعبير آخر هو من قبيل: (حسنات الأبرار سيئات المقربين)[8] – لأنه ينتظر من كل شخص أن يقوم بالعمل الذي يناسب مقامه.
15- الأنبياء عباد الله:
إننا نعتقد أن أعظم فخر للأنبياء والرسل هو كونهم عباداً مطيعين لله، ولهذا فإننا نكرر في صلواتنا اليومية شهادة أن محمداً صلى الله عليه وآله عبد الله ورسوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).
إننا نعتقد أن أحداً من الأنبياء لم يدع الألوهية، ولم يدعُ الناس إلى عبادته: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله) آل عمران/79.
والسيد المسيح عليه السلام أيضاً لم يدع الناس إلى عبادته، وكان يعتبر نفسه عبداً لله ورسولا: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون) النساء/172.
أما مسألة التثليث في الدين المسيحي (الاعتقاد بالآلهة الثلاث)، فلم يكن له وجود في القرن الميلادي الأول كما تشهد على ذلك التواريخ المسيحية المعاصرة، وإنما ظهرت هذه الفكرة فيما بعد.
16- المعجزات وعلم الغيب:
لا تمنع كون الأنبياء عباداً لله أن يطلعوا على غيب الماضي والحاضر والمستقبل بإذن الله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول) الجن/26-27.
وإننا نعلم أن من معجزات السيد المسيح عليه السلام أن كان ينبئ الناس ببعض الأمور الخفية: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) آل عمران/49.
كما كان رسول الله محمد صلى الله عليه وآله يكشف عن الكثير من الأخبار الغيبية بالوحي الإلهي: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك) يوسف/102.
وعليه، ليس ثمة مانع يمنع الأنبياء من الإخبار بالغيب عن طريق الوحي وبإذن الله؛ أما نفي بعض الآيات القرآنية الغيب عن رسول الله من قبيل الآية: (ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك) الأنعام/50، فالمراد بذلك العلم الذاتي الاستقلالي وليس العلم المكتسب من الوحي الإلهي، لأن الآيات القرآنية تفسر بعضها بعضاً.
إننا نعتقد أن المعاجز التي تصدر عن الأنبياء كلها كانت بإذن الله تعالى، والاعتقاد بهذا المر ليس شركاً ولا يتناقض مع مقام العبودية لدى الأنبياء، فالسيد المسيح عليه السلام كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله: (وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله) آل عمران/49.
17- مقام شفاعة الأنبياء:
إننا نعتقد أن للأنبياء ولا سيما للنبي محمد صلى الله عليه وآله مقام الشفاعة؛ إذ يشفعون لبعض المذنبين عند الله بإذنه: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) يونس/3.
(من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) البقرة/255.
وإذا نفت بعض الآيات القرآنية الشفاعة مطلقاً كقوله تعالى: (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) النساء/64، فهي الشفاعة الاستقلالية بغير إذن الله تعالى، أو شفاعة من ليس بمستوى الشفاعة؛ لأن الآيات القرآنية – كما أسلفنا – يفسر بعضها بعضاً.
إننا نعتقد أن مسألة الشفاعة وسيلة مهمة لتربية الأفراد، وإعادة العاصين إلى الطريق القويم، والتشجيع على التقوى وإحياء الأمل في القلوب؛ لأن الشفاعة لا تكون عملية فوضوية، وإنما تشمل من يستحقها، بمعنى أن معاصيه قد لا تبلغ الحد الذي تنقطع فيه العلاقة نهائياً بين العاصي والشفيع؛ وعليه فالشفاعة تعتبر تحذير للمذنبين من أن يهدموا كافة الجسور من خلفهم، فلا يتركوا طريقاً للعودة، ولكي لا يفقدوا صلاحية الشفاعة حينئذ تماماً.
18- التوسل:
إننا نعتقد أن مسألة (التوسل) هي كقضية (الشفاعة) تتيح لأصحاب المشاكل المادية والمعنوية التوسل إلى أولياء الله ليسألوا الله حل مشكلاتهم بإذنه تعالى، إي إنهم يتجهون إلى الله تبارك وتعالى جاعلين أولياءه وسيلة إليه تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما) يوسف/97-98.
ونقرأ في قصة يوسف عليه السلام أن اخوته توسلوا إلى أبيهم (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) يوسف/97، فما كان من أبيهم الشيخ الكبير يعقوب النبي عليه السلام إلا أن وافق على هذا الطلب وقال: (سوف استغفر لكم ربي) يوسف/98، وهذا دليل على أن التوسل كان سائداً في الأمم السالفة.
ولكن يجب عدم تجاوز الحد المنطقي والاستغراق في هذه العقيدة، وإضفاء الاستقلالية على أولياء الله في التأثير وتصور إمكانية الاستغناء عن الله وإرادته ومشيئته وإذنه، فذلك يؤدي إلى الشرك والكفر.
كما أن التوسل يجب أن لا يتخذ شكل العبادة للأولياء؛ لأن ذلك من الكفر والشرك أيضاً، لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً دون إذن الله: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله).
ويلاحظ بين طوائف من عوام جميع الفرق الإسلامية حالة الإفراط والتفريط في مسألة التوسل، الأمر الذي يتطلب إرشادهم وهدايتهم من قبل علمائهم ومفكريهم.
19- أصول دعوة الأنبياء واحدة:
إننا نعتقد أن جميع الأنبياء الربانيين كانوا يتطلعون إلى هدف واحد هو سعادة الإنسانية عن طريق الإيمان بالله ويوم القيامة والتعليم والتربية الدينية الصحيحة، وتعزيز الأسس الأخلاقية في المجتمعات البشرية؛ ولهذا فإننا نحترم جميع الأنبياء، وهو ما ربانا القرآن الكريم عليه: (لا نفرق بين أحد من رسله) البقرة/285.
وقد تكاملت الرسالات السماوية تدريجياً وتعمقت التعاليم الربانية بمضي الزمان واستعداد النوع البشري لتلقي هذه التعاليم، حتى جاء دور أكمل الرسالات الإلهية وآخرها ألا وهو الدين الإسلامي: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) المائدة/3.
20- إخبار الأنبياء السالفين:
إننا نعتقد أن كثيراً من الأنبياء السالفين أنبئوا بظهور الأنبياء الذين جاءوا من بعدهم، وقد أخبر موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام بمجيء نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم وبشروا به، حيث تتضمن بعض كتبهم ذلك حتى يومنا هذا: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل… أولئك هم المفلحون) الأعراف/157.
ولهذا ينقل لنا التاريخ أن مجموعات من اليهود كانت تتردد على المدينة قبل ظهور الدين الإسلامي انتظاراً له؛ لأن كتبهم كانت تتحدث عن انبعاث دين جديد من هذه الأرض المقدسة، وقد آمن بعضهم بالفعل بعد الإعلان عن الدين في حين عارض آخرون ممن تعرضت مصالحهم للخطر.
21- الأنبياء وإصلاح شئون الحياة:
إننا نعتقد أن الرسالات السماوية التي أنزلت على الأنبياء، ولا سيما الدين الإسلامي، لم تأت لإصلاح الحياة الفردية فحسب، ولم تتخصص في القضايا المعنوية والأخلاقية فقط، وإنما تهدف إصلاح جميع الشئون الاجتماعية؛ وقد تعلم الناس كثيراً من العلوم المطلوبة في الحياة اليومية من الأنبياء، الأمر الذي أشار إليه القرآن الكريم في بعض آياته.
ونعتقد أيضاً أن من أهم أهداف الأنبياء إقامة العدالة الاجتماعية في المجتمع البشري: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد/25.
22- رفض العنصرية:
إننا نعتقد أن الأنبياء، ولا سيما خاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كانوا يرفضون كل أنواع التمييز العنصري والقومي، وإنما ينظرون إلى جميع الأمم والأقوام واللغات والأجناس نظرة واحدة؛ ويخاطب القرآن الكريم كل صنوف البشر بالقول: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات/13.
وروي في الحديث المعروف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله في منى في موسم الحج والناس ملتفون حوله: (يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد. ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: ليبلغ الشاهد الغائب)[9].
23- الإسلام والفطرة الإنسانية:
إننا نعتقد أن بذور الإيمان بالله والتوحيد وتعاليم الأنبياء وجدت بشكل فطري في أعماق جميع بني البشر، سقاها الأنبياء بمياه الوحي الإلهي، وأبعدوا عنها أشواك الشرك والانحراف: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم/30.
ولهذا وجد الدين مع الإنسان على مدى التاريخ، أما الفكر اللاديني فكان استثناء – حسب ما يعتقد المؤرخون – ولوحظ أيضاً أن الشعوب التي تعرضت لضغوط إعلامية شديدة لفصمها عن دينها، سرعان ما عادت إليه مع حصولها على الحرية، وهنا لا يمكن أن ننكر أثر الاعتقاد بالخرافات على تدني المستوى الثقافي لدى بعض الأقوام، وكان الأنبياء عليهم السلام يؤدون دوراً مهماً في طرد هذه الخرافات عن الرسالات السماوية والفطرة الإنسانية.
القرآن والكتب السماوية
24-فلسفة نزول الكتب السماوية:
إننا نعتقد أن الله عز وجل أنزل كتباً سماوية عديدة لهداية الجنس البشري، ومنها صحف إبراهيم ونوح والتوراة والإنجيل، والقرآن المجيد وهو الأشمل من غيره؛ ولو لم تنزل هذه الكتب لأخطأ الإنسان في مساره نحو معرفة الله وعبادته، ولابتعد عن أصول التقوى والأخلاق والتربية والقوانين الاجتماعية التي يحتاجها.
وقد نزلت هذه الكتب السماوية على القلوب رحمة، وانبتت في الإنسان بذور التقوى والأخلاق ومعرفة الله والعلم والحكمة: (آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله)المائدة/15-16.
لكن مما يؤسف له أنه جرى تحريف للكثير من الكتب السماوية بأيدي بعض الجهلة والمغرضين، وأُدخلت فيها أفكار سقيمة، إلا أن القرآن المجيد لم تمتد له يد التحريف لأسباب سنأتي إلى ذكرها، وبقي كالشمس الساطعة يضيء القلوب في كل الأزمنة: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين*يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام)الإسراء/88.
25-القرآن أكبر معجزة للنبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم):
إننا نعتقد أن القرآن هو أهم معاجز النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ليس من ناحية فصاحته وبلاغته وجمال بيانه وكمال معانيه فحسب، وإنما لانطوائه على معاجز أخرى في مختلف إبعاده ورد شرحها في كتب العقائد والكلام.
ولهذا فإننا نعتقد أنه لا يمكن لأحد أن يأتي بمثله أو بسورة من مثله، وقد تحدى القرآن في مواضع عديدة من كان ينظر إليه بشك وتردد، دون أن يستطيع أحد أن يواجه هذه التحدي: (قُل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان لبعضٍ ظهيراً)البقرة/23.
(وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) البقرة/23.
(وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين) البقرة/23.
ونعتقد أن القرآن لا يبلى بمضي الزمان، بل يتجلى إعجازه وتتضح عظمته أكثر فأكثر.
فقد ورد في حديث الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولناس دون ناس؛ فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة).
26- عدم تحريف القرآن:
إننا نعتقد أن القرآن الذي يتداوله المسلمون حالياً هو نفسه الذي نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، دون أن يضاف عليه أو يحذف منه شيء.
فمنذ الأيام الأولى لنزول الوحي كان كتّابه يدونونه، حين كان المسلمون مكلفين بتلاوة الآيات النازلة آناء الليل وأطراف النهار، وفي صلواتهم الخمس، ولهذا حفظها عن ظهر القلب عدد كبير من المسلمين؛ وقد حظي حفاظ القرآن وقراؤه بمكانة خاصة في المجتمعات الإسلامية؛ وهذه الأمور وغيرها أدت إلى صيانة القرآن من التحريف والتغيير، بالإضافة إلى أن الله سبحانه وتعالى ضمن حفظ القرآن إلى الأبد فلا يمكن أن تمسه يد التحريف والتغيير مطلقاً: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)الحجر/9.
وأجمع الباحثون وكبار علماء الإسلام من الشيعة والسنة على أن القرآن لم يتعرض للتحريف، ولم يقل بالتحريف إلا القلة من الفريقين بسبب اعتقادهم ببعض الروايات التي اعتبرها علماؤهم إما ((موضوعة))، رافضين هذا الرأي بصورة قاطعة، أو أنها تقصد التحريف المعنوي، أي التفسير الخاطئ لآيات القرآن، أو اعتبروا حصول خلط لدى القائلين بالتحريف بين التفسير والنص القرآني، فتدبر.
إن أصحاب القصور الفكري الذين ينسبون الاعتقاد بتحريف القرآن إلى جماعة من الشيعة أو غير الشيعة، وهو ما عارضه بصراحة كبار علماء الشيعة والسنة، يوجهون – من دون إلتفات – ضربة للقرآن الكريم، ويضعون علامة استفهام أمام صحة هذا الكتاب السماوي العظيم، ويقدمون خدمة كبيرة للأعداء والمتربصين بهذا الدين.
إن مطالعة المسار التاريخي لجمع القرآن منذ عصر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والاهتمام الشديد الذي يوليه المسلمون لكتابة القرآن وحفظه وتلاوته، ووجود كتاب الوحي منذ الأيام الأولى لنزوله، تكشف عن حقيقة مفادها أن يد التحريف لم تستطع أن تمتد إلى القرآن أبداً.
كما أن لا يوجد أي قرآن آخر عند الشيعة غير هذا المتداول بين أيدي المسلمين، وليس من الصعوبة بمكان تقصي هذا الأمر والتحقق فيه؛ لن القرآن يملأ بيوتنا ومساجدنا ومكتباتنا، بل تحفظ متاحفنا الكثير من النسخ القرآنية المخطوطة منذ قرون، وهذا النسخ كلها متشابهة لا تجد فيها اختلافاً أبداً، وإذا كانت مهمة التحقيق هذه عسيرة في العهود الماضية، فهي سهلة يسيرة في عصرنا هذا، ويمكن لمن يتابع ويحقق في هذا الأمر أن يصل إلى الحقيقة ويكتشف كذب تلك المفتريات: (فبشر عبادِ*الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)الزمر/17-18.
وتدرس اليوم العلوم القرآنية بشكل واسع في الحوزات العلمية للمسلمين الشيعة في النجف الأشرف، وقم المقدسة، وغيرهما، وتتضمن الدراسة في مباحثها المهمة بحث عدم تحريف القرآن[10]
27-القرآن وحاجات الإنسان المادية والمعنوية:
إننا نعتقد أن القرآن المجيد بين أسس كل حاجة بشرية تؤمن له حياته المعنوية والمادية، إذ وضع الضوابط العامة والقواعد الكلية للمسائل السياسية وإدارة الدولة وعلاقات المجتمعات ببعضها، وأصول التعايش والحرب والسلم والشؤون القضائية والاقتصادية وغير ذلك. حيث إن تطبيقها عملياً يملأ الحياة الإنسانية بالسعادة: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)النحل/89.
ولهذا فإننا نعتقد أن الإسلام لا ينفصل عن الحكم والسياسة أبدا، ويدعو المسلمين إلى الإمساك بزمام أمورهم بأنفسهم لإحياء القيم الإسلامية السامية، وإقامة مجتمع إسلامي يسير نحو تحقيق العدالة والقسط، وتطبيقها بحق العدو والصديق: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)النساء/135.
(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو لأقرب للتقوى)المائدة/8.
28-التلاوة والتدبر والعمل:
إننا نعتقد أن تلاوة القرآن هي من أفضل العبادات ولا ترقى إليها بقية العبادات، لأن هذه التلاوة التي تساعد على التدبر القرآني والتفكر هي مصدر كل عمل صالح.
قال تعالى مخاطباً نبيه محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم): (قم الليل إلا قليلاً*نصفه أو انقص منه قليلاً*أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً)المزمل/2-4.
ويخاطب تعالى الأمة الإسلامية جمعاء بقوله عز من قال: (فاقرؤا ما تيسر من القرآن) المزمل/20.
ولكن-كما ذكرنا-ينبغي أن تكون التلاوة وسيلة للتفكر والتدبر في المعنى المحتوى، وهذا التدبر يجب أن يصبح مقدمة للعمل بالقرآن: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها) محمد/24.
(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) القمر/17.
(وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه) الأنعام/155.
وعليه فإن من يقتصر على التلاوة والحفظ دون التدبر والعمل فقد خسر خسراناً عظيماً؛ لأنه عمل بأحد الأركان وفرط بالركنين الأهم.
29-بحوث وتقويم:
إننا نعتقد أن ثمة أيادي تحاول صرف المسلمين عن التدبر في آيات القرآن والعمل بها، ففي العصرين الأموي والعباسي جعلت تلك الأيادي الناس تخوض في نقاشات حول قدم القرآن وحدوثه[11]، فانقسم الناس إلى طائفتين كل تؤيد إحدى المقولتين، وسفكت من جراء ذلك دماء كثيرة؛ في حين أن مثل هذا البحث لا ينطلق من مفهوم صحيح يستحق مثل هذا الصراع، فإذا كان المراد بكلام الله حروفه وورقه فهو حادث، وإن كان المقصود علم الله تعالى فهو قديم وأزلي كذاته؛ غير أن الحكام الجائرين والخلفاء الظالمين شغلوا المسلمين سنوات طويلة بهذه المسألة، واليوم أيضاً توجد هناك أيادٍ تحاول بشتى السبل صرف المسلمين عن التدبر بآيات القرآن والعمل به.
30- ضوابط تفسير القرآن:
إننا نعتقد أنه يجب حمل ألفاظ القرآن على نفس مفاهيمها العرفية واللغوية، إلا أن توجد قرينة عقلية أو نقلية في باطن الآيات أو ظاهرها تدل على معان أخرى، (ولكن يجب تجنب الاعتماد على القرائن المشكوكة وعدم تفسير آيات القرآن بالحدس والتخمين).
على سبيل المثال: إننا على يقين من أن المراد بالعمى في الآية: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى)الإسراء/72، ليس العمى الظاهري الذي يدل عليه معناه اللغوي، إذ يوجد الكثير من الصالحين مكفوفي البصر، وإنما المقصود هو العمى القلبي والباطني؛ فالقرنية العقلية هنا هي التي دفعتنا إلى مثل هذا التفسير.
كما يصف القرآن بعض أعداء الإسلام بالصم والبكم والعمى: (صم بكم عمي فهم لا يعقلون)البقرة/171، ومن الواضح أن هذه الصفات التي أطلقها القرآن على تلك الفئة هي صفات باطنية (وهذا التفسير يعتمد على القرائن المتوفرة).
وحينما يقول تعالى: (بل يداه مبسوطتان)المائدة/64، أو يقول: (واصنع الفلك بأعيننا)هود/37، فلا يُفهم من ذلك أن لله سبحانه أعضاء جسمية من قبيل اليد والعين؛ لأن أي جسم مكون من أجزاء ويحتاج إلى الزمان والمكان والاتجاه فهو فان، والله تبارك وتعالى أعظم من أن يتصف بهذه الصفات، وإنما المراد من ((يداه)) قدرته الكاملة التي يخضع لها كل العالم، والمقصود من ((الأعين)) علمه بكل شيء.
ولهذا فإننا لا نوافق أي جمود على التعابير السالفة –سواء المتعلقة بصفات الله أو غيرها – وتجاهل للقرائن العقلية والنقلية، ذلك أن الاعتماد على القرائن هو أسلوب متبع لدى جميع العقلاء، ومن ثم فإن القرآن اعتمد هذا الأسلوب أيضاً: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)[12]، غير أن هذه القرائن يجب أن تكون واضحة قطعية كما قلنا.
31-أخطاء التفسير بالرأي:
إننا نعتقد أن التفسير بالرأي يُعد أحد أخطر الأمور التي تتعلق بالقرآن المجيد؛ إذ اعتبرته الأحاديث من الكبائر، ويبعد صاحبه عن الله تعالى، فقد جاء في الحديث أن الله قال: ((ما آمن بي من فسر برأيه كلامي))[13]. وهذا واضح لأن المؤمن الحق لا يفسر كلام الله حسب ما يشتهي ويهوى.
وورد الحديث الشريف التالي عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الكثير من المصادر المعروفة ومنها الترمذي والنسائي وأبي داود: ((من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار))[14].
والمراد من القول بالرأي تفسير القرآن حسب الرغبات الشخصية أو الطائفية دون أن تحصل لدى المفسر أية قرينة أو شاهد؛ وهذا الشخص في الحقيقة لا يتبع القرآن، وإنما يريد أن يتبعه القرآن، وما كان ليفعل ذلك لو احتوى قلبه على إيمان كامل بالقرآن.
ولا شك في أن القرآن المجيد سيفقد قيمته تماماً لو فتح باب التفسير بالرأي؛ لأن كل شخص سيفسر حسب هواه ويطبق القرآن على أية عقيدة باطلة.
وعليه فإن التفسير بالرأي يعني تفسير القرآن خلافاً لموازين علم اللغة والأدب العربيين وفهم أهل اللغة، وتطبيقه على التصورات الباطلة الأهواء الشخصية أو الطائفية؛ الأمر الذي يؤدي إلى التحريف المعنوي للقرآن.
وللتفسير بالرأي أشكال عديدة ومتنوعة، منها التعامل الانتقائي مع الآيات القرآنية، بمعنى أن ينتقي المفسر في بحوث الشفاعة مثلاً أو التوحيد أو الإمامة أو غيرها الآيات التي لا تتعارض مع رأيه ويترك التي لا تنسجم مع أفكاره والتي يمكن أن تفسر الآيات الأخرى.
وبخلاصة: أن الجمود على ألفاظ القرآن المجيد وعدم الاهتمام بالقرائن العقلية والنقلية المعتبرة هو نوع من الانحراف، كما أن التفسير بالرأي هو نوع آخر من الانحراف، وكلاهما يؤديان إلى الابتعاد عن التعاليم القرآنية السامية وقيم هذا الكتاب السماوي، فتدبر.
32-السنة المستلهمة من كتاب الله:
إننا نعتقد أنه لا يمكن لأحد أن يقول: كفانا كتاب الله، ويتجاهل الأحاديث والسنة النبوية التي تفسر حقائق القرآن وتبين الناسخ والمنسوخ والخاص والعام وتوضح أصول الدين وفروعها؛ لأن الآيات القرآنية نفسها اعتبرت سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته حجة على المسلمين، وجعلتها من المصادر الأساسية في فهم الدين واستنباط الأحكام: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)الحشر/7.
(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا) الأحزاب/36.
فمن لا يبالي بالسنة النبوية إنما هو مُعرض عن القرآن؛ ومن الطبيعي أن تؤخذ السنة من الطرق المعتبرة، ولا يمكن الاعتماد على أي قول ينسب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
يقول الإمام علي (عليه السلام) في إحدى خطبه: ((ولقد كذب على رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- حتى قام خطيباً فقال: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))[15].
وورد قريب من هذا المعنى في صحيح البخاري[16].
33-سنة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هي واجبة الطاعة كتلك الواردة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ لأنه:
أولاً: صرح بهذا المعنى الحديث المتواتر المعروف الذي نقلته معظم كتب الحديث المشهورة لدى السنة والشيعة، فقد جاء في صحيح الترمذي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ((يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما أن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي))[17].
ثانياً: نقل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كل أحاديثهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصرحوا بأن كل ما ينطقون به وصلهم عن آبائهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
أجل، فلقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على علم بمستقبل أمته والمشكلات التي تعترض سبيلها، ولذلك وضح أمامهم الطريق لحل هذه المشاكل بعده وجعله يكمن في إتباع القرآن وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فهل يمكن تجاهل مثل هذا الحديث المعتبر المهم بكل بساطة والمرور عليه مرور الكرام ؟.
إننا نعتقد أن هذه المسألة لو حظيت باهتمام أكبر لما واجه المسلمون بعض المشاكل التي يعانون منها حالياً في قضايا العقائد والتفسير والفقه.
القيامة والحياة بعد الموت
34-لا مفهوم للحياة دون المعاد:
إننا نعتقد أن البشرية تبعث بعد الموت مرة واحدة للحساب، ليلقى كل إنسان جزاء عمله، فمن عمل صالحا فالجنة مثواه ومن عمل سوءاً فالنار مسكنه: (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه)النساء/87.
(فأما من طغى*وآثر الحياة الدنيا*فأن الجحيم هي المأوى*وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى*فإن الجنة هي المأوى)النازعات/37-41.
إننا نعتقد أن هذه الدنيا هي جسر، وعلى الإنسان أن يجتازه ليصل إلى مقره الأبدي، أو بتعبير آخر هي مدرسة لنا أو مزرعة للعالم الآخر.
يقول الإمام علي (عليه السلام) عن دار الدنيا: ((أن الدنيا دار صدق لمن صدقها... ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها؛ مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله))[18].
35-دلائل المعاد واضحة:
إننا نعتقد أن دلائل المعاد في غاية الوضوح، ذلك أنه:
أولاً: لا يمكن أن تكون الحياة الدنيا هدفاً نهائياً لخلق الإنسان، ليحل فيها أياما عديدة مليئة بالمشاكل ثم يرحل عنها وينتهي كل شيء: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون)المؤمنون/115.
ففي هذه الآية إشارة إلى أن الحياة الدنيا ستصبح عبثاً دون المعاد.
ثانياً: يتطلب العدل الإلهي فصل الصالحين عن الطالحين لينال كلٌ جزاءه الذي يستحقه: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم، ساء ما يحكمون)الجاثية/21.
ثالثاً: تستوجب الرحمة الإلهية الواسعة ألا ينقطع الفيض الرباني والنعمة بعد موت الإنسان، ويستمر التكامل البشري لدى من يستحقه: (كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه)الأنعام/12.
والقرآن الكريم يخاطب من يشك في المعاد: (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد)ق/15.
(وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم*قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم)يس/78-79.
أضف إلى ذلك أن خلق الإنسان ليس بالأمر الصعب بالقياس إلى خلق السماوات والأرض، فالقادر على إيجاد هذا العالم الواسع بما يحتويه من عجائب وغرائب قادر على أن يحيي الموتى: (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يَعيَ بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى أنه على كل شيء قدير)الأحقاف/33.
36-المعاد الجسماني:
إننا نعتقد أن الجسم والروح معاً سيبعثان في الآخرة ليستأنفا حياة جديدة؛ لأن العمل الدنيوي تم من خلال الجسم والروح، ولا بد أن يكافأ، أو يعاقب كلاهما أيضاً.
إن معظم الآيات القرآنية التي تتحدث عن المعاد تتطرق إلى المعاد الجسماني، حيث رد القرآن على استغراب المعارضين الذين يتساءلون عن كيفية عودة هذه العظام النخرة إلى الحياة، وقال: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) يس/79.
(أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوي بنانه) القيامة/3و4.
هذه الآيات وأمثالها تدل دلالة صريحة على المعاد الجسماني، كما أن الآيات التي تتحدث عن البعث من القبور تكشف بوضوح عن المعاد الجسماني[19].
وتشرح أغلب الآيات الخاصة بالمعاد في القرآن المجيد المعاد الروحاني والجسماني.
37- عالم ما بعد الموت:
إننا نعتقد أن خفايا عالم ما بعد الموت والقيامة والجنة والنار هي أكثر بكثير مما نتصوره في عالمنا المحدود هذا، وما نعلمه عن ذلك العالم: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) السجدة/17.
وجاء في الحديث النبوي: (إن الله يقول: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)[20].
إننا في هذه الدنيا أشبه ما نكون بالجنين في رحم أمه الذي لا يدرك حقيقة الشمس والقمر والهواء والزهور وهدير البحر، حتى وإن كان له عقل وذكاء؛ فهذا العالم بالنسبة لعالم القيامة هو كعالم الجنين بالنسبة لعالم الدنيا.
38- المعاد والأعمال:
إننا نعتقد أن صحائفنا التي تكشف عن أعمالنا ستلقى إلينا يوم القيامة، فيؤتى الصالح كتابه بيمينه، والطالح بيساره، فيفرح يومئذ الصالحون ويأسى المذنبون العاصون: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه * إنني ظننت أني ملاقٍ حسابيه * فهو في عيشة راضية * وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه) الحاقة/19-25.
ولكن ليس من الواضح لنا كيف تكتب هذه الصحائف التي ليس بوسع أحد إنكارها، ولا نعلم شكلها أو صورتها، وقد أشرنا آنفاً إلى أن المعاد ينطوي على خصائص لا يستطيع الناس في الدنيا فهمها وإدراكها، غير أن مما لا يمكن إنكاره وجود المعاد.
39- الشهود في القيامة:
إننا نعتقد أن الله عز وجل يشهد على جميع أعمالنا، كما أن هناك شهوداً آخرين هم أيدينا وأرجلنا وجلودنا والأرض التي كنا نسكن فوقها وغير ذلك: (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) يس/65.
(وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا، قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) فصلت/21.
(يومئذ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها) الزلزلة/4 و5.
40- الصراط وميزان الأعمال:
إننا نعتقد بوجود الصراط والميزان يوم القيامة، والصراط هو الجسر الذي ينصب على جهنم ليعبر عليه جميع أبناء البشر. أجل، فطريق الجنة يمر عبر جهنم: (وأن منكم إلا واردها كان ذلك على ربك حتماً مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) مريم/71 و72.
والعبور من هذا الممر الخطير له علاقة بعمل الإنسان نفسه، فقد جاء في الحديث: (منهم من يمر مثل البراق، ومنهم من يمر مثل عدو الفرس، ومنهم من يمر حبواً، ومنهم من يمر مشياً، ومنهم من يمر متعلقاً، قد تأخذ النار منه شيئاً)[21].
أما الميزان فهو كما يظهر من اسمه وسيلة لوزن عمل الإنسان؛ ففي يوم القيامة توزن كل أعمالنا لتقيم ونحاسب عليها واحدة فواحدة: (ونضع الموازين بالقسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها، وكفى بنا حاسبين) الأنبياء/47.
(فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية) القارعة/6-9.
أجل، إننا نعتقد بأن نجاة المرء في ذلك العالم رهينة بعمله، وليس أوهامه وآماله هي التي تخلصه من جهنم، ولا فائدة ترتجى من كل الطرق دون طريق التقوى والورع: (كل نفس بما كسبت رهينة) المدثر/38.
ما ذكرناه كان شرحاً مختصراً عن الصراط والميزان، وأما التفاصيل فهي مجهولة عنا، وقد خفيت علينا؛ لأن الآخرة عالم أوسع بكثير من هذا العالم الدنيوي، ومن المشكل أو المستحيل إدراك جميع المفاهيم التي يتضمنها ذلك العالم.
41- الشفاعة في القيامة:
إننا نعتقد أن الأنبياء والأئمة المعصومين وأولياء الله يشفعون بإذن الله لبعض المذنبين ليشملهم العفو الإلهي، وهذا الإذن يخصص فقط لمن لم يقطع أواصر علاقته بالله وأوليائه؛ وعليه فإن الشفاعة ليست مطلقة وإنما هي مقيدة بشروط ترتبط نوعاً ما بأعمالنا ونياتنا: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) الأنبياء/28.
والشفاعة – كما أشرنا سابقاً – أسلوب تربوي، ووسيلة لمنع الإنسان من الاستغراق في ذنوبه وقطع جميع أواصره وجسوره مع أولياء الله، ولحثه على ترك المعاصي والعودة إلى الله.
ولا شك في أن مقام (الشفاعة العظمى) هو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويأتي بعده سائر الأنبياء والأئمة المعصومون، وحتى العلماء والشهداء والمؤمنون، بل حتى القرآن والعمل الصالح يشفعان لبعض المذنبين.
وورد عن الإمام الصادق عليه السلام: (ما من أحد من الأولين والآخرين إلا وهو يحتاج إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة)[22].
وجاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الشفعاء خمسة: القرآن والرحم والأمانة ونبيكم وأهل بيت نبيكم)[23].
وفي حدث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: (إذا كان يوم القيامة بعث الله العالم والعابد، فإذا وقفا بين يدي الله عز وجل قيل للعابد انطلق إلى الجنة، وقيل للعالم قف تشفع للناس بحسن تأديبك لهم)[24].
وفي هذا الحديث أيضاً إشارة لطيفة إلى فلسفة الشفاعة.
42- عالم البرزخ:
إننا نعتقد بوجود عالم ثالث بين الدنيا والآخرة يسمى (البرزخ) تذهب إليه روح الإنسان بعد الموت حتى حلول يوم القيامة: (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) المؤمنون/ 100.
ولا معلومات كثيرة لدينا عن هذا العالم، سوى أن أرواح الصالحين تستقر في درجاته العليا، وتتنعم بنعم كثيرة: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) آل عمران/ 169.
وأن أرواح الظالمين والطواغيت وأنصارهم معذبة كما قال تعالى في حق فرعون وآل فرعون: (النار يعرضون عليها غدواً وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) المؤمنون/46.
وهناك طائفة ثالثة بين هذه وتلك، لا يشملها أي من الجزأين، يبدو أنها تدخل في حالة شبيهة بالسبات في عالم البرزخ حتى تبعث يوم القيامة: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة… وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) الروم/55 و 56.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران)[25].
43- الجزاء المعنوي والمادي:
إننا نعتقد أن الجزاء يوم القيامة ينطوي على بعدين مادي ومعنوي، لأن المعاد أيضاً مادي ومعنوي.
وما جاء في القرآن المجيد والأحاديث الشريفة عن الجنان: (جنات تجري من تحتها الأنهار) التوبة/89، ودوام الأكل والظل: (أكلها دائم وظلها) الرعد/35، (والأزواج المطهرة) آل عمران/15. وأمثال ذلك من النعيم، وسعير النار في جهنم وعذابها الأليم؛ يقصد منه البعد المادي للجزاء في يوم القيامة.
إلا أن الأهم من ذلك هو الجزاء المعنوي الذي يتجسد في أنواء المعرفة الإلهية والقرب الروحي من الخالق وتجليات جماله وجلاله تعالى، حيث يهب الله المؤمنين لذة ما بعدها لذة مما لا يمكن وصفه بلسان أو بيان.
وقد ذكرت بعض الآيات القرآنية بعد بيان عدد من النعم المادية للجنان عبارة: (ورضوان من الله اكبر) ثم تلتها جملة: (ذلك هو الفوز العظيم)التوبة/72. أجل، فليس هناك أعظم من لذة أن يدرك المرء أن معبوده قد رضي عنه.
ففي حديث للإمام علي بن الحسين عليه السلام قال: (يقول الله تبارك وتعالى: رضاي عنكم ومحبتي لكم خير وأعظم مما انتم فيه…)[26].
حقاً، ما ألذ أن يخاطب الإنسان: (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي) الفجر/27-30.
44- استمرار الإمامة:
إنّنا نعتقد أنّ الحكمة الإلهية كما تتطلّب إرسال الأنبياء لهداية البشرية، تتطلب أيضاً وجود الإمام بعد النبي في كل عصر لحفظ الشرائع والرسالات السماوية من التحريف والتغيير، وتلبية حاجات الناس في كل زمن، ودعوتهم إلى الله والالتزام بالدين، من دون ذلك يبقى الهدف من الخلقة - وهو التكامل والسعادة - عقيماً؛ إذ يضلّ الناس عن سبيل الهدى وتضيع شرائع الأنبياء، ويصبح الناس حيارى؛ ولهذا فإنّنا نعتقد بوجود الإمام بعد النبي في كل عصر: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين} [التوبة/119].
وهذه الآية لا تختص بزمن دون آخر، والدعوة إلى مواكبة الصادقين دليل على وجود الإمام المعصوم -الذي يجب أن يُتَّبع- في كل عصر، كما أشار إلى ذلك الكثير من المفسرين الشيعة والسنة. ( يقول الفخر الرازي بعد بحث مطول حول الآية: … فكانت الآية دالة على أن من كان جائز الخطأ وجب كونه مقتدياً بمن كان واجب العصمة، وهم الذين حكم الله تعالى بكونهم صادقين، فهذا يدل على أنه واجب على جائز الخطأ كونه مع المعصوم عن الخطأ حتى يكون المعصوم عن الخطأ مانعاً لجائز الخطأ عن الخطأ، وهذا المعنى قائم في كل الأزمان، فوجوب حصوله في كل الأزمان. (التفسير الكبير16: 221)).
45- حقيقة الإمامة:
إنّنا نعتقد أنّ الإمامة ليست مجرد منصب ظاهري للسلطة والحكومة، وإنما هي منصب روحي ومعنوي رفيع؛ والإمام يتبنّى هداية الناس في أمور دينهم ودنياهم فضلاً عن قيامه بأمور الحكم والإدارة، وحفظ الشريعة من أي تلاعب وانحراف، ليحقق الأهداف التي بعث من أجلها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
وهذا المنصب الرفيع أعطاه الله تعالى لخليله إبراهيم بعد أن طوى مرحلة النبوة والرسالة واجتاز العديد من الابتلاءات، وقد سأل الله أن يهبه لبعض ذريته، فرُفض الطلب عن بعضهم لأنه منصب لا يناله الظالمون منهم: )وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريّتي قال لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة/124].
ومن الطبيعي ألاّ يختزل عهد رباني كهذا بالحكم والسلطة الظاهرتين فحسب، وإذا لم تفسّر الإمامة بالصورة التي ذكرنا، فلن يكون للآية أعلاه مفهوم واضح.
إنّنا نعتقد أنّ أولي العزم من الأنبياء كان لهم منصب الإمامة والزعامة المعنوية والمادية والظاهرية والباطنية على الناس، لاسيما النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث أعطي منصب الإمامة الربانية منذ بداية نبوّته، ولم تقتصر نبوته على إبلاغ التعاليم الإلهية بل كان إماماً لهم أيضاً.
إنّنا نعتقد أنّ خط الإمامة بعد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) استمر في المعصومين من ذرّيته.
ويتّضح بلحاظ ما ذكرنا من تعريف للإمامة أنّ بلوغ هذا المقام يتوقّف على شروط مشدّدة، من حيث التقوى (التقوى إلى حدّ العصمة من الذنب)، ومن حيث العلم والإحاطة بجميع المعارف والتعاليم الدينية ومعرفة الإنسان وحاجاته في كل عصر ومكان.
46- عصمة الإمام من الذنب والخطأ:
إنّنا نعتقد أنّ الإمام كالنبي يجب أن يتّسم بالعصمة من كل ذنب وخطأ؛ لأنه - فضلاً عما جاء في تفسير الآية المذكورة - لا يستطيع غير المعصوم أن يصبح موضع ثقة تامة تُؤخذ بها منه أصول الدين وفروعه، ولهذا نعتقد بأنّ قول الإمام حجة شرعية كفعله وتقريره (المراد بالتقرير الموافقة على عمل معين يجري أمامه بالسكوت عنه).
47- الإمام حافظ الشريعة:
إنّنا نعتقد أنّ الإمام لا يأتي بشريعة جديدة من لدنه، وإنّما يتحمّل مسؤولية صيانة الشريعة الإسلامية وحمايتها، والسعي لتعليمها والتبليغ لها وإرشاد الناس إلى الكتاب والسنّة.
48- الإمام أعلم الناس بالدين:
ونعتقد أيضاً أنّ الإمام أن يحصل على علم ووعي كاملين لجميع أصول الإسلام وفروعه وأحكامه وقوانينه ولتفسير القرآن المجيد: وهذا العلم ربّاني مأخوذ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليستطيع أن يصبح موضع ثقةٍ تامّة من قبل الأمّة، وليمكن الاعتماد عليه في فهم حقائق الإسلام.
49- النص على الإمام:
إنّنا نعتقد أنّ الإمام (خليفة الرسول) يجب أن يكون منصوصاً عليه، أي يُعين بتصريح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونصّه عليه، ونص كل إمام على الذي يليه؛ وبعبارة ثانية: إنّ الإمام يُعَيَّن كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل الله تعالى (بواسطة النبي)، كما جاء في الآية المتعلّقة بإمامة إبراهيم: (إنّي جاعلك للناس إماماً}.
هذا إلى أن تحديد مستوى التقوى وأنّها قد بلغت حدّ العصمة، وتقرير أن المكانة العلمية قد بلغت مستوى الإحاطة بجميع الأحكام والتعاليم الإلهية دون أيّ خطأ، لا يتسنّى لأحد سوى الله ورسوله، فلا بد في تعيين مَنْ تتوفر فيه صفة العصمة أن يكون من قبل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
وعليه فإنّنا نعتقد بأنّ إمامة الأئمة المعصومين لا تتمّ بطريق الانتخاب الشعبي.
50- تعيين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للأئمة:
إنّنا نعتقد أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي عيّن الأئمة من بعده في حديث الثقلين المعروف.
فقد جاء في صحيح مسلم أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قام خطيباً بماءٍ يدعى (خُم) بين مكة والمدينة فقال: »… فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهم كتاب الله فيه الهدى والنور… وأهل بيتي، أذكركّم الله في أهل بيتي، أذكركّم الله في أهل بيتي، أذكركّم الله في أهل بيتي «[صحيح مسلم 4: 1873].
وجاء في هذا المعنى في صحيح الترمذي أيضاً [صحيح الترمذي 5: 662] وفيه تصريح واضح بتعيين الإمام بعده في أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم).
كما جاء في سنن الدارمي [سنن الدارمي 2: 432] وخصائص النسائي [خصائص النسائي: 20] ومسند أحمـد [مسـند أحمد 5: 182؛ وكنز العمال 1: 185، الحديث 945] ومعظم المصادر الإسلامية المعروقة، فحديث الثقلين لا يمكن أن يشكّ فيه أحد قيد أنملة، لأنه في عداد الأحاديث المتواترة التي لا يمكن لأيّ مسلم أن ينكرها أو يطعن فيها، ويستفاد من الروايات أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كرّر هذا الحديث أكثر من مرة وفي أكثر من موقع.
وبطبيعة الحال، لا يمكن لجميع أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتبوءوا مثل هذا المنصب والمقام إلى جانب القرآن، ولا بدّ أن تنحصر الإشارة إلى الأئمة المعصومين من ذرية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (وقد ورد في بعض الأحاديث الضعيفة والمشكوكة التي لا يعتمد عليها كلمة ((سنتي )) بدلاً من (( أهل بيتي)) ).
ويوجد حديث آخر مشهور نعتمد عليه ورد ذكره في المصادر المعروفة أمثال صحاح البخاري ومسلم الترمذي وأبي داود ومسند ابن حنبل وغيرها؛ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ((لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش)). [جاء هذا التعبير في صحيح مسلم 3: 1453 عن جابر بن سمرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وورد في المصادر المذكورة الأخرى باختلاف بسيط (صحيح البخاري 3: 101، وصحيح الترمذي 4: 501، وصحيح أبي داود 4، كتاب المهدي) ].
إنّنا نعتقد أنه لا يوجد تفسير مقبول لهذه الروايات سوى ما جاء في عقائد الشيعة الإمامية حول الأئمة الاثني عشر.
51- تنصيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّاً (عليه السلام):
إنّنا نعتقد أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نَصب علياً (عليه السلام) مرّات عديدة خليفة له (بأمر الله)، ففي غدير خمّ (وهو موقع بالقرب من الجحفة) تلا (صلى الله عليه وآله وسلم) خطبة لدى عودته من حجّة الوداع في جمع كبير من أصحابه، قال فيها جملته المعروفة: ((أيها الناس، ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا: بلى، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه)). [روى هذا الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق متعددة، وقد بلغ عدد رواته 110 أشخاص من الصحابة و84 من التابعين، وورد في 360 مصدراً إسلامياً معروفاً، مما لا يسعنا شرح ذلك هنا (راجع: ج9 من كتاب من وحي القرآن ص181 فما بعد) ].
ولأنّنا لا نهدف إلى الإطالة وإيراد الاستدلالات في مقام بيان هذه العقائد، نكتفي بالقول: أنّ هذا الحديث لا يمكن أن نمر عليه مرور الكرام، أو نفسّره من باب المودة والمحبة المجردة رغم تأكيد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه.
ألا ينطبق هذا الحديث مع ما قاله ابن الأثير في الكامل من أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع أقاربه وعشيرته في بداية دعوته حينما نزلت الآية: )وأنذر عشيرتك الأقربين}، وعرض عليهم الإسلام، ثم قال: ((أيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم))، فلم يجبه أحد سوى عليّ (عليه السلام) حينما قال: ((أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه))، ثم أشار إليـه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: (( إنّ هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم)). [الكامل لابن الأثير 2: 63، طبعة بيروت، دار صادر؛ وورد هذا المعنى باختلاف طفيف في مسند أحمد بن حنبل 1: 11؛ وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 13: 210؛ وغير ذلك].
ألا يعني هذا ما أراد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تأكيده في الساعات الأخيرة من عمره الشريف، إذ قال كما جاء في صحيح البخاري: ((إئتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً))، لكن بعضهم عارض ذلك وقال كلاماً فيه الكثير من الإهانة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنع تحقق هذا الأمر؟ [نقل البخاري هذا الحديث في 5: 11، ((باب مرض النبي))، وأورده بوضوح أكثر مسلم في صحيحه 3: 1259].
نكرّر مرة أخرى أن الهدف هو ذكر العقائد مع القليل من الاستدلال، وإلاّ اتخذ البحث منحىً آخر.
52- تأكيد كل إمام على الذي يليه:
إنّنا نعتقد أنّ كل إمام من الأئمة الاثنى عشر كان يجري النص عليه من الإمام الذي يسبقه، وأولهم علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ثم ولده الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، ثم ولده الآخر الحسين بن علي سيد الشهداء (عليه السلام)، ثم ولــــده علي بن الحسين (عليه السلام)، فولده محمّد بن علي الباقر (عليه السلام)، وبغده ابنه جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) ثم ولده موسى بن جعفر (عليه السلام)، وبعده ولده عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام)، ثمّ ولده محمّد بن علي التقيّ (عليه السلام)، ثمّ ولده علي بن محمّد النقيّ (عليه السلام)، ثمّ ولده الحسن بن علي العسكري (عليه السلام)، وخاتمهم محمّد بن الحسن المهدي (عليه السلام) الّذي نعتقد أنه لا يزال حيّاً، سلام الله عليهم أجمعين.
وإنّ الاعتقاد بالمهدي ((عج)) الذي سيملأ الدنيا عدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً، لا ينحصر بنا فحسب، وإنّما يعتقد بذلك كل المسلمين، وقد ألّف بعض علماء السنّة كتباً مستقلة حول تواتر روايات المهدي ((عج))، وأكدت رسالة نشرتها رابطة العالم الإسلامي قبل سنوات كون الظهور من المسلّمات، ونقلت عن كتب معروفة ومعتبرة روايات كثيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حول المهدي [صدرت هذه الرسالة في 24/شوال/ 1396 عن رابطة العلم الإسلامي بتوقيع مدير إدارة مجمع الفقه الإسلامي محمد المنتصر الكتاني]. غاية الأمر أن الكثير من علماء السنة يعتقدون أنه ((عج)) سيُولد في آخر الزمان، ونعتقد نحن أنه الإمام الثاني عشر الذي قد ولد وأطال الله بعُمره كما أطال بعمر إدريس وعيسى (عليهم السلام) وغيرهما من المعمّرين، وسيظهر حينما يأذن الله له ويكلّفه بإقامة العدل والقضاء على الجور.
53- علي (عليه السلام) أفضل الصحابة:
إنّنا نعتقد أنّ علياً (عليه السلام) كان أفضل الصحابة، ومكانته في الإسلام تلي مكانة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي الوقت نفسه نعتبر أيّ غلو في عليّ (عليه السلام) حراماً، ونعتقد أنّ من يقول بألوهية عليّ (عليه السلام) كافر خارج عن جماعة المسلمين، ونحن بريئون منه ومن عقائده؛ وممّا يؤسف له أنّ البعض اشتبه عليه الأمر للخلط الذي حصل بين الغلاة وبين المسلمين الشيعة، رغم أن علماء المسلمين الشيعة الإمامية اعتبروا هذه الفئة غريبة عن الإسلام.
54- الصحابة أمام حكم العقل والتاريخ:
إنّنا نعتقد أنّ من بين صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شخصيات كبيرة مضحّية أشار القرآن إلى فضائلهم الكثيرة، وتطرقت الروايات إلى مناقبهم، لكن هذا لا يعني أنّ جميع الصحابة هم في عداد المعصومين عن الزلل، ولا يعني أن نعتبر أعمالهم صحيحة دون استثناء؛ لأن القرآن يتحدث في الكثير من آياته (في سورة البراءة والنور والمنافقين) عن المنافقين الذين كانوا ضمن صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث ذمّتهم الآيات القرآنية أشد الذم رغم أنهم كانوا - في ظاهر الأمر- من الصحابة. وكان من بين الصحابة أيضاً من أشعل فتيل الحرب بين المسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونكثوا البيعة مع الخليفة، وأراقوا دماء عشرات الآلاف من المسلمين؛ فهل يحق لنا أن ننزّه هؤلاء الأشخاص ونزكّيهم ؟.
وبعبارة ثانية: كيف نستطيع أن نحكم بصلاح طرفي النزاع (في معركتي الجمل وصفين مثلاً)؟ ففي ذلك تناقض لا يمكننا القبول به؛ ومَن يسوّغ هذا الأمر بالاستناد إلى موضوع الاجتهاد، ويقول أن أحد الطرفين كان إلى حقّ والثاني على باطل، لكنّه عمل باجتهاده فأعذر عند الله وأثيب، فهذا استدلال لا يمكن القبول به أيضاً.
فكيف يمكن لأحد أن ينقض البيعة مع خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحجة الاجتهاد، ثمّ يعمد إلى إشعال فتيل الحرب وإراقة دماء الأبرياء بحجة الاجتهاد أيضاً؟ ، وإذا أصبح بالإمكان تبرير عملية سفك الدماء بالاجتهاد، أمكن عندئذ تبرير كل عمل بالاجتهاد.
وبصراحة نقول: أنّنا نعتقد أنّ كلّ إنسان - وإن كان صحابياً - رهين بعمله ويصدق عليه الأصل القرآني: )إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات/ 13]؛ وعليه لا بدّ أن نحدد وضع الصحابة من خلال أفعالهم، لنصل إلى حكم منطقي ينطبق عليهم جميعاً، فمن كان صحابياً مخلصاً على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستمر على هذا المنهج في حفظ الإسلام والوفاء بالعهد مع القرآن بعد النبي، وقّرناه واعتبرناه من الصالحين.
ومن كان منافقاً على عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقام بأفعال تؤذيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو غيّر مساره بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بما فيه ضرر بالإسلام والمسلمين، فإنّنا لا نكنّ له أي نوع من أنواع الودّ؛ قال تعالى: )لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} [المجادلة/ 22].
أجل، أننا نعتبر أولئك الذين حادّوا الرسول في حياته أو بعد مماته لا يستحقّون أي ثناء وتوقير.
ولكن يجب أن لا ننسى هنا أنّ جمعاً من صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلوا ما في وسعهم من اجل نشر الدين الإسلامي، فأثنى عليهم الله تبارك وتعالى وانزل فيهم مديحاً يستحقّه أيضاً التابعون الذين ساروا على نهج الصحابة الصالحين، كما يستحقّه كلّ من يسير على هذا النهج إلى يوم القيامة: )والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} [التوبة/ 100].
هذه إذاً هي خلاصة عقيدتنا حول الصحابة.
55- علوم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم):
إنّنا نعتقد أنّ كلام الأئمة (عليهم السلام) وفعلهم وتقريرهم (أي عدم النهي عن أفعال تُجرى بحضورهم) حجة وسند، بلحاظ ما أمر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حسب ما جاء متواتراً من لزوم التمسك بالقرآن والعترة، وبلحاظ ما نعتبره من أنّ الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) معصومون؛ وعليه فإن أحد مصادرنا الفقهية بعد القرآن والسنّة النبوية هو قول الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وفعلهم وتقريرهم.
وإذا دقّقنا النظر فيما جاء عن الأئمة (عليهم السلام) من أنهم ينقلون عن آبائهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، اتضح لنا أنّ رواياتهم (عليهم السلام) هي في الحقيقةروايات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونحن نعلم أن روايات الشخص الموثوق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مقبولة عند جميع علماء المسلمين.
قال الإمام محمّد بن علي الباقر (عليهم السلام) لجابر: ((يا جابر، إنّا لو كنا نحدّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))). [جامع أحاديث الشيعة 1: 18 من المقدمات، الحديث 116].
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليهم السلام): ((أن رجل سأله عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟ فقال له: مه! ما أجبتك فيه من شيء فهو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لسنا من : (أرأيت)، في شيء)). [أصول الكافي 1: 58، الحديث 121].
ومن المهم هنا أن نذكر أن لنا مصادرنا المعتبرة في الحديث مثل الكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه وغيره، إلاّ أنّ الاعتبار الذي تحظى به هذه المصادر لا يعني في حال من الأحوال أنّنا نقبل بكل رواية وردت فيها؛ فإلى جانب الروايات توجد كتب الرجال الّتي تكشف عن وضع الرواة في تسلسل جميع أسانيد تلك الروايات؛ ولا نأخذ بها إلاّ حينما يكون رواتها في سلسلة السنة من الثقاة، وعليه فإنّنا لا نعتمد الرواية التي لا يتحقّق فيها هذا الشرط حتى وإن وجدت في المصادر المذكورة.
هذا إلى أنّه قد توجد رواية معتمدة السند، لكن علماءنا وكبار فقهائنا تجاهلوها وأعرضوا عنها، لأنّهم وجدوا فيها خللاً من نوع آخر؛ ولا تجد هذه الرواية الّتي يطلق عليها ((معرض عنها)) طريقاً إلى رواياتنا المعتمدة.
من هنا يتّضح أنّ من يحاول الإطلاع على عقائدنا ويحكم فقط بالاستناد فقط على رواية أو روايات وردت في بعض هذه الكتب دون أن يحقّق في سندها فهو على خطأ.
بعبارة ثانية: توجد لدى بعض المذاهب الإسلامية المعروفة كتب باسم ((الصحاح))، لا يشكّ مؤلفوها بصحة الروايات الواردة فيها، كما يعتبرها الآخرون صحيحة؛ إلاّ أنّ الكتب المعتبرة لدينا ليست بهذه الصورة، وإنّما هي كتب ألّفها الثقاة، تعتمد صحة أسناد الروايات الواردة فيها على العودة إلى كتب علم الرجال لدراسة رجال الأسانيد فيها.
إنّ هذه الملاحظة يمكن أن تكون إجابةً على الكثير من الأسئلة التي تثار حول عقائدنا، كما أنّ الغفلة عنها يؤدي إلى الوقوع في اشتباهات كثيرة حول عقائدنا.
على أي حال، فإن أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الاثني عشر ترقى إلى مستوى الاعتبار عندنا بعد القرآن والسنّة النبوية، بشرط أن يثبت صدور هذه الأحاديث عن الأئمة (عليهم السلام) بطريق معتبر.
يضاف إلى البحوث التي وردت في الفصول السابقة، والتي توضّح أصول عقائدنا في المباحث الأساسية للإسلام، فإنّ معتقداتنا تتضمّن خصائص أخرى، سنتناولها في هذا الفصل.
56- الحسن والقبح العقلي:
إنّنا نعتقد أنّ عقل الإنسان يدرك حُسْن الكثير من الأشياء وقبحها، وذلك ببركة قوة تشخيص الحسن والقبح التي أودعها الله تبارك وتعالى في الإنسان؛ وكان الإنسان حتّى قبل نزول الشرائع السماوية يشخّص بعض المسائل بواسطة عقله، كحسن العدالة والبر، وقبح الظلم والجور، وحسن الكثير من الصفات الأخلاقية كالصدق والأمانة والشجاعة والسخاء وأمثالها، وقبح الكذب والخيانة والبخل وأشباهها؛ إلاّ أن العقل الإنساني عاجز عن إدراك حسن كلّ الأشياء وقبحها، والعلم الإنساني محدود في كلّ الأحوال، ولهذا بعث الله تعالى الأنبياء وأنزل الكتب لتكميل هذا الأمر من خلال الادراكات العقلية أولاً، وإضاءة الزوايا المظلمة التي يعجز العقل عن التّوصل إليها ثانياً.
وإذا أنكرنا كليّاً استقلال العقل في تشخيص الحقائق، فلن نستطيع عندئذ إثبات وجود الله ومعرفته وشرعية دعوة الأنبياء؛ ومن البديهي أنّ تعاليم الشريعة لا يمكن الإذعان لها وقبولها إلاّ بعد أن يثبت بالعقل أصل التوحيد واصل النبوة، وليس بالوسع إثبات هذين الموضوعين بالدليل الشرعي فقط.
57- العدل الإلهي:
ولهذا فإنّنا نعتقد بالعدل الإلهي، ونقول: إن من المستحيل أن يظلم الله عباده أو يعاقب أحداً أو يعفو عن آخر دون دليل، ومن المستحيل ألاّ يفي الله بوعده، أو أن يصطفي للنبوّة والرسالة شخصاً طالحاً خطّاء كذّاباً.
ومن المستحيل أن يترك عباده - الذين خلقهم لإيصالهم إلى السعادة - وشأنهم دون مرشد وقائد؛ لأنّ كل هذه الأفعال قبيحة، ولا يمكن لله تعالى أن يأتي بالقبيح.
58- حريّة الإنسان:
وللدليل السابق نعتقد أنّ الله خلق الإنسان حرّاً، ويؤدي أفعاله بإرادته واختياره لأنّ الإنسان لو كان مجبراً على أعماله، لأصبح من الظلم معاقبة الشرار، ومن العبث مكافأة الأخيار، وذلك أمر على الله محال.
وبخلاصة نقول: إنّ الإيمان بالقبح والحسن العقليين والاستقلال الفكري للإنسان في تحديد الكثير من الحقائق، يعتبر ركناً أساسياً في الدين والشريعة والإيمان بنبوة الأنبياء والكتب السماوية؛ إلاّ أن إدراك الإنسان - كما قلنا - محدود، ولا يمكن بواسطته التوصّل إلى جميع الحقائق التي تبلغ به السعادة والكمال، ولهذا فهو بحاجة إلى الأنبياء والكتب السماوية.
59- الدليل العقلي مصدر فقهي:
إنّنا بلحاظ ما ذكرنا آنفاً
نعتقد أنّ الدليل العقلي يعدّ أحد المصادر الأساسية في الدين، والمراد بالدليل العقلي هنا أن يدرك العقل شيئاً بالقطع واليقين ويعطي رأيه فيه، مثال ذلك أنّنا لو لم نحصل (فرضاً( على أيّ دليل من الكتاب والسنّة على حرمة الظلم والخيانة والكذب وقتل النفس والسرقة والتجاوز على حقوق الآخرين، لحرّمنا هذه الأمور بدليل العقل؛ ونحن على يقين بأن الله العالم الحكيم قد حرّم علينا هذه الأمور ولا يرضى لنا ممارستها، ومن ثمّ فإنّ ذلك كان حجّة إلهية علينا.
والآيات القرآنية مليئة بالتعابير التي تبيّن أهمية العقل والدلائل العقلية، فمن أجل الدعوة إلى سلوك طريق التوحيد، يدعو القرآن أولي الألباب للتدبر في الآيات الإلهية في الأرض والسماء ويقول: (إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب ( [آل عمران/ 190].
ويعتبر من - جهة أخرى - الهدف من بيان الآيات الإلهية هو زيادة الإدراك البشري: )أنظر كيف نصرف الآيات لعلّهم يفقهون( [الأنعام/ 50].
وأخيراً: )إنّ شرّ الدّواب عند الله الصّم البكم الذين لا يعقلون( [الأنفال/ 22] إضافة إلى آيات كثيرة بهذا الشأن.
فكيف يمكن مع كل هذا التأكيد لدور العقل تجاهله وعدم ايلائه الأهمية المطلوبة.
60- عودة إلى العدل الإلهي:
أشرنا - فيما سبق - إلى اعتقادنا بالعدل الإلهي، وأنّ الله سبحانه وتعالى شأنه لا يظلم عباده؛ لأنّ الظلم عمل قبيح، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك: )ولا يظلم ربّك أحداً( [الكهف/ 49].
وإذا كان ثمّة عقاب يناله البعض من الناس في الدنيا والآخرة فهم سببه: )فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون( [التوبة/ 70].
وينطبق هذا الأمر على جميع الكائنات في العالم وليس على الإنسان فحسب: )وما الله يريد ظلماً للعالمين( [آل عمران/ 108].
وبطبيعة الحال، فإنّ جميع هذه الآيات تأكيد لحكم العقل وإرشاد إليه.
نفي تكليف ما لا يطاق:
إنّنا نعتقد بناء على ما مرّ أنّ الله سبحانه وتعالى لا يكلّف الإنسان ما لا يطيقه: )لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها( [البقرة/ 286].
61- فلسفة الحوادث الأليمة:
وللدليل المذكور أعلاه
نعتقد أيضاً أنّ الحوادث الأليمة الّتي تقع في الدنيا (من قبيل الزلازل والآفات والبلايا )، تنطوي أحياناً على بعد عقابي، كما جاء في قوم لوط: )فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجّيل منضود( [هود/ 82].
وجاء في قوم سبأ الطاغين: )فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم( [سبأ/ 16].
في حين يقع بعضها لإيقاظ الإنسان وإعادته إلى طريق الحق: )ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون ( [الروم/ 41].
وهذا الصنف من الكوارث إذاً هو لطف ربّاني.
أما القسم الآخر من الويلات التي تصيب الإنسان فهي مما يجنيه الإنسان على نفسه بسبب جهله: )إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم( [الرعد/ 11].
)ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك( [النساء/ 79].
62- عالم الوجود هو النظام الأحسن:
إنّنا نعتقد أنّ عالم التكوين يجسّد النظام الأفضل، بمعنى أنّ النظام الموجود في العالم هو أفضل نظام يمكن أن يستقر به العالم، فكلّ شيء فيه جرى خلقه وفق حساب، لا ترى فيه ما يخالف الحق العدالة والخير، وإذا وجد الشر في المجتمع البشري فهو مما كسبت أيدي الناس.
نكرّر ونقول:
إنّنا نعتقد أن العدل الإلهي هو ركن أساسي في النظرة الكونية الإسلامية، وبدونه تهتز أسس التوحيد والنبوّة والمعاد، فتدبّر.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام( في حديث له: ((إنّ أساس الدين التوحيد والعدل… أما التوحيد فألاّ تجوِّز على ربك ما جاز عليك، وأما العدل فألاّ تنسب إلى خالقك ما لامك عليك((. [بحار الأنوار 5: 17، الحديث 23].
63- المصادر الفقهية الأربعة:
مصادرنا الفقهية - كما أشرنا إلى ذلك - أربعة:
أولاً: كتاب الله ((القرآن المجيد(( وهو أصل المعارف والأحكام الإسلامية.
ثانياً: سنّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( والأئمة المعصومين (عليهم السلام(.
ثالثاً: إجماع العلماء والفقهاء الذي يكشف عن رأي المعصوم.
رابعاً: دليل العقل، والمقصود منه دليل العقل القطعي، أمّا دليل العقل الظني (كالقياس والاستحسان( فلا يؤخذ في أيّ من مسائلنا الفقهية؛ فإذا رأى الفقيه بتصوره مصلحة في شيء لم يرد حكمه في الكتاب والسنّة، لا يستطيع أن يعتبر ذلك حكماً إلهياً، كما أنّنا لا نجيز اللجوء إلى القياس الظني وأمثال ذلك لكشف الحكم الشرعي، أمّا في الحالات اليقينية، كاليقين بقبح الظلم والكذب والسرقة والخيانة، فحكم العقل فيها معتبر يكشف عن حكم الشرع بمقتضى قاعدة ((كل ما حكم به العقل حكم به الشرع((.
والحق إنّ لدينا روايات بما فيه الكفاية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( والأئمة المعصومين (عليهم السلام( حول الأحكام التي يحتاجها المكلّف في الشؤون العبادية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا نرى هناك أدنى حاجة للجوء إلى تلك الأدلة الظنية؛ بل نعتقد أيضاً أن للمسائل المستحدثة أصولاً وكليات في الكتاب وسنّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( والأئمة المعصومين (عليهم السلام(، ممّا لا نحتاج للكشف عن أحكامها إلى اللجوء إلى الدلائل الظنية، بل تكفي العودة إلى كليات الأحكام.[لا يسع هذا الكتاب الخوض في هذا البحث، ويمكن الرجوع لمن أراد إلى كتاب ((المسائل المستحدثة(( الذي شرحنا فيه الموضوع بالتفصيل].
64- باب الاجتهاد مفتوح دائماً:
إنّنا نعتقد أن باب الاجتهاد في جميع مسائل الشرع مفتوح، ويحقّ لجميع الفقهاء المجتهدين استنباط الحكام الإلهية من المصادر الأربعة المذكورة ووضعها بتناول من ليست له القدرة على الاستنباط، حتى وإن اختلفت آراؤهم مع الفقهاء السابقين؛ ونعتقد أنّ من يفتقر إلى الرأي الفقهي عليه أن يرجع إلى الفقهاء الأحياء العارفين بقضايا الزمان والمكان، ويقلّدهم، ونعتبر أن من البديهيات رجوع غير المتخصصين في الفقه إلى المتضلّعين في هذا العلم، حيث نطلق على هؤلاء ((مراجع التقليد((، ولا نجيز تقليد الفقيه الميّت ابتداءً؛ ولا بدّ للناس من تقليد الفقهاء الأحياء ليكون الفقه في حركة وتكامل مستمرين.
65- لا يوجد فراغ قانوني في الإسلام:
إنّنا نعتقد أنّه لا يوجد أي فراغ قانوني في الإسلام، بمعنى أنّ الإسلام بيّن جميع الأحكام التي يحتاج إليها الإنسان إلى يوم القيامة، تارة بشكل خاص وتارة أخرى ضمن حكم كلي عام؛ ولهذا فإنّنا لا نبيح للفقهاء حقّ التشريع، بل نرى أنّهم مكلفون باستخراج الأحكام والشريعة الإلهية من المصادر الأربعة ووضعها بتناول الناس.
فكيف يمكن للدّين أن يكون كاملاً دون أن يحتوي على الحكام الفقهية الكاملة لجميع العصور والدهور، وقد قال الله تعالى في سورة المائدة التي هي آخر سورةٍ نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو من أواخرها: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً( [المائدة 3].
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم( في حديثه المعروف في حجة الوداع: ((أيها الناس، والله ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم عن الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه((. [أصول الكافي 2: 74، بحار الأنوار 67: 96].
وورد في حديث معروف عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام(: ((ما ترك علي (عليه السلام( شيئاً إلاّ كتبه حتى أرش في الخدش((. [جامع الأحاديث 1/ 18، الحديث 127 (وذكر الكتاب أحاديث عديدة مماثلة في هذا الباب( ].
وبما أن الأمر كذلك فلا حاجة بعده للأدلة الظنية مثل القياس والاستحسان.
66- التقيّة وفلسفتها:
إنّنا نعتقد أنّ المرء مكلَّف بكتمان عقائده أمام المتعصب العنيد الذي لا يفهم لغة النطق، إذا كان في إظهارها خطراً على حياته أو شيء من هذا القبيل دون أن يحقق من وراء إظهارها أية فائدة ترتجى، ونطلق على هذا السلوك اسم التقيّة التي أخذناها عن آيتين في القرآن المجيد ومن الدليل العقلي.
قال تعالى في مؤمن آل فرعون: )وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربكم( [المؤمنون/ 28].
وعبارة )يكتم إيمانه( فيها تصريح بمسألة التقيّة، فهل كان من الصحيح أن يُعلن مؤمن آل فرعون إيمانه ويعرّض حياته للخطر دون أن يحقّق شيئاً؟
كما أمر الله بعض المؤمنين المجاهدين في صدر الإسلام الذين بين براثن المشركين بالتقيّة وقال: )لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة( [آل عمران/ 28].
وعليه فإن التقيّة تعني كتمان العقيدة حينما تتعرّض نفس الإنسان وماله وعِرضه للخطر أمام عدو متعصب عنيد، دون أن يستطيع تحقيق أمرٍ ما؛ ففي مثل هذه الحالة يجب أن لا يلقي الإنسان بنفسه في التهلكة ويفرّط بالطاقات الموجودة، بل عليه أن يحتفظ بها إلى وقت الضرورة واللزوم، ولهذا قال الإمام الصادق (عليه السلام(: ((التقيّة ترس المؤمن((. [وسائل الشيعة للحرّ العاملي 11: 461، الحديث 6، الباب 24. وورد ((ترس الله في الأرض(( في بعض الأحاديث].
والترس هنا تعبير لطيف يبيّن أن التقيّة وسيلة دفاعية أمام العدو.
وقضية عمّار بن ياسر معروفة في التزامه بالتقيّة أمام المشركين وتأييده من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم(. [ذكر هذه الرواية الكثير من المفسرين والمؤرِّخين والمحدثين، منهم الواحدي في أسباب النزول، والطبري والقرطبي والزمخشري والفخر الرازي والبيضاوي والنيسابوري في تفاسيرهم في ذيل الآية 106 من سورة النحل].
إنّ استتار الجنود في ميادين الحرب، وإخفاء الأسرار العسكرية عن العدو وأمثال ذلك كلها تعتبر من التقيّة في الحياة البشرية، فالتقيّة تعني بصفة عامة الكتمان حينما يؤدي الإظهار إلى الخطر والضرر دون أن يُسفر عن فائدة؛ وهذا حكم عقلي وشرعي لا يعمل به المسلمون الشيعة فحسب بل جميع مسلمي العالم بل عقلاؤهم عند الضرورة.
ومن المستغرب جدّاً أن يعتبر بعض الباحثين التّقية خاصّة بالشيعة وأتباع آل البيت، ويحاول أن يجعلها مورد طعن فيهمن في حين أن المسألة ليس فيها لبس ولا غموض، وهي مأخوذة من كتاب الله ومن الأحاديث ومن سير الصحابة، وهي أيضاً مما يمضيها ويعمل بها جميع العقلاء في العالم.
67- موارد حرمة التقيّة:
إنّنا نعتقد أنّ السبب الأصلي وراء سوء الفهم هنا هو عدم الإطلاع على عقائد الشيعة إطلاعاً كافياً، أو الإلمام بها من خلال قنوات الأعداء، ونعتقد أنّ التوضيح الذي قدمناه يلقي الضوء تماماً على هذه المسألة ويزيل الغموض عنها.
ولا بدّ أن نُثبت هنا أن التّقية تحرم في بعض الحالات التي يتعرض فيها أساس الدين والقرآن أو النظام الإسلامي إلى الخطر، وعلى الإنسان أن يصرّح بعقائده حتى وإن اصبح ضحية لذلك؛ ونعتقد أن قيام الإمام الحسين (عليه السلام( في عاشوراء جاء في سياق تحقيق هذا الهدف؛ لأنّ حكام آل أمية عرضوا أساس الإسلام إلى الخطر، فثار الإمام الحسين (عليه السلام( ليميط اللثام عن ذلك ويقف أمام هذه المخاطر.
68- العبادات الإسلامية:
إنّنا نعتقد ونلتزم بجميع العبادات التي أكّدها القرآن والسنّة، كالصلوات الخمس التي تعتبر أهمّ حلقة وصل بين الخلق والخالق، وصيام شهر رمضان الذي يُعد أهمّ وسيلة لتقوية الإيمان وتزكية النفس والتقوى ومكافحة الهوى.
ونعتقد بوجوب الحجّ للمستطيع مرة واحدة في العمر باعتباره وسيلة مؤدّية للتقوى وتعزيز أواصر المودة وسبباً لعز المسلمين، كما نرى أن من الواجبات المسلّمة إعطاء زكاة المال وخمسه، والمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد أمام المعتدين على الإسلام والمسلمين، ولا يخفى أنّ هناك اختلافاً في التفاصيل بيننا وبين بعض الفرق الإسلامية الأخرى، كما هو الحال في الاختلافات الموجودة في أحكام العبادات وغيرها بين المذاهب الأربعة لأهل السنّة.
69- الجمع بين الصلوات:
ومن ذلك
إنّنا نعتقد أنّه لا مانع من الجمع بين صلاتَيْ الظهر والعصر أو المغرب والعشاء (رغم أنّ الفصل أولى(، ونعتقد أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( أجاز الجمع رفعاً للحرج، ففي صحيح الترمذي جاء عن ابن عباس أنه قال: ((جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم( بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قال: فقيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ فقال:أراد ألاّ يحرج أمته((. [سنن الترمذي 1: 354، الباب 138؛ سنن البيهقي 3: 167].
أي أجاز الجمع في الحالات التي يسبب الفصل فيها حرجاً على الأمة؛ وها نحن نعيش في عصر تراكمت فيه التعقيدات الاجتماعية لا سيما في المراكز الصناعية، والتقيّد بالأوقات الخمسة قد يؤدي إلى ترك الصلاة من قبل بعضهم، وعليه فإنّ الاستفادة من هذا الترخيص النبوي سيساعد دون شك على الالتزام بالصلاة وأدائها.
70- السجود على التراب:
إنّنا نعتقد بوجوب السجود في الصلاة على التراب أو سائر أجزاء الأرض أو مما تنبت الأرض كأوراق الأشجار وجذوعها وجميع النباتات ((باستثناء ما يؤكل منها أو يلبس((؛ ولهذا فإنّنا لا نجيز السجود على السجّاد، ونرجح السجود على التراب أكثر من شيء آخر، ولتسهيل هذا الأمر يحتفظ الكثير من أبناء المسلمين الشيعة بقطعة من الطين الجاف الطاهر تُسمّى ((التربة(( للسجود عليها في الصلاة، ونستند في هذا الرأي إلى الحديث النبوي الشريف: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً((، والمسجد هنا يعني مكان السجود؛ وقد ورد هذا الحديث في أغلب كتب الصحاح وغيرها. [ منها: البخاري في صحيحه عن جابر بن عبدالله الأنصاري في باب التيمم 1: 91، والنسائي في صحيحه عن جابر أيضاً في باب التيممّ بالصعيد، وجاء في مسند أحمد عن ابن عباس 1: 301، وروي في المصادر الشيعية بطرق مختلفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم(].
وقد يقال: إن ((المسجد(( في الحديث لا يعني مكان السجود، وإنّما محل الصلاة، مقابل من يصلي في مكان محدّد فقط؛ ولكن يتضح من خلال التطّرق إلى ((الطهور(( الذي يعني ((تراب التيمّم(( أن المراد هو ((محل السجود((، أي أنّ تراب الأرض طهور ومحل للسجود أيضاً.
هذا إلى ما ورد من أحاديث كثيرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام( تتناول هذا الموضوع وتؤكّد أن محل السجود يجب أن يكون من التراب أو الحجارة وأمثال ذلك.
71- زيارة قبور الأنبياء والأئمة:
إنّنا نعتقد أنّ من المستحب المؤكد زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( وأئمة أهل البيت (عليهم السلام( وكبار العلماء والشهداء في سبيل الله.
فقد وردت في كتب أهل السنّة روايات لا تحصى حول زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم(، كما ورد الكثير منها في كتب الشيعة، بحيث لو جمعت لألّفت كتاباً مستقلاً حول هذا الموضوع. [للإطلاع على مثل هذه الروايات والكلمات التي أطلقها كبار العلماء وعلى حالاتهم في مجال الزيارة، راجع الغدير في الكتاب والسُنَّة والأدب للعلامة الأميني 5: 93- 207].
وكان كبار العلماء المسلمين وأبناء الأمّة من مختلف صنوفهم وعلى مدى التاريخ يولون أهمية لهذا العمل، ولعلّ الكثير من الكتب كشفت عن حالات أولئك الذين يوفّقون لزيارة مرقد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم(، وقبور الأئمة وكبار الشخصيات الإسلامية؛ بحيث يمكن القول إنّ هذه المسألة من المسائل التي أجمعت عليها الأمّة.
وهنا يجب ألاّ يحصل خلط بين الزيارة والعبادة، فالعبادة لله عزّ وجلّ، أمّا الزيارة فهي توقير وتخليد للشخصيات الإسلامية الفذة وطلب شفاعتها عند الله؛ وقد ورد في الروايات أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( كان يزور أهل القبور في البقيع ويسلّم عليهم. [يمكن مراجعة هذه الروايات في صحاح مسلم وأبي داود والنسائي والترمذي ومسند أحمد وسنن البيهقي ].
وبناء على ذلك لا يمكن لأحد أن يشكّ في مشروعية هذا العمل فقهياً.
72- مراسم العزاء وفلسفتها:
إنّنا نعتقد أنّ مسألة إقامة العزاء على شهداء الإسلام، وخاصّة شهداء كربلاء، هي من باب إحياء الذكرى وتخليد التضحيات التي قدّموها في سبيل بقاء الإسلام؛ ولهذا فإنّنا نقيم هذه المراسم في مقاطع مختلفة من أيام السنة، ولا سيما في أيام عاشوراء (العشرة الأولى من محرم( التي تصادف فيها شهادة الحسين بن علي (عليهما السلام( سيّد شباب أهل الجنة [نقل حديث: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة((، صحيح الترمذي عن أبي سعيد الخدري وحذيفة 2: 306 و 307، وصحيح ابن ماجة في باب فضائل أصحاب رسول الله؛ ومستدرك الصحيحين وحلية الأولياء وتاريخ بغداد واصابة ابن حجر وكنز العمال وذخائر العقبى والكثير من المصادر الأخرى]، وابن فاطمة الزهراء (عليها السلام( ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم(؛ فنقوم بدراسة تحليلية لتاريخ حياة هؤلاء الشهداء وبطولاتهم وصولاتهم، ونتحدث عن أهدافهم. ونحيّي أرواحهم الطاهرة.
إنّنا نعتقد أن بني أميّة غيروا الكثير من سنن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( وشمّروا عن ساعد الجدّ للقضاء على القيم الإسلامية.
فلقد ثار الحسين بن علي (عليه السلام( سنة 61هـ ضد يزيد الفاسق الغريب عن الإسلام الذي تربع - ويا للأسف - على مقعد الخلافة الإسلامية؛ ورغم أن الإمام استشهد مع أصحابهجميعاً على أرض كربلاء، وأُسر أهل بيته، إلاّ أن دمه الزكيّ بثّ روحاً جديدة في المسلمين آنذاك، وحرك فيهم روح الثورة بحيث توالت الانتفاضات ضدّ بني أمية ووجّهت ضربات حاسمة لأركان الظلم والجور والاستبداد، حتى أُطيح بهم وطوى الدهر صفحتهم السوداء،؛ والجدير ذكره أن جميع الثورات التي حدثت بعد واقعة عاشوراء ضدّ بني أميّة كانت ترفع بعض هذه الشعارات حتى في العصر العباسي المستبد. [استعان أبو مسلم الخراساني الذي اجتثّ جذور السلطة الأموية بشعار ((الرضا لآل محمد(( لخطب ودّ المسلمين (الكامل لابن الأثير 5: 372(. كما رفعت ثورة التوّابين شعار ((يا لثارت الحسين(( (الكامل لابن الأثير 4: 175(، وهو شعار رفعه المختار بن أبي عبيد الثقفي أيضاً (الكامل 4: 288(.
ومن المعلوم أن الحسين بن علي صاحب فخّ هو من جملة من ثاروا ضدّ بني العبّاس، وقد اختزل هدفه بجملة واحدة هي: ((وأدعوكم إلى الرضا من آل محمد(( (مقاتل الطالبين: 299؛ تاريخ الطبري 8: 194(].
وأصبحت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام( الدامية اليوم رمزاً عند الشيعة لمقاومة أي نوع من أنواع الاستبداد والظلم والجور، وباتت شعارات ((هيهات منا الذلّة(( و ((أن الحياة عقيدة وجهاد(( وغيرهما مما هو مُستلّ من تاريخ كربلاء الدامي تعيننا على مواجهة السلطات الظالمة، والوقوف أمامها، للخلاص من الظالمين إقتداء بسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام( وصحبه، (وقد رفعت الثورة الإسلامية في إيران هذه الشعارات أيضاً في مواجهة الظلم والاستكبار(.
وبخلاصة نقول: إن تخليد ذكرى شهداء الإسلام، ولا سيّما شهداء كربلاء يجدّد ويحيي فينا روح الحماسة والإيثار والشهادة والتضحية في سبيل العقيدة والإيمان، ويعطينا دروساً مهمّة في الشموخ والعزّ وعدم الخضوع للظلم، مما يبيّن فلسفة إحياء هذه الذكرى وتجديد مراسم العزاء كلّ عام.
وربّما لا يعلم الكثير عمّا يجري في هذه المراسم، ويتصور أنها تتعلق بحدث تاريخي قد علاه غبار النسيان منذ مدّة طويلة، إلاّ أنّنا نعي جيداً ما تركته وما تتركه هذه الشاعر من تأثير في تاريخنا الماضي والحاضر والمستقبل.
ولا يخفى على أحد شعائرنا التي أقامها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( والمسلمون في صدر الإسلام على حمزة سيد الشهداء بعد غزوة أُحُد، حيث ذكرتها جميع التواريخ المشهورة، وخلاصة الرواية أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( كان يمر قرب أحد بيوت الأنصار فسمع أصوات البكاء والنحيب، فاغرورقت عيناه بالدموع وقال: ولكن حمزة لا بواكي له، فسمع سعد بن معاذ ذلك وأسرع إلى بني عبد الأشهل وأمر نساءهم بالتوجه إلى بيت حمزة عمّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم( وإقامة العزاء له. [ الكامل لبن الأثير 2: 163؛ سيرة ابن هشام 3: 104].
وبطبيعة الحال فإنّ إقامة العزاء لا تختص بحمزة (رضي الله عنه(فقط، وإنّما يجب أن تقام هذه المراسم لجميع الشهداء، لحفظ ما حقّقوه للأجيال اللاحقة، وبثّ دماء جديدة في عروق الأمّة، ومن الطريف أنّه تزامن كتابة هذه السطور يوم عاشوراء (العاشر من محرم الحرام( سنة 1417 للهجرة، حيث تجتاح العالم الإسلامي موجة من الغليان، ويتشح بالسواد شيباً وشباناً رجالاً ونساءً، للمشاركة في عزاء الإمام الحسين (عليه السلام( وشهداء كربلاء؛ ويحصل تحوّل عميق في أرواح وأفكار الجميع بحيث لو طلب منهم التوجه لمحاربة أعداء الإسلام، لما توانوا لحظة واحدة ولحملوا السلاح واتجهوا إلى ميادين الجهاد للتضحية بأغلى ما يملكون، وكأنّ دماء الشهادة تجري في عروقهم، وكأنّهم يرون الإمام الحسين وصحبه يجندلون في ميادين التضحية من أجل الإسلام وفي سبيل الله.
أما الأشعار الحماسية التي تتلى في هذه المراسم العظيمة، فهي مليئة بالمعاني الحيّة التي تدعوا إلى مقارعة الاستعمار والاستكبار وعدم الاستسلام للظلم وترجيح الموت بعزّ على الحياة بذلّ.
إنّنا نعتقد أن هذه الشعائر تُعتبر كنزاً عظيماً يجب أن يُحفظ ليُستثمر في إحياء الإسلام والإيمان والتقوى.
73- الزواج المؤقّت:
إنّنا نعتقد أن الزواج المؤقت أمر مشروع عُرف في الفقه الإسلامي بـ ((المتعة((؛ وعليه فإنّ الزواج على نوعين: زواج دائم غير محدّد الفترة، وزواج مؤقت تعيّن مدته باتفاق الطرفين.
ويماثل هذا الزواج الزواج الدائم في الكثير من الأمور، منها المهر، وعدم وجود مانع لدى المرأة، والأحكام المرتبطة بالأولاد، والعدّة بعد الانفصال؛ وبتعبير آخر: إنّ العقد المؤقّت ((المتعة(( هو نوع من الزواج بكل ما يحتويه من خصائص؛ وبالطبع فإنّ هناك بعض التباين بين العقد المؤقّت والعقد الدائم، ومنها عدم وجوب إنفاق الرجل على المرأة في العقد المؤقّت، ولا يرث كل زوج من الآخر (ولكن أبناءهما يرثون من الأبوين ويرث بعضهم بعضاً(.
ومهما يكن من أمر فإنّنا اعتمدنا القرآن المجيد في تحليل المتعة في قوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة( [النساء/ 24].
وقد صرّح الكثير من المحدّثين وكبار المفسّرين بأنّ هذه الآية تخصّ الزواج المؤقّت، ووردت روايات كثيرة في تفسير الطبري في ذيل الآية، وكلّها تبين أنّها تتعلق بالزواج المؤقّت، وشهد على ذلك جمع كبير من الصحابة. [تفسير الطبري 5: 9].
كما تلاحظ روايات كثيرة في هذا المجال في تفسير الدرّ المنثور وسنن البيهقي. [الدر المنثور 2: 140؛ وســنن البيهقي 7: 206].
وفي صحيح البخاري ومسند أحمد وصحيح مسلم ومصادر كثيرة أخرى وردي أحاديث تدلّ على وجود الزواج المؤقّت في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم(، وأحاديث أخرى مخالفة. [مسند أحمد 4: 436؛ وصحيح البخاري 7: 16 وصحيح مسلم 2: 1022 تحت عنوان: باب نكاح المتعة].
ويعتقد عدد من فقهاء أهل السنّة أن نكاح المتعة كان مشرَّعاّ في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( ثم نُسخ هذا الحكم، في حين يقول آخرون أن عمر نسخه أواخر عمره، واستدلّوا لذلك بما ورد عن عمر من قوله: ((متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم( وأنا محرمهما ومعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج((. [ورد هذا الحديث بهذه الصورة، أو بعبارات قريبة من هذا المعنى في سنن البيهقي 7: 206 والكثير من الكتب الأخرى: وقد نقل صاحب الغدير خمسة وعشرين حديثاً من كتب الصحاح ومسانيدها تدل على حليّة المتعة في الشريعة الإسلامية وأنها كانت شائعة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( والخليفة الأول، ومدّة من خلافة عمر، ثم نهى عنها عمر أواخر عمره (الغدير 3: 332(].
على أيّة حال
إنّنا نعتقد أن الزواج المؤقّت يلبّي -لو لم يُسأْ استخدامه - جانباً من الضروريات الاجتماعية، لا سيما بالنسبة للشبان الذين لا تتيح لهم الظروف إمكانية الزواج الدائم، أو المسافرين الذين تدفعهم ظروف التجارة أو الدراسة أو غيرها للابتعاد عن أسرهم مدّةً من الزمن، أو لحالاتٍ مماثلة أخرى؛ وتحريم هذا الزواج يفتح الطريق واسعاً أمام ارتكاب الزنا والفحشاء،وخاصة في عصرنا الحاضر حيث ارتفع سنّ الزواج الدائم لأسباب مختلفة، وكثرت العوامل المثيرة للشهوات؛ فإذا أغلق طريق الزواج المؤقّت فسيفتح -دون شك - سبيل الفحشاء.
نكرّر ونقول هنا: أنّنا نعارض بشدّة أي استغلال سيء لهذا الحكم الإسلامي، وجعله ذريعة بيد عباد الأهواء والشهوات وجرّ النساء إلى مستنقع الفساد والرذيلة؛ لكن استغلال بعضهم لهذا القانون يجب ألاّ يصبح ذريعة لمنعه تماماً، بل ينبغي الوقوف أمام الاستغلال السيء له.
74- تاريخ التشيع:
إنّنا نعتقد أنّ التشيّع ظهر منذ عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( وعلى لسانه الشريف، وأمامنا وثائق واضحة تؤكّد هذا الأمر، منها ما ورد في تفسير الآية الكريمة: (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية(، إذ روى الكثير من المفسّرين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( أن المراد بهذه الآية عليّ وشيعته.
ومنها ما نقله المفسر المعروف ((السيوطي(( في الدرّ المنثور عن ابن عساكر عن جابر بن عبدالله قال: ((كنّا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( فأقبل علي فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم(: والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ونزلت (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية(، فكان أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( إذا أقبل عليّ قالوا: ((جاء خير البرية((. [الدر المنثور 6: 379].
وأورده بهذا المعنى مع اختلاف طفيف ابن عباس وأبو برزة وابن مردويه وعطية العوفي. [ للمزيد من الإطلاع راجع: بيام قرآن= (من وحي القرآن( 9: 259 فما بعد].
إذاً، فإطلاق اسم ((الشيعة(( على الموالين لعلي (عليه السلام( جرى منذ عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم( وعلى لسانه، وليس في عصر الخلفاء أو العهد الصفوي أو غير ذلك.
إنّنا مع احترامنا للفرق الإسلامية الأخرى. حيث نصلّي معها في صف واحد ونحجّ معاً في موسم واحد ومكان واحد، ونتعاون من أجل تحقيق الأهداف الإسلامية المشتركة؛ نعتقد بأن شيعة علي (عليه السلام( يمتازون بخصائص معيّنه، وكانوا موضع عناية خاصة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم(، ولهذا اخترناه على غيره من المذاهب.
ويصرّ بعض المناوئين للشيعة على إيجاد ارتباط بين هذا المذهب وبين عبدالله بن سبأ، ويزعمون أنّ الشيعة يتّبعون هذا الرجل الذي كان يهودياً في أصله، وهذا كلام يبعث على الاستغراب؛ لأن الشيعة لا تكنّ لهذا الرجل أدنى ودّ، وتعتبر كتب الرجال لدى الشيعة أنه منحرف ضال، بل تقول بعض رواياتنا أنّ علياً (عليه السلام( أمر بقتله بسبب ارتداده. [تنقيح المقال في علم الرجال، مادة عبدالله بن سبأ، وسائر الكتب الرجالية الشيعية الشهيرة].
هذا على أن ثمة علامة استفهام أمام الوجود التاريخي لمثل هذا الشخص، فبعض المحقّقين يعتقد بأن شخصيته مجرد أسطورة لا وجود لها [كتاب عبدالله بن سبأ للعلامة العسكري]. ومهما يكن فإنّنا نعتقد أن هذا الرجل إن لم يكن أسطورة فهو ضالّ منحرف قطعاً كما نطقت به كتبنا.
75- جغرافيا المذهب الشيعي:
من المهمّ أن نذكر هنا أن بلاد فارس لم تكن مركزاً للشيعة دائماً، بل استقرّ الشيعة منذ القرون الإسلامية الأولى في الكوفة واليمن والمدينة حتى بلاد الشام، رغم الدعاية المضللة لبني أميّة، مع أن الوجود الشيعي في العراق كان أوسع من غيره.
كما احتضنت أرض مصر الشيعة، وحكمها رجال من الشيعة في العهد الفاطمي. [حينما تعرض الشيعة في الشام إلى ضغوط شديدة من بني أميّة، واستمرت هذه الضغوط في العصر العباسي بحيث ألقي الكثير منهم في غياهب سجون العهدين ولقوا حتوفهم فيها، اتجهت طوائف من الشيعة نحو جهة المشرق، ووجّهت طوائف أخرى وجهها نحو المغرب، ومن جملة من ذهب إلى مصر إدريس بن عبدالله بن الحسن، ثم هاجر إلى المغرب، وكوّن هناك دولة الأدارسة أواخر القرن الهجري الثاني، واستمرت حتى أواخر القرن الرابع حيث تأسّست في مصر دولة شيعية أخرى بعد أن كانت الأرضية الشعبية جاهزة لإقامة مثل هذا الحكم.
ويعتبر الفاطميون أنفسهم من ذرية الإمام الحسين (عليه السلام( ومن أولاد فاطمة الزهراء (عليها السلام( ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم(، وبدأ حكمهم رسمياً في القرن الهجري الرابع، وقد بنى الفاطميون الذين حكم منهم أربعة عشر شخصاً، عشرة منهم في مصر، مدينة القاهرة والجامع الأزهر، واسمهم مشتق من اسم فاطمة الزهراء (عليها السلام( (موسوعة دهخدا، دائرة المعارف فريد وجدي، المنجد في اللغة والأعلام في مادتي فطم وزهر(].
وينتشر الشيعة في مناطق عديدة من العالم، ومنها السعودية، حيث يقطن عدد كبير من الشيعة في المنطقة الشرقية، وتربطهم علاقات جيدة مع سائر الفرق الإسلامية، رغم أن أعداء الإسلام لم يتوانوا لحظة واحدة في بثّ بذور العداء وسوء الظن وتأجيج نيران الخلاف بين المسلمين الشيعة والمنتمين إلى الفرق الأخرى، بهدف تضعيف كلّ الفرق والحط من شأنها وبخاصة في عصرنا الحاضر حيث أصبح الإسلام قوة عظيمة انتصبت بوجه الغرب والشرق تدعو إليها شعوب العالم التي أصابها اليأس من الحضارة المادية، فاختار العدو طريق تأجيج الفتن الطائفية لتحطيم قدرة المسلمين المتنامية وكبح جماح هذا الدين الذي راح يكتسح العالم بكلّ قوة؛ فإذا وعى المسلمون على اختلاف طوائفهم هذه المؤامرة الخطيرة استطاعوا الخلاص من نتائجها وتلافي آثارها المدمّرة.
ورغم غياب إحصاء دقيق لعدد الشيعة في العالم ونسبتهم إلى سائر المسلمين، إلاّ أن عددهم يتراوح - وفقاً لبعض الإحصائيات - بين مئتين وثلاثمائة مليون نسمة أي ما يساوي تقريباً ربع عدد المسلمين في العالم.
76- تراث أهل البيت (عليهم السلام(:
يروي أتباع المذهب الشيعي أحاديث كثيرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم( بطريق أئمة أهل البيت (عليهم السلام(، كما أنّ لديهم تراثاً روائياً ضخماً عن الإمام علي (عليه السلام( وبقية الأئمة (عليهم السلام(؛ بحيث بات هذا التراث المصدر الأساسي للمعارف والفقه - لدى الشيعة - بعد كتاب الله والسنّة النبوية، ومنها الكتب الأربعة المعروفة: الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار؛ ومن الضروري هنا أن نكرر ونقول: إن وجود حديث معيّن في أحد هذه المصادر المعروفة أو الكتب المعتبرة الأخرى لا يدلّ بحال من الأحوال أن الحديث يرقى إلى درجة الاعتبار، بل إنّ لكل حديث سلسلة سند لا بدّ من دراسة رجالها واحداً فواحداً، فإذا كانوا من الثقاة المعتمدين اعتبرنا الحديث صحيحاً، وبدون ذلك فإنه يدخل ضمن الأحاديث المشكوكة أو الضعيفة، وهذه مهمّة يتعهدها أصحاب الاختصاص وعلماء الحديث والرجال.
وبهذا يتّضح أن جمع الحديث لدى الشيعة يختلف عنه لدى أهل السنّة؛ حيث أن الأساس في الكتب المعروفة بالصحاح لا سيّما صحيح البخاري وصحيح مسلم، هو جمع الأحاديث التي تحظى بدرجة الصحة والاعتبار لدى مؤلّفي هذه المصادر، ولهذا يمكن الاستناد على أيّ من هذه الأحاديث لفهم معتقدات أهل السنّة [راجع مقدمة صحيح مسلم، وفتح الباري في شرح صحيح البخاري] في حين تركّز سعي المحدثين الشيعة إلى جمع كل الأحاديث المنسوبة إلى أهل البيت (عليهم السلام(، تاركين مسئولية فرز الصحيح عن غيره إلى علماء الرجال.
77- كتابان عظيمان:
من المصادر المهمّة الأخرى التي تعتبر تراثاً عظيماً للشيعة، كتاب ((نهج البلاغة(( الذي نظّمه الشريف الرضي قبل نحو ألف عام على ثلاثة أقسام: خطب الإمام علي (عليه السلام( ورسائله وكلماته القصار؛ وهو كتاب رفيع المستوى جميل اللفظ جزل الأسلوب، ومن يقرأه فلا بدّ أن يتأثر بمحتواه المرموق مهما كان دينه أو مذهبه، وليته أصبح بمتناول غير المسلمين أيضاً ليطّلعوا من خلاله على المعارف الإسلامية السامية في التوحيد والمبدأ والمعاد والمسائل السياسية والأخلاقية والاجتماعية.
ومن التراث المهمّ أيضاً، كتاب ((الصحيفة السجادية(( الذي يضمّ مجموعة من أفضل وأفصح وأجمل الأدعية والابتهالات إلى الله سبحانه بمضامين عالية وعميقة، التي تفعل - في الحقيقة - فعل نهج البلاغة ولكن بأسلوب مختلف، وتعلّم الإنسان جملة فجملة دروساً جديدة، وتدلّه على كيفية الدعاء والمناجاة مع الله عزّ وجلّ، وتشعّ على روح الإنسان نوراً وتهبه صفاءً خالصاً.
وتشمل هذه المجموعة كما هو واضح من عنوانها أدعية الإمام الرابع للشيعة وهو عليّ بن الحسين (ع( بن علي بن أبي طالب (ع(، المعروف بالسجاد (عليه السلام(، ونحن نلتجئ إلى هذه الأدعية متى ما أردنا التوغّل إلى أعماق الدعاء والتضرع إلى الله تبارك وتعالى بروح ملؤها الحب والعشق لذاته المقدسة؛ لنرتوي منها كما يرتوي الزرع من مطر الربيع.
78- تسمية الشيعة بالجعفرية:
إن معظم أحاديث المسلمين الشيعة التي تصل إلى عشرات الآلاف مروية عن الإمامين الخامس والسادس، أي محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق (عليهم السلام(، كما روى جزءً مهماً منها الإمام الثامن علي بن موسى الرضا (عليه السلام(؛ وذلك لأن الظروف التي عاشها هؤلاء الأئمة الثلاثة قلّت فيها الضغوط الأموية والعباسية، مما أتاح لهم نقل أحاديث كثيرة عن آبائهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم( في جميع أبواب المعارف وأحكام الفقه الإسلامي؛ ولم يطلق على المذهب الشيعي اسم المذهب الجعفري إلاّ لأن معظم الأحاديث لدى الشيعة مروية عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام( الذي عاش في فترة انتقالية بين الحكمين الأموي والعباسي قلّت فيهما الضغوط على الشيعة، ومن المعروف أنّ الإمام الصادق (عليه السلام( خرّج أربعة آلاف تلميذ في الحديث والمعارف والفقه، وقد وصفه إمام الحنفية (أبو حنيفة( بجملة قصيرة قال فيها: ((ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد(( [تذكرة الحافظ للذهبي 1: 166].
كما قال عنه الإمام مالك بن أنس: ((اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلاّ على ثلاث خصال: إما مصلّ وإما صائم وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يحدّث إلاّ على طهارة(( [تهذيب التهذيب 2: 104].
وهناك الكثير من الشهادات من قبل علماء الإسلام بحقّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام( مما لا يسع المجال هنا لذكرها.
79- دور الشيعة في ازدهار العلوم الإسلامية:
إنّنا نعتقد أنّ الشيعة أدّوا دوراً مؤثراً في ظهور العلوم الإسلامية وتطوّرها، ويرى بعض الباحثين أنّهم مصدر العلوم الإسلامية، وألّفوا في ذلك كتباً وثائقية تؤكد هذا الرأي؛ إلاّ أنّنا نقول : أنّ دورهم الفعّال لا ينكر في ظهور هذه العلوم على الأقل، تشهد بذلك الكتب التي دوّنها علماء الشيعة في مختلف العلوم الإسلامية، وبلغت الآلاف في الفقه والأصول وبعضه ممّا لا مثيل له، والآلاف في التفسير والعلوم القرآنية، والآلاف في العقائد وعلم الكلام، والآلاف في العلوم الأخرى، ولازال الكثير من هذه الكتب تحتفظ به مكتباتنا والمكتبات المعروفة في العالم للمطبوعات والمخطوطات يمكن مراجعتها للتحقّق من صدق ما نقول؛ وقد قام أحد علماء الشيعة المعروفين بفهرسة هذه الكتب، وبلغ مجموع فهارس هذه الكتب 26 مجلداً كبيراً.
[1] يستفاد من بعض الآيات القرآنية أن كرسيه تعالى يسع جميع السماوات والأرض؛ وعليه فإن عرشه يستوي على كل العالم المادي: (وسع كرسيه السماوات والأرض) البقرة/255.
[2] هذه عبارة معروفة، نقلها ابن عباس، ولكن جاءت بشكل آخر في نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (إن الكتاب يصدق بعضه بعضا…) نهج البلاغة/الخطبة 18، وورد في الخطبة 103 من النهج أيضاً: (وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض).
[3] نهج البلاغة/الخطبة 179.
[4] أصول الكافي1: 160 (باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين).
[5] بحار الأنوار 68: 23.
[6] بحار الأنوار 66: 293
[7] نهج البلاغة، خ49
[8] نقل الشيخ المجلسي هذه العبارة في كتابه بحار الأنوار عن بعض المعصومين دون أن يذكر اسمه (البحار 25: 205)
[9] تفسير القرطبي 9: 6162.
[10] بحار الأنوار 2: 280، الحديث 44.
[11] ورد في بعض التواريخ أن المأمون أصدر حكما خلع فيه كل صاحب منصب حكومي لا يؤمن بخلق القرآن، ورفض شهادته في المحاكم(تاريخ جمع القرآن الكريم: 260)
[12] كتبنا بحوثاً واسعة في التفسير وفي أصول الفقه حول عدم التحريف.
(راجع أنوار الأصول، وتفسير الأمثل).
[13] الوسائل 18: 28، الحديث 22.
[14] مناع خليل القطان/مباحث في علوم القرآن: 304.
[15] نهج البلاغة: الخطبة 210.
[16] صحيح البخاري 1:38، باب اسم من كذب على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
[17] صحيح الترمذي 5: 662، باب مناقب أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، الحديث 3786، وسنتطرق بشكل أكثر تفصيلاً إلى الأسانيد المتعددة لهذا الحديث في بحث الإمامة من هذا الكتاب.
[18] نهج البلاغة، الكلمات القصار: 131.
[19] كآيات سورة يس: 51 و52؛ والقمر: 7، والمعارج: 43.
[20] ورد هذا الحديث في كتب محدثين معروفين أمثال البخاري ومسلم، ومفسرين مشهورين كالطبري والآلوسي والقرطبي.
[21] روي هذا الحديث باختلاف طفيف في المصادر المعتمدة عند المسلمين، مثل: كنز العمال، الحديث 36، 39، وتفسير القرطبي 6: 4175، في ذيل الآية 71 من سورة مريم، والصدوق في أماليه عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام. ويلحظ في صحيح البخاري باب تحت عنوان: الصراط جسر جهنم (صحيح البخاري 8: 146).
[22] البحار 8: 42.
[23] كنز العمال 14: 390، الحديث 39041.
[24] البحار 8: 56، الحديث 66.
[25] صحيحة الترمذي 4، كتاب صفة القيامة، الباب 26، الحديث 2460 ونقل هذا الحديث في المصادر الشيعية عن الإمام على عليه السلام تارة، وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام تارة أخرى (البحار 6: 214 و218).
[26] تفسير العياشي، ذيل الآية 7 من سورة التوبة، نقلاً عن الجزء التاسع من الميزان في تفسير القرآن للطباطبائي.
|
|
|
|
|