إِن كان الله قد تَكَفَّل بالرزق فاهتمامك لماذا ؟ وإِن كان الرزق مَقسُوماً فالحِرصُ لماذا ؟ وإِن كان الحِسَاب حقاً فالجَمْعُ لماذا ؟ وإِن كان الثواب عند الله حقاً فالكسَل لماذا ؟ وإِن كان الخلف من الله عزَّ وجلَّ حقاً فالبُخل لماذا ؟ وإِن كان العقوبة من الله عزَّ وجلَّ النار فالمعصية لماذا ؟ وإِن كان الموت حقاً فالفرح لماذا ؟ وإِن كان العرض على الله حقاً فالمكر لماذا ؟ وإِن كان الشيطان عدوّاً فالغفلة لماذا ؟ وإِن كان المَمَرُّ على الصراط حقاً فالعجب لماذا ؟ وإِن كان كل شيء بقضاء وقدر فالحزن لماذا ؟ وإِن كانت الدنيا فانية فالطمأنِينَة إليها لماذا ؟ .
الموعظة الثانية :قوله ( عليه السلام ) :
إِنَّكم في آجال مَقبوضَة ، وَأيَّام معدودة ، والموت يأتي بَغتةً ، من يزرعُ خيراً يحصد غِبطَةً ، ومن يزرعُ شَرّاً يحصد نَدامَة ، ولِكُلِّ زارعٍ زرعٌ ، لا يسبق البطيءُ منكم حَظَّهُ ، ولا يدرك حريصٌ ما لم يُقَدَّرُ لَهُ ، من أُعطِي خيراً فاللهُ أعطاه ، ومن وُقِي شراً فاللهُ وَقَاه .
الموعظة الثالثة : قوله ( عليه السلام ) :
تأخِيرُ التوبةِ اغترار ، وطُول التَسويفِ حِيرَة ، والاعِتِلال على اللهِ هَلَكَة ، والإصرار على الذنبِ أمْنٌ لِمَكر الله ، ولا يَأمَنُ مَكرَ الله إِلا القوم الخَاسِرُون .
فقال ( عليه السلام ) : إِذَا كان ذلك منكَ ، فاذكُرِ المَوتَ وَوِحْدَتَك في قَبرِك ، وَسَيَلان عينيكَ عَلى خَدَّيك ، وَتَقَطُّعَ أوصالِك ، وأكلَ الدُّودِ من لحمِك ، وبلاك وانقطاعَكَ عن الدنيا ، فإن ذلك يحثُّك على العَمَل ، ويَردَعُك عن كثيرٍ من الحِرصِ عَلى الدنيا .
الموعظة السادسة :قوله ( عليه السلام ) :
لَيسَ من أحدٍ وإِن ساعَدَتْهُ الأُمورُ بِمُستَخْلص غضارة عيش إِلا من خِلال مكروه ، وَمن انتظر بمعاجَلةِ الفرصةِ مُؤَاجَلَة الاستقصاء سَلَبَتْهُ الأيامُ فرصتَهَ ، لأنَّ من شأن الأيام السلب ، وَسَبيل الزمن الفَوتُ .
الموعظة السابعة :قوله ( عليه السلام) :
إِنَّ المُنَافِقَ لا يرغبُ فيما سُعدَ به المؤمنون ، فالسعِيد يَتَّعِظُ بموعظة التقوَى ، وإِن كانَ يُرادُ بالمَوعِظَةِ غَيره .
مناظرة الإمام الصادق ( عليه السلام ) مع الزنديق حول التوحيد
عن هشام بن الحكم ، قال : كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) أشياء ، فخرج إلى المدينة ليناظره ، فلم يصادفه بها ، وقيل : إِنّه خارج بمكّة ، فخرج إلى مكّة ونحن مع أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، فصادفنا ونحن في الطواف ، وكان اسمه عبد الملك ، وكنيته أبو عبد الله .
فضرب كتفه كتف الإمام ( عليه السلام ) ، فقال له : ( ما اسمك ؟ ) قال : عبد الملك ، قال : ( فما كنيتك ؟ ) قال : أبو عبد الله ، فقال ( عليه السلام ) : ( فمن هذا الملك الذي أنت عبده ؟ أمن ملوك الأرض أم ملوك السماء ؟ وأخبرني عن ابنك عبد إِله السماء أم عبد إِله الأرض ؟ قل ما شئت تخصم ) ، فلم يحر جواباً .
ثمّ أنّ الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال له : ( إذا فرغت من الطواف فأتنا ) ، فلمّا فرغ ( عليه السلام ) أتاه الزنديق ، فقعد بين يديه ونحن مجتمعون عنده ( عليه السلام ) ، فقال أبو عبد الله للزنديق : ( أتعلم أنّ للأرض تحتاً وفوقاً ؟ ) .
قال : نعم ، قال : ( فدخلت تحتها ؟ ) قال : لا ، قال : ( فما يدريك ما تحتها ؟ ) قال : لا أدري إِلاّ أنّي أظن أن ليس تحتها شيء ، فقال ( عليه السلام ) : ( فالظنّ عجز فلِم لا تستيقن ) ، ثمّ قال ( عليه السلام ) : ( أفصعدت إلى السماء ؟ ) قال : لا ، قال : ( أفتدري ما فيها ؟ ) قال : لا .
قال : ( عجباً لك لم تبلغ المشرق ، ولم تبلغ المغرب ، ولم تنزل إلى الأرض ، ولم تصعد إلى السماء ، ولم تجز هناك فتعرف ما خلفهنّ ، وأنت جاحد بما فيهنّ ، فهل يجحد العاقل ما لا يعرف ؟ ) ، قال الزنديق : ما كلّمني بها أحد غيرك ، فقال ( عليه السلام ) : ( فأنت من ذلك في شكّ فلعلّه هو ، ولعلّه ليس هو ) ، فقال الزنديق : ولعلّ ذلك .
فقال ( عليه السلام ) : ( أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم ، ولا حجّة للجاهل ، يا أخا أهل مصر تفهم عنّي ، فإنّا لا نشكّ في الله أبداً ، أمّا ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان ، قد اضطرّا ليس لهما مكان إِلاّ مكانهما ، فإنّ كانا يقدران على أن يذهبا فلِم يرجعان ؟ وإن كانا غير مضطرّين ، فلِم لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً ؟ اضطرّا والله يا أخا أهل مصر إلى دوامهما ، والذي اضطرّهما أحكم منهما وأكبر ) .
فقال الزنديق : صدقت ، ثمّ قال ( عليه السلام ) : ( يا أخا أهل مصر إِنّ الذي تذهبون إليه وتظنّون أنّه الدهر ، إِن كان الدهر يذهب بهم فلِم لا يردّهم ؟ وإِن كان يردّهم لِم لا يذهب بهم ؟ القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر ، لِم السماء مرفوعة والأرض موضوعة ؟ لِم لا تنحدر السماء على الأرض ؟ لِم لا تنحدر الأرض فوق طباقها ؟ ولا يتماسكان ولا يتماسك مَن عليها ؟ ) .
قال الزنديق : أمسكهما الله ربّهما سيّدهما ، قال : فآمن الزنديق على يدي الإمام ( عليه السلام ) ، فقال حمران بن أعين : جعلت فداك إِن آمنت الزنادقة على يدك فقد آمن الكفّار على يد أبيك ، فقال المؤمن الذي آمن على يدي الإمام ( عليه السلام ) : اجعلني من تلامذتك .
فقال ( عليه السلام ) : ( يا هشام بن الحكم خذه إليك ) ، فعلّمه هشام ، وكان معلّم أهل الشام وأهل مصر الإيمان ، وحسنت طهارته حتّى رضي بها ( عليه السلام ) .
وجاء إلى الإمام الصادق ( عليه السلام ) زنديق آخر ، وسأله عن أشياء نقتطف منها ما يلي : قال له : كيف يعبد الله الخلق ولم يروه ؟ قال ( عليه السلام ) : ( رأته القلوب بنور الإيمان ، وأثبتته العقول بيقظتها إِثبات العيان ، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإِحكام التأليف ، ثمّ الرسل وآياتها ، والكتب ومحكماتها ، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته ) .
قال : أليس هو قادر أن يظهر لهم حتّى يروه فيعرفونه فيُعبد على يقين ؟ قال ( عليه السلام ) : ( ليس للمحال جواب ) .
أقول : إِنّما الرؤية تثبت للأجسام ، وإِذا لم يكن تعالى جسماً استحالت رؤيته ، والمحال غير مقدور لا من جهة النقص في القدرة بل النقص في المقدور .
قال الزنديق : فمن أين أثبت أنبياءً ورسلاً ؟ قال ( عليه السلام ) : ( إِنّا لمّا أثبتنا أنَّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا ، وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا أن يلامسوه ، ولا أن يباشرهم ويباشروه ، ويحاجّهم ويحاجّوه ، ثبت أنّ له سفراء في خلقه وعباده ، يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم ، وفي تركه فناؤهم .
فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك أنّ لهم معبّرين ، وهم الأنبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين عنه ، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد ، من إِحياء الموتى ، وإِبراء الأكمة والأبرص ) .
ثمّ قال الزنديق : من أيّ شيء خلق الأشياء ؟ قال ( عليه السلام ) : ( من لا شيء ) ، فقال : كيف يجيء شيء من لا شيء ؟
قال ( عليه السلام ) : ( إِنّ الأشياء لا تخلو : إِمّا أن تكون خلقت من شيء ، أو من غير شيء ، فإن كانت خلقت من شيء كان معه ، فإنّ ذلك الشيء قديم ، والقديم لا يكون حديثاً ، ولا يتغيّر ، ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهراً واحداً ولوناً واحداً ، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة ، والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتّى ؟
ومن أين جاء الموت إِن كان الشيء الذي أُنشئت منه الأشياء حيّاً ؟ أو من أين جاءت الحياة إِن كان ذلك الشيء ميّتاً ؟ ولا يجوز أن يكون من حيّ وميّت قديمين لم يزالا ، لأنّ الحيّ لا يجيء منه ميّت ، وهو لم يزل حيّاً ، ولا يجوز أيضاً أن يكون الميّت قديماً لم يزل لما هو به من الموت ، لأنّ الميّت لا قدرة به ولا بقاء ) .
أقول : إِنّ هذا الأمر على دقّته قد أوضحه الإمام بأحسن بيان ، وردّده بين أُمور لا يجد العقل سلواها عند الترديد ، وحقّاً إِن كان الشيء الذي خلقت الأشياء منه قديماً لزم أن يكون مع الله تعالى شيء قديم غير مخلوق له ، ولو فرض أنّه مخلوق له عاد الكلام الأوّل ، أنّه من أيّ شيء كان مخلوقاً ؟ هذا غير أنّ القديم لا يكون حادثاً ، والميّت لا يكون منه الحي ، والحي لا يكون منه الميّت ، والحياة والممات لا يتركّبان ، ولو تركّبا عاد الكلام السابق .
فإنّ الموت لا يصلح أن يكون في الأشياء الحيّة ، ولا بقاء ولا دوام ليكون باقياً إِلى أن خلق الله منه الأشياء الحيّة ، فلا بدّ إِذن من أن يكون تعالى قد خلق الأشياء من لا شيء .
ثمّ قال الزنديق : من أين قالوا : إِنّ الأشياء أزلية ؟ قال : ( عليه السلام ) : ( هذه مقالة قوم جحدوا مدبّر الأشياء فكذّبوا الرسل ومقالتهم ، والأنبياء وما أنبأوا عنه ، وسمّوا كتبهم أساطير ، ووضعوا لأنفسهم ديناً بآرائهم واستحسانهم ، وإِنّ الأشياء تدلّ على حدوثها من دوران الفلك بما فيه ، وهي سبعة أفلاك ، وتحرّك الأرض ومن عليها ، وانقلاب الأزمنة ، واختلاف الحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان ، وموت وبلى ، واضطرار الأنفس إلى الإقرار بأنّ لها صانعاً ومدبّراً ، ألا ترى الحلو يصير حامضاً ، والعذاب مرّاً ، والجديد بالياً ، وكلّ إلى تغيّر وفناء ) .
أقول : إِنّ الاستدلال بانقلاب الأزمنة ودوران الفلك من أدقّ الأدلّة العلمية على حدوث العالم ، الذي قصرت عنه إفهام كثير من الفلاسفة العظام ، كما أنّه جعل الفلك الدائر فلكاً واحداً ، ثمّ تفسيره بالأفلاك السبعة ، لا ينطبق إِلاّ على نظرية الهيئة الحديثة ، إِذ يراد به النظام الشمسي ، ومثله تصريحه بحركة الأرض التي لم يكن يحلم بها أحد من السابقين ، وهي من مكتشفات العلم الحديث .
مناظرة الإمام الصادق ( عليه السلام ) مع طبيب هندي
حضرالإمام الصادق ( عليه السلام ) مجلس المنصور يوماً ، وعنده رجل من الهند يقرأ كتب الطب ، فجعل ( عليه السلام ) ينصت لقراءته ، فلمّا فرغ الهندي قال له : يا أبا عبد الله أتريد ممّا معي شيئاً ؟ قال ( عليه السلام ) : ( لا ، فإنّ معي ما هو خير ممّا معك ) ، قال : وما هو ؟
قال ( عليه السلام ) : ( أداوي الحار بالبارد ، والبارد بالحار ، والرطب باليابس ، واليابس بالرطب ، وأردّ الأمر كلّه إلى الله عزّ وجل ، وأستعمل ممّا قاله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأعلم أنّ المعدة بيت الداء ، وأنّ الحمية هي الدواء ، وأعوّد البدن ما اعتاد ) .
فقال الهندي : وهل الطبّ إِلاّ هذا ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( أفتراني عن كتب الطبّ أخذت ؟ ) قال : نعم ، قال ( عليه السلام ) : ( لا والله ، ما أخذت إِلاّ عن الله سبحانه ، فأخبرني أنا أعلم بالطبّ أم أنت ؟ ) فقال الهندي : لا ، بل أنا ، فقال ( عليه السلام ) : ( فأسألك شيئاً ) ، قال : سل .
قال ( عليه السلام ) : ( أخبرني يا هندي : لِمَ كان في الرأس شؤن ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ جعل الشعر عليه من فوقه ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ خلت الجبهة من الشعر ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ كان لها تخطيط وأسارير ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ كان الحاجبان من فوق العينين ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ جعل العينان كاللوزتين ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ جعل الأنف فيما بينهما ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فَلِمَ كان ثقب الأنف في أسفله ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فَلِمَ جعلت الشفّة والشارب من فوق الفم ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فَلِمَ احتدَّ السنّ وعرض الضرس وطال الناب ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ جعلت اللحية للرجال ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ خلت الكفّان من الشعر ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ خلا الظفر والشعر من الحياة ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ كان القلب كحبّ الصنوبر ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ كانت الرئة قطعتين ؟ وجعل حركتها في موضعها ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ كانت الكبد حدباء ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ كانت الكلية كحبّ اللوبياء ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ جعل طيّ الركبتين إلى خلف ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ تخصّرت القدم ؟ ) قال : لا أعلم .
فقال ( عليه السلام ) : ( لكنّي أعلم ) ، قال : فأجب .
قال ( عليه السلام ) : ( كان في الرأس شؤن لأنّ المجوّف إِذا كان بلا فصل أسرع إليه الصداع ، فإذا جعل ذا فصول كان الصداع منه أبعد ، وجعل الشعر من فوقه لتوصل بوصوله الأدهان إلى الدماغ ، ويخرج بأطرافه البخار منه ، ويردّ الحرّ والبرد عليه ، وخلت الجبهة من الشعر لأنّها مصبّ النور إلى العينين .
وجعل فيها التخطيط والأسارير ليحتبس العرق الوارد من الرأس إلى العين ، قدر ما يميطه الإنسان عن نفسه ، وهو كالأنهار في الأرض التي تحبس المياه ، وجعل الحاجبان من فوق العينين ليردّا عليهما من النور قدر الكفاية ، ألا ترى يا هندي أنّ من غلبه النور جعل يده على عينيه ، ليردّ عليهما قدر كفايتهما منه ، وجعل الأنف فيما بينهما ليقسّم النور قسّمين إلى كل عين سواء .
وكانت العين كاللوزة ليجري فيها الميل بالدواء ، ويخرج منها الداء ، ولو كانت مربّعة أو مدوّرة ما جرى فيها الميل ، وما وصل إليها دواء ، ولا خرج منها داء ، وجعل ثقب الأنف في أسفله لتنزل منه الأدواء المتحدّرة من الدماغ ، ويصعد فيه الأراييح إلى المشام ، ولو كان في أعلاه لما نزل منه داء ، ولا وجد رائحة .
وجعل الشارب والشفّة فوق الفم ، لحبس ما ينزل من الدماغ إلى الفم ، لئلا يتنغّص على الإنسان طعامه وشرابه ، فيميطه عن نفسه ، وجُعلت اللحية للرجال ليستغنى بها عن الكشف في المنظر ، ويعلم بها الذكر من الأُنثى ، وجعل السنّ حادّاً لأنّه به يقع العض ، وجعل الضرس عريضاً لأنّه به يقع الطحن والمضغ ، وكان الناب طويلاً ليسند الأضراس والأسنان ، كالاسطوانة في البناء .
وخلا الكفّان من الشعر لأنّ بهما يقع اللمس ، فلو كان فيهما شعر ما درى الإنسان ما يقابله ويلمسه ، وخلا الشعر والظفر من الحياة لأنّ طولهما سمج يقبح وقصّهما حسن ، فلو كانت فيهما حياة لألم الإنسان قصّهما ، وكان القلب كحبّ الصنوبر لأنّه منكس ، فجعل رأسه دقيقاً ليدخل في الرئة فيتروّح عنه ببردها ، لئلا يشيط الدماغ بحرّه .
وجُعلت الرئة قطعتين ليدخل بين مضاغطها ، فيتروّح عنه بحركتها ، وكانت الكبد حدباء لتثقل المعدة ، ويقع جميعها عليها فيعصرها ، ليخرج ما فيها من البخار ، وجعلت الكلية كحبّ اللوبياء ، لأنّ عليها مصبّ المني نقطة بعد نقطة ، فلو كانت مربّعة أو مدوّرة احتبست النقطة الأُولى إلى الثانية ، فلا يلتذّ بخروجها الحي ، إِذ المني ينزل من فقار الظهر إلى الكلية ، فهي كالدودة تنقبض وتنبسط ترميه أوّلاً ، فأوّلاً إلى المثانة كالبندقة من القوس .
وجعل طيّ الركبة إلى خلف ، لأنّ الإنسان يمشي إلى ما بين يديه ، فتعتدل الحركتان ، ولولا ذلك لسقط في المشي ، وجُعلت القدم مخصّرة ، لأنّ المشي إذا وقع على الأرض جميعه ثَقل ثُقل حجر الرحى ، فإذا كان على طرقه دفعه الصبي ، وإذا وقع على وجهه صعب نقله على الرجل ) .
فقال له الهندي : من أين لك هذا العلم ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( أخذته عن آبائي ( عليهم السلام ) عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن جبرائيل عن ربّ العالمين جلّ جلاله ، الذي خلق الأبدان والأرواح ) .
فقال الهندي : صدقت ، وأنا أشهد أن لا إِله إِلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله وعبده ، وأنّك أعلم أهل زمانه .
مناظرة الإمام الصادق ( عليه السلام ) مع رؤساء المعتزلة
دخل على الإمام الصادق ( عليه السلام ) أُناس من رؤساء المعتزلة ، وفيهم عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء ، وحفص بن سالم ، وذلك حين قتل الوليد ، واختلف أهل الشام بينهم ، فتكلّموا وأكثروا ، وخطبوا فأطالوا . فقال لهم الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إِنّكم قد أكثرتم عليّ فأطلتم ، فأسندوا أمركم إلى رجل منكم ، فليتكلّم بحجّتكم وليوجز ) ، فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد فأبلغ وأطال .
فكان فيما قال : قتَل أهلُ الشام خليفتهم ، وضرب الله بعضهم ببعض ، وتشتّت أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلاً له دين وعقل ومروّة ومعدن للخلافة ، وهو محمّد بن عبد الله بن الحسن ، فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه ، ثمّ نظهر أمرنا معه ، وندعو الناس إليه ، فمن بايعه كنّا معه وكان معنا ، ومن اعتزلنا كففنا عنه ، ومن نصب لنا جاهدناه ، ونصبنا له على بغيه ، ونردّه إلى الحق وأهله ، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك ، فإنّه لا غناء لنا عن مثلك ، لفضلك وكثرة شيعتك .
فلمّا فرغ ، قال ( عليه السلام ) : ( أكلّكم على مثل ما قال عمرو ؟ ) قالوا : نعم ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ثمّ قال : ( إِنّما نسخط إذا عُصي الله ، فإذا أُطيع الله رضينا ، أخبرني يا عمرو : لو أنّ الأمّة قلّدتك أمرها ، فملكته بغير قتال ولا مؤونة ، فقيل لك : ولّها من شئت ، مَن تولّي ؟ ) .
قال : كنت أجعلها شورى بين المسلمين ، قال ( عليه السلام ) : ( بين كلّهم ؟ ) قال : نعم ، قال ( عليه السلام ) : ( بين فقهائهم وخيارهم ؟ ) قال : نعم ، قال ( عليه السلام ) : ( قريش وغيرهم ؟ ) قال : العَرب والعجم ، قال ( عليه السلام ) : ( يا عمرو أتتولّى أبا بكر وعمر أو تتبرّأ منهما ؟ ) قال : أتولاهما .
قال ( عليه السلام ) : ( يا عمرو إِن كنت رجلاً تتبرّأ منهما ، فإنّه يجوز لك الخلاف عليهما ، وإِن كنت تتولاهما فقد خالفتهما ، قد عهد عمر إلى أبي بكر فبايعه ، ولم يشاور أحداً ، ثمّ ردّها أبو بكر عليه ، ولم يشاور أحداً ، ثمّ جعلها عمر شورى بين ستة ، فأخرج منها الأنصار غير أولئك الستة من قريش ، ثمّ أوصى الناس فيهم بشيء ، ما أراك ترضى به أنت ولا أصحابك ) .
قال : وما صنع ؟ قال ( عليه السلام ) : ( أمر صهيباً أن يصلّي بالناس ثلاثة أيّام ، وأن يتشاور أولئك الستة ليس فيهم أحد سواهم ، إِلاّ ابن عمر يشاورونه ، وليس له من الأمر شيء ، وأوصى مَن بحضرته من المهاجرين والأنصار إِن مضت الثلاثة أيّام ولم يفرغوا ويبايعوا أن يضرب أعناق الستة جميعاً ، وإِن اجتمع أربعة قبل أن يمضي ثلاثة أيّام وخالف اثنان ، أن يضرب أعناق الاثنين ، أفترضون بذا فيما تجعلون من الشورى في المسلمين ؟ ) .
قالوا : لا ، قال ( عليه السلام ) : ( يا عمرو دع ذا ، أرأيت لو بايعت صاحبك هذا الذي تدعو إِليه ، ثمّ اجتمعت لكم الأُمّة ولم يختلف عليكم منهم رجلان ، فأفضيتم إلى المشركين ؟ ) ، قالوا : نعم .
قال ( عليه السلام ) : ( فتصنعون ماذا ؟ ) ، قال : ندعوهم إلى الإسلام ، فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية ، قال ( عليه السلام ) : ( فإن كانوا مجوساً وعبدة النار والبهائم ، وليسوا بأهل كتاب ؟ ) قال : سواء .
قال ( عليه السلام ) : ( فأخبرني عن القرآن أتقرؤونه ؟ ) قال : نعم ، قال ( عليه السلام ) : ( اقرأ : {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
قال : فاستثنى عزّ وجل واشترط من الذين أوتوا الكتاب فيهم والذين لم يؤمنوا سواء ، قال ( عليه السلام ) : ( عمّن أخذت هذا ؟ ) قال : سمعت الناس يقولونه ، قال ( عليه السلام ) : ( فدع ذا ، فإنّهم إِن أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم ، كيف تصنع بالغنيمة ؟ ) قال : أخرج الخمس وأقسّم أربعة أخماس بين مَن قاتل عليها ، قال ( عليه السلام ) : ( تقسّمه بين جميع من قاتل عليها ؟ ) قال : نعم .
قال ( عليه السلام ) : ( فقد خالفت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في فعله وسيرته ، وبيني وبينك فقهاء المدينة ومشيختهم فسلهم ، فإنّهم لا يختلفون ولا يتنازعون في أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إِنّما صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم ، وألاّ يهاجروا على أنّه إِن دهمه من عدوّه دهم فسيتنفرهم ، فيقاتل بهم وليس لهم من الغنيمة نصيب ، وأنت تقول بين جميعهم ، فقد خالفت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في سيرته في المشركين ، دع ذا ، ما تقول في الصدقة ؟ ) .
قال : فقرأ الآية : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) قال ( عليه السلام ) : ( نعم ، فكيف تقسّم بينهم ؟ ) قال : أقسّمها على ثمانية أجزاء ، فأعطي كل جزءٍ من الثمانية جزءاً .
فقال ( عليه السلام ) : ( إِنّ كان صنف منهم عشرة آلاف ، وصنف رجلاً واحداً أو رجلين أو ثلاثة ، جعلت لهذا الواحد مثلما جعلت لعشرة آلاف ؟ ) قال : نعم ، قال ( عليه السلام ) : ( وتصنع بين صدقات أهل الحضر والبوادي فتجعلهم سواء ؟ ) قال : نعم .
قال ( عليه السلام ) : ( فخالفت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في كلّ ما به قلت في سيرته ، كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقسّم صدقة البوادي في أهل البوادي ، وصدقة الحضر في أهل الحضر ، ولا يقسّمها بينهم بالسوية ، إِنّما يقسّمها قدر ما يحضره منهم ، وعلى ما يرى وعلى ما يحضره ، فإنّ كان في نفسك شيء ممّا قلت ، فإنّ فقهاء أهل المدينة ومشيختهم كلّهم لا يختلفون في أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كذا كان يصنع ) .
ثمّ أقبل ( عليه السلام ) على عمرو ، وقال : ( اتّقِ الله يا عمرو ، وأنتم أيّها الرهط ، فاتّقوا الله ، فإنّ أبي حدّثني وكان خير أهل الأرض ، وأعلمهم بكتاب الله وسنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنّ رسول الله قال : من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه ، وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
سلآم الله على أمآمنآ الصآدق
موفقة اختي على الطرح القيم
وباااارك الله بكم وفي تواصل وتقدم
لخدمة اهل البيت عليهم السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
سلآم الله على أمآمنآ الصآدق
موفقة اختي على الطرح القيم
وباااارك الله بكم وفي تواصل وتقدم
لخدمة اهل البيت عليهم السلام
اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم
اسعدني مرورك الطيب اخي الكريم وفيض كلماتك التي انرتني بها
جزاك الله خير الجزاء ووفقك
لك مني ارق التحايا