تشظى الندى برودةً بين انامل تعانق بهدوء زناد البنادق.. وذاب صقيعُ الفجر بلهيب الشوق الجارف للقاء الله.. وضوء البدر يتمايل بين الغيوم الراكضة كمسافر بلا رجوع، تفرد ألوانها الرمادية لشمسٍ ستشرقُ بعد حين..
كانت عيونهم تحدّقِ بالجنود الصهاينة باستهزاء، والاسلاك الشائكة والالغام تفصل بينهم، كحدٍّ بين الحق والباطل؛ رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. وما بدلّوا تبديلا..
في الخامس عشر من شعبان لعام 1407هـ، وفي ليلٍ مطبقٍ على أسرار عاشقين تلتاعُ نفوسهم لذكر حبيب غائب: "ليت شعري أين استقرت بك النوى.."، فما استطاعوا إلا مُضيًا إلى حيث يرغبون، فالشوق حارقٌ والانتظار مرير، وساروا في طريقِ اليقين، وكتبوا على كل حبة تراب.. على كل ذرة ريح: يا مهدي أدركنا..
الخيار واضح، والبسالة في أوجها، والهدف: كونوا حسينيين - خمينيين.. فأرادوا أن يكونوا كذلك، فكانوا..
هناك، لم يكن الزمان زمنًا عاديًا، ففي تلك الحقبة الشاهدة على تخاذل الأمة العربية، وقبولها للجرثومة السرطانية "اسرائيل" كحلٍّ لصراع وجود، لن ينتهي منطقيًا إلا بإبادة طرف لآخر.. ولم يكن المكان أيضًا مكانًا عاديًا، فقد اختارت المقاومة الاسلامية أولاً موقعًا صهيونيًا- علمان- الذي يتمركز فيه أكثر من اربعين جنديًا اسرائيليًا، وهو محاط بالسواتر الترابية العالية جدًا والتي تمنع رؤيته من الداخل، ومحمي بدبابة ميركافا إضافة إلى خطٍ من الالغام والاسلاك الشائكة.. وثانيًا، موقع الشومرية الذي يقع شمال غرب موقع علمان ويخدم فيه حوالي خمسة عشر عميلاً، ويعتبر هذا الموقع خط الدفاع الاول لعلمان ووجوده بالأساس لهذه الغاية، ذلك ان منح الكيان الاسرائيلي جيش العميل لحد مهمة حمايتها في الجنوب المحتل وتحديدًا فيما اسموه بالحزام الامني، ضعضع هيبتها العسكرية والامنية بعد ضربات موجعة من المقاومة الاسلامية صرّح بها أحد جنرالات العدو عندما أعلن: " إن حزب الله يضعنا أمام خيارين كلاهما مر؛ إما الانسحاب من منطقة الحزام وإما العودة إليه.."
انها معركة بين خائفين محتلين وعاشقين حُسينيين انطلقوا من عرين " ألا إن الموت لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة"، وانقسموا إلى مجموعتين؛ الأولى انطلقت إلى موقع علمان، والآخرى إلى موقع الشومرية، والقلوب يممت عشقها لله وحده..
أولئك المجاهدين، الذين انطلقوا في منتصف الليل ليؤكدوا للعالم اصرارهم على استرجاع وطنهم حرًا عزيزًا، بعد أن ساعدوا بعضهم البعض على ارتداء الجعب وحمل السلاح، وواحدًا تلو الاخر مهروا بشفاههم على القرآن الكريم عهد مواصلة الطريق وعبروا من تحته لتبقى كلمة الله هي العليا..
وصلوا إلى موقع علمان، وكان الجنود الصهاينة يهيئون أنفسهم لاطلاق قذائف ورشقات رشاشة عشوائية باتجاه المسالك المؤدية إلى الموقع خوفًا من تسلل المقاومين قبل دخولهم إلى الموقع، فيما كان المقاومون يسمعون حديثهم وهم ينتظرون الأوامر بالهجوم، وعلى الرغم من البرد القارس، فإن أحد المجاهدين غفا ونام نومًا عميقًا وهو يحمل بندقيته في لحظة اطمئنان تتقاذفها الحياة والموت..
وحان موعد النزال، في الثالثة صباحًا وبصرخات " الله أكبر" " يا زهراء" اقتحم المجاهدون الموقع ورشاشاتهم تضرب في كل اتجاه وقذائفهم الصاروخية تقصف الدشم والتحصينات، وبعد ربع ساعة من بدء الهجوم، انجلى غبار الرصاص بسيطرة كاملة على الموقع.. وفي موازاة ذلك، وفي نفس اللحظات، كان رفاق الدرب المرابطين على موقع الشومرية قد اقتحموه وسيطروا عليه، للتلاقى صرخات التكبير في السماء نصرًا مؤزرًا، بعد قتل عشرة جنود صهاينة وجرح آخرين وتدمير دبابة ميركافا واعطاب دبابتين آخريين وملالة، إضافة إلى نسف عدد من الدشم في موقع علمان، وقتل اربعة عملاء لحديين عدا الجرحى وتدمير ملالة واحراق جيب عسكري في الشومرية، وقد جرح مقاومان تم سحبهم خارج منطقة المعركة في الوقت الذي كانت فيه القذائف المسمارية والثقيلة تتساقط على الموقعين من مرابض العدو في المنطقة المحتلة والطيران المروحي يمشط المنطقة بشكل كثيف..
أدت هذه العملية إلى نشر الرعب في صفوف الجنود الصهاينة ما اضطر رئيس الاركان موشي ليفي وقائد المنطقة الشمالية يوسي بيليد آنذاك الاشراف مباشرةً على سير المعارك وقيادة التصدي للمقاومين، وقد حاولت اسرائيل ومن خلال بياناتها حول المواجهة أن تؤكد أن الهجوم استهدف موقع الشومرية التابع للميليشيات وان الجيش الاسرائيلي قد تدخل للمساعدة لا غير..
انتهت المهمة، وكانت طريق الرجوع، قلوبهم المنتشية بفرحة النصر تطير كعصافير تواقة الى الحرية فتلامسها بين جرحٍ وحبة دّم ..كانوا يعودون كرجوع سنونو ايلول عند مداهمة الدفء أبواب العمر.. كانوا يعودون ولحن النصر نشيجٌ من حنين.. غير أنهم، عند بوابة العبور وجدوا الغدر بالمرصاد؛ وصار الموت من أمامهم ومن ورائهم وفوق رؤوسهم، لكن النصر بقي مُلك أيديهم، فهم صانعود، وهم خلّدوه بدمائهم.. سبعة عشر شهيدًا شبكوا أيديهم بعضها ببعض، وعلوا رؤوسهم صوب السماء، وبقيت رؤوسهم شامخة و لاتزال فلن تنحني هامات علاّها المجد والدّم.. ولن تنثني عزائم كربلاء دستورها والحسين معلم..
تشظى الدم برودةً بين انامل تعانق بهدوء زناد البنادق.. وذاب صقيعُ الحياة عند لقاء الله.. وضوء البدر يتمايل بين أرواح راكضة كمسافر بلا رجوع، تفرد عشقها لشمسٍ أشرقت عزًا ونصرًا من نجيعهم الذي كتب: اللهم إني أجدد له في صبيحة يومي هذا وما عشتُ من ايامي عهدًا وعقدًا وبيعة له في عنقي لا أحول ولا أزول أبدًا..
بسم الله الرحمن الرحيم
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار
صدق الله العلي العظيم
أبطال عملية علمان - الشومرية 1987
ابراهيم موسى صبرا،علي سعيد شعبان،علي احمد زعرور،حسن محمد الكبش،ياسر علي كوراني،كمال حاتم ناصر الدين،علي عباس العوطة،حسين علي عودة،حسن علي مظلوم،فضل الله داوود ابراهيم،احمد علي شعيب،اسد الله مرشد شمص،عقيل مسلم أيوب،حيدر صالح مظلوم،توفيق علي حيصون،ناجي فوزي ابودية،سامي حسن ملدان