الافتراض أننا معلّمون وأبناؤنا وبناتنا تلاميذ، صحيح جزئياً، على اعتبار أن تجربتنا في الحياة أعرق واسبق وربما أعمق، لأنه ليس بالضرورة أن تكون تجربة كلّ الآباء، أعمق من تجربة كلّ الأبناء.
الحياة مدرسة.. نحن وأبناؤنا ـ لا فرق في هذه النقطة ـ معلّمون وتلاميذ فيها، نتعلّم منهم كما يتعلّمون منّا، ونأخذ منهم كما نعطيهم، ولا فوقية في "التعليم" ولا دونية في "التعلّم".
بهذا المنظار، يمكن تذويب أية حساسيات محتملة في أن يرفض الأبناء التعلّم من آبائهم بادعاء أنهم صلاحية نافدة، ويتنازل الآباء ليتعلموا من أبنائهم ما لم يتعلّموه في حياتهم، والحياة في النهاية سواء بين الآباء والأبناء، أو بينهم وبين سائر الناس أخذٌ وعطاء، تعليم وتعلّم، وتبادل منفعة، وخبرة أيضاً.
لا نقول هذا في مجال معرفة استعمال التقنيات الحديثة، فقد يتعلّم أو يتلقى الآباء ذلك في معاهد متخصصة، لكننا نذهب إلى محطّة أبعد من ذلك، وهي أن نقرّ أن أبناءنا يفكّرون أحياناً، بطريقة أفضل منا، فيها واقعية أكثر، وموضوعية أكبر، واختزالية أوسع وعصرانية أقرب.
ليس من الحتميّة التربوية أن نكون ملجأهم وملاذهم في حلول مشاكلهم ومساعدتهم على تجاوز وتذليل العقبات التي تعترض طريقهم، ولا يكونون كذلك بالنسبة لنا، المْ يحصل مراراً أن قدّموا حلولاً عملية لمشاكل أسرية من منطلق شعورهم بالمسؤولية، وأنهم جزء لا يتجزأ من الكيان الكلّي للأسرة؟! إذاً هم ملاذنا أيضاً.
مربط الفرس هنا.. "عقل الأبوين + عقل الأبناء = عقل الأسرة" هذا هو "التداول" وهذا هو "التبادل" وهذا هو "التكامل" وهذا هو "التفاعل".
إن رفض العقل الأبوي، والأمومي معه بالطبع ـ ليس دائماً غروراً شبابياً أو بناتياً، هو تقدير فطري أن القديم لم يعد صالحاً لاسيما إذا زاول القديم قدمه في تعنّت أو تعسّف أو دكتاتورية تسلّطية أو ترديد مقولات أكل الدهر عليها وشرب.. كما إنّ استصغار العقل البنوي والبناتي معه بالطبع ليس احتقاراً لعقول الأبناء والبنات، هو تصوّر أن التجربة لم تختمر، والخبرة لم تنضج، والسلوك لم يتعقلن بعد.
بالإقرار أننا بحاجة إلى بعضنا البعض، تأخذ مدرسة الأسرة شكلاً جديداً في التعليم والتعلّم، شكل يقوم على "تبادل الأدوار". فالآباء مرّة معلّمون والأبناء متعلّمون، وتارة الأبناء معلّمون، والآباء متعلّمون، بلا أي تكبّر أو مكابرة.
العقل يقول إنه يحتاجُ إلى عقول الآخرين، بما فيها عقولُ الأبناء والبنات التي قد تتفق أحياناً عن أفكار لم تخطر ببال، وعن روائع تدعو للدهشة والإعجاب، وعن حلول تعبّر عن عبقرية غير مسبوقة في المحيط الأسريّ.
والعقلُ يؤكّد أيضاً أن الحقيقة ملك الجميع الأسريّ، وليست ملك أحد، ولما كانت كذلك فنحن في رحلة البحث والاستكشاف عنها على مركب واحد.. ويوم نصلها لا يدّعى كريستوف كولمبس "الأب" انه هو الذي اكتشف "العالم الجديد" فينسى دور الملاّحين الصغار الذين ساهموا وساعدوه في الوصول إلى هذا العالم!!
منطقُ الحياة المشتركة أسريّة أو غير أسريّة، هو هذا: "نـحن" صنعنا هذا .. "نـحن" اكتشفنا هذا.. "نـحن" ساهمنا في حلّ هذا المعضل.. "نـحن" أبدعنا هذا النتاج.. "نـحن" حملنا هذا الحمل.. "نـحن" دفعنا ضريبة الكدح من أجل حياة أفضل. وهذا يعني أننا شجرة واحدة ذات جذور وأغصان، فلا الجذور تستغني عن أغصانها ولا الأغصان يمكن أن تعتمد على ذاتها من غير الاستعانة بالجذور، ولا "قدم" الجذور يجعلها تترفع عن الحاجة إلى ما تمده بها الأغصان من نور، ولا "حداثة" الأغصان تجعلها تتكبّر على ما تقدمه الجذور من ماء!