أيّها النّاس ، كلّ امرىء لاق ما يفرّ منه فى فراره ، و الأجل مساق النّفس و الهرب منه موافاته . كم اطّردت الأيّام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى اللّه إلا إخفاءه . هيهات علم مخزون ، أمّا وصيّتى فاللّه لا تشركوا به شيئا ، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا تضيّعوا سنّته . أقيموا هذين العمودين ، و أوقدوا هذين المصباحين ، و خلاكم ذمّ مالم تشردوا . حمل كلّ امرىء منكم مجهوده ، و خفّف عن الجهلة ربّ رحيم ، و دين قويم ، و إمام عليم . أنا بالأمس صاحبكم ، و أنا اليوم عبرة لكم ، و غدا مفارقكم ، غفر اللّه لى و لكم .
إن ثبتت الوطأة فى هذه المزلّة فذاك ، و إن تدحض القدم ، فإنّا كنّا فى أفياء أغصان و مهبّ رياح و تحت ظلّ غمام اضمحلّ فى الجوّ متلفّقها و عفا فى الأرض مخطّها ، و إنّما كنت جارا جاوركم بدنى أيّاما و ستعقبون منّى جثّة خلاء ، ساكنة بعد حراك ، و صامتة بعد نطوق . ليعظكم هدوّى و خفوت أطرافى ، و سكون أطرافى ، فإنّه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ و القول المسموع . و داعيكم وداع امرىء مرصد للتّلاقى ، غدا ترون أيّامى ، و يكشف لكم عن سرائرى ، و تعرفوننى بعد خلوّ مكانى و قيام غيرى مقامى . اقول : انّما قال : فى فراره : لكون الأنسان ابدا فارا من الموت ، و اذا كان لا بدّ من لقائه وقتا مّا فلقاؤه فى فراره . و الأجل : قد يراد به : مدّة الحياة و هو : مساق النفس الى غايتها . و فى قوله : و الهرب منه موافاته : لطف به لانّ الفرار منه مثلا بالحركات و العلاجات و نحوها ، يستلزم فناء الأوقات ، و فى فنائها موافاته ، فكان الهرب منه موافاة له . و اطّردت الايّام : جعلتها طريدة لما اتبعها بالبحث عن مكنون هذا الأمر و هو قتله ،
فأن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله اخبره به اجمالا حيث قال له : ( أتدرى من اشقى الأوّلين ، قال : نعم عاقر الناقة ، فقال : او تعلم من اشقى الآخرين فقال : لا ، فقال : من يخضب هذه ) 1 و اشار الى لحيته من هذا و اشار الى رأسه . و المكنون : وقته و كيفيته