يتسبب الجهاز العصبي للإنسان وكنتيجة طبيعية للألم النفسي أو الفكري في نشوء ردة فعل نفسية يخرج بها الإنسان عن وضعه الافتراضي المعتاد إلى حال مغاير يتسم بالقلق وبعلو الصوت والخروج عن المألوف، فيما نسمي هذا الحالة في قاموسنا اللغوي والفكري بحالة الغضب، ورغم أنها حالة رد فعل إلا أن العقل القديم ورؤية الماضي قد تجتر الإنسان لصناعة هذه الردة في كينونتة ، بمعنى أنه لاغضب –معتاد-إلا باستعادة الذاكرة لصورة الذات والآخر القديمة، ومن الطبيعي وبعد حضور العقل الحديث أن يعمل على تأكيد أو علاج ترسبات العقل القديم في الإدراك، فيقوم -وتِبعاً للإرادة -بنزع صورة الماضي إما عبر التجارب أو بشهادة معكوس مغاير لما نشأ عليه.
هذه المقدمة طرحتها كمُدخل-موجز- لمحاولة رصد حالة الغضب منذ نشأتها إلى زوالها،ورغم ذلك أسلم بأن سلطة العقل القديم قد تنتصر في النهاية كانعكاس للمحيط ،وأظن أن هذه الحالة متوفرة بكثرة في المجتمعات العربية، وغالباً ما تنتصر في حالات الذوبان الوجداني في كيان الآخر ولو كان من غير الجنس وهذه مشكلة فكرية، أيضاً وإذا ما طرحنا دور الرأي العام كمؤثر فسنرى خيطاً عبارة عن توصيات يحمل في مُجمله جدلية الماضي والحاضر في الذاكرة،لذلك وفي حال هزيمة هذا العقل قد تغلب روح التجديد الشعوري والوجداني في النفس البشرية فيما لو كان دور الرأي العام قد أخذ شكل السلطة المعنوية التي تدفع باتجاهات الناس نحو تفسير الأشياء وبناء الرؤى.
من هذه السلطة المعنوية أتلمس مشروعاً لبناء ثقافة .."الغضب الرحيم".. عند من يغضب، وأتذكر أنني وفي مقال قديم بعنوان..."نظرات في الحسد وعلاجه"..رأيت أن من طُرق علاج هذه الآفة هي المدح ولو كان في غير محله، وكي لا يفسر أحداً هذا الأمر برغبة المدح الدائم المؤدي إلى فساد المجتمعات بإعلاء الطالح فهذا غير صحيح، فالمدح ولو بكلمة قد تصنع أشياءاً في أنفس الناس تُخرجهم من حالات الضياع إلى الإحساس بالأمان، كمن يريد علاج المريض النفسي بطمأنته وبناء ثقته في نفسه، وهذه نقطة هامة إذ تعزل العقل القديم عن الحديث برباط التغير المرئي.
نحن لا ندعو للغضب ولكن ندعو للرحمة حين الغضب...والإنسان لن يكون رحيماً إلا بالإستيعاب، وكي يستوعب الإنسان الآخر والعالم عليه أن يستوعب نفسه أولاً بأن لا تضيق خياراته إما هذا وإما ذاك، بل يجب عليه أن يصنع خياراته بنفسه ويعمل على تعددها، هكذا سيرى حلولاً في الأفق، فما من عقل ضاقت خياراته إلا وسلك سلوك الهدم، فاشتبهت عليه الرذائل والفضائل وأصبح كلاهما لديه مبررا، فألغى بنفسه خصوصياته وترك ذاته فريسه للعامل الخارجي.
لا يمكن عزل الإنسان عن محيطه الثقافي والجغرافي، فمع امتلاكه لإرادته إلا أنه أسير مجتمعه بمعنى أنه غير قادر على العيش بدون مجتمع، وبما أن المجتمع وأدواته يمثلان العامل الخارجي لذا فتأثير العامل الخارجي عليه في الغالب ما يكون قوياً، ونحن الآن في عصر الاتصالات وأصبحت المعلومة ومصدرها هي أهم مكون للعامل –المؤثر- الخارجي......بهذه الرؤية أكاد أقترب من رؤية هيجل التي ربط فيها معرفته بالأنا عبر معرفته بالغير وبانفتاحه على مجتمعه، ولكن تظل معرفة الغير إشكالية كما طرح مالبرانش، فالفرد يعجز عن معرفة الغير معرفة كلية كما في المثل المصري الدارج الذي يُلزم معرفة الغير بشرط طول ملازمته.
لذلك أقول بأن من أهم الوسائل التي تعين الفرد على تعدد خياراته هو لجوئه لتطوير معرفته، حتى الثقافة الإسلامية لا تخلو من التأكيد على هذا الطرح ..وبهذه المناسبة أستحضر قول الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان الذي قال بأن أعلم الناس هو أعلمهم باختلاف الناس، أكيد هذا الرجل العالم تعددت خياراته وبصر بروحه وعقله لتميز معرفته... ومع ذلك فمعرفة الغير لا تحيل على من افتقد شرط الملازمة، فقط يكفيه السعي نحو الفضائل وصُنع المزيد منها في قراراته المتعددة، وبهذا سيجلب له الباحث عن القيم مما يجعل صداقتهما نقية ومتجذرة لا منفعة فيها بما يُسهّل عملية المعرفة، وفي النهاية سيرى لديه أغلبية الناس أصبحوا أصدقاءاً فالبشر بفطرتهم باحثون عن القيم.
يظن الحمقى أنهم وبشدتهم أو تطاولهم قد قطعوا دابر مخالفيهم، ولا يدرون أن البعض منهم ترفعوا احتراماً لذواتهم، أعتقد أن إشكالية عموم وخصوص التفكير هي حجر الأساس في كل خلاف شابته النسبية، بمعنى أن الأحمق قد يخلط ما بين تفكيره الخاص في الدين بحمله على العام وبين سلطته.."المزعومة"..في حمل الآخر على طريقة التفكير ذاتها..إذ أنه ومن المسلم به أن طرائق الفكر لها عموم يتفق عليها الناس حسب ثقافتهم، ولها أيضاً خصوص لا تتشابه بحال مع أفكار الآخرين وبينهما درجات يتدرج فيها التفكير صعوداً وهبوطاً ما بين العموم والخصوص.
ولكن مع هذا يجب مراعاة الصنف المتحامل والذي اختلطت عليه الأمور إما بعُذره بالجهل أو عذره بالفُرص، وإن كان العُذر بالفرص هذا لا يقنع البعض ولكني مقتنع به لأسباب وجدانية قد تحمل البعض على الرجوع ودونه الجهل، نختلف في عدد الفرص ولكن المبدأ ذاته سديد..مثال على ذلك ما وقع بين صديقين من خلاف فشاب أحدهما التعنت والحِدّة ولكن ظل معدنه نقياً بحاجة لاستثارة عاطفية أو علمية أوغرائزية للعودة، فكل جوهر ثابت وما شابه من عوارض لا يحمله على التغير.. بمعنى أن العارض حادث ولكن الجوهر قديم قِدم النفس الحادثة.. فيما لو كانت قراءة الجوهر بأصلها خاطئة وهذا محتمل...أما في حال الجهل بالآخر لدى أحد الأطراف أو كليهما فالعُذر مبدأي لعدم المعرفة الكلية أو لصعوبتها، وعدد الفرص متروك لكل حالة وظرفها..لكن عموماً يغلب على الإنسان الحذر في تلك الحالات مما يقلل من فرص الخلاف وإن حضر فسيكون بصورة مقبولة نوعاً ما.
أيضاً إذا كان نفس الشخص شكاكاً وكما حملنا علاج ترسبات العقل القديم في الإدراك على الإرادة فالشك ذاته يتعلق بالإرادة، أنا شخصياً أمارس الشك ولكن لا أسلم نفسي له كي لا يقتل الإنسان الذي بداخلي، فأقوم وعلى الفور بتعيين الهدف والفعل بسرعة إما هذا وإما ذاك، وما يتلقفه حدسي من معلومات يقيني من أي سوء تجاه نفسي أو من يخالفني في طريقة الفكر، بتبسيط مخل ..مثال.. هذه المرأة التي تحتار في سلوك زوجها فتقع في الشك رغماً عنها ولكن وفور تغليب إرادتها لتحرير الإشكال فتسارع بمصارحة زوجها بما تُكنّه وتشعر به فيقوم الزوج بتوضيح ما اشتُبه عليها فيطمئن قلبها، أما في حال ضعف إرادتها وتسليمها للشك فيقتل الإنسان الرحيم الذي بداخلها، وتِبعاً لتراكم المشاكل تتعاظم في نفسها دوافع الرفض فيُخيل إليها صورة زوجها على غير حقيقتها..
إن الرحمة لا تعني الضعف بحال، وما حضر من مصاديق الضعف في أذهان الآخرين يقابله مصاديق قوة، فكما طرحنا عاليه بأن سلوك الإنسان هو الذي يصنع صورته.."مصداقه"..فعُذر الجهال والمتعنتين دلالته القوة المعنوية والأخلاقية، هذا لأن العُذر لذاته قيمة والإنسان بفطرته باحثٌ عن القيم، قد يحدث اصطفاف وما يتبعه من استقطاب من جراء هذه السياسة ولكن هذا شئ طبيعي، فسُنة الله في الكون تدافعية ولا يظن الإنسانٌ للحظة أن بقائه مرهون برضا الآخرين وإلا لم يكن الله ليبعث الأنبياء .