أخيه، قال: "سـَمـِعـْتُ أبا عَبْدِاللهِ عليه السّلام يقول: إِنَّ المُتَكَبِّرينَ
يُجْعَلُنَ في صُوَرِ الذَّرِّ يَتَوَطّاهُمُ النّاسُ حَتّى يَفْرَغَ اللهُ مِنَ الحِسابِ"( أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الكبر ح 11 ). وجاء في
وصايا الإمام الصادق عليه السلام لأصحابه: "إِيّاكُمْ وَالعَظَمَةَ وَالكِبْر، فإنَّ
الكبرَ رِداءُ الله عَزَّ وجَلَّ فَمَنْ نازَعَ اللهَ رِداءَهُ قَصَمَهُ اللهُ وَأَذَلَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ"(
وسائل الشيعة، المجلد 11، أبواب جهاد النفس، باب تحريم الكبر، ح 9 ) .
ولا أعرف بأن الله تعالى إذا أذل شخصاً ماذا يصنع به؟ وبماذا يبتليه؟ لأن
[112] أمور الآخرة تختلف عن أمور الدنيا كثيراً، فإن الذل في الدنيا يغاير
الذل في الآخرة، كما أن نعم الآخرة وعذابها، لا تتناسب مع هذا العالم، إن
نعمها تفوق تصورنا، وإن عذابها لا يخطر على بالنا. إن كرامتها أسمى من
تصورنا، والذل فيها يختلف عن الذل والهوان الذي نعرفه، وتكون عاقب ة
المتكبر النار ففي الحديث"الكبرُ مَطايَا النّارِ"( وسائل الشيعة، المجلد 11،
أبواب جهاد النفس، باب تحريم الكبر، ح 14 ) فلا يرى الجنة من كان في
قلبه كبراً. كما روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم"لَنْ يَدْخُلَ
الجَنّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ"( وسائل الشيعة، المجلد
11، أبواب جهاد النفس، باب تحريم الكبر، ح 6 ). وقد حدث الإمام الباقر
والإمام الصادق - عليهما السلام - أيضاً بهذا المضمون. وفي حديث الكافي
الشريف أن الإمام الباقر عليه السلام قال: "العِـزُّ رِدَاءُ اللهِ، والكِبْرُ إِزَارُهُ،
فَمَنْ تَناوَلَ شِيْئاً مِنْهُ أَكبَّهُ اللهُ في جَهنَّمَ"(وسائل الشيعة، المجلد 11، أبواب
جهاد النفس، باب تحريم الكبر، ح 2 ). وما أدراك ما جهنم التي أعدها الله
للمتكبرين. فهي غير جهنم التي أُعدَّت لسائر الناس. يكفي ن نورد هنا
الحديث الذي سبق أن ذكرناه: "عن محمّد بن يعقوب، عن عَليّ بن إبراهيم،
عن أبيه، عن أبن أبي عمير، عن أبن بكير، عن أبي عبدالله عليه السلام
قال:"إِنَّ في جَهَنَّمَ لَوادياً لِلْمُتَكَبِّرِينَ يُقالُ لَهُ"سقَرُ"شكى إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ
شِدَّةَ حَرِّه وِسَأَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّسَ فتَنَفَّسَ فَأَحْرَقَ جَهَنَّمَ"(وسائل الشيعة،
المجلد 11، أبواب جهاد النفس، باب تحريم الكبر، ح 6). والحديث في غاية
الاعتبار (من حيث السند) بل هو كالصحيح. أعوذ بالله من مكان رغم كونه
دار عذاب، تشكو حرارته، فتتنفس فتحترق جهنم من جرّاء تنفسها. إننا لا
نستطيع أن ندرك شدة حرارة نار الآخرة في هذا العالم، إذ أن أسباب شدة
العذاب وضعفه تختلف مع أسباب شدة العذاب الدنيوي وخفتها من جهات
عديدة: فمن جهة، تتبع قوة الإدراك وضعفه؛ إذ كلما كان المدرك أقوى
والإدراك أتم و أنقى كان إدارك الألم والعذاب أكثر. ومن جهة أخرى، تعتمد
على اختلاف المواد التي يقوم بها الحس في تقبّل [113] الحرارة، لأن المواد
تختلف من حيث تقبل الحرارة. فالذهب والحديد، مثلاً، يتقبلان الحرارة أكثر
من الرصاص والقصدير. وهذان يتقبلانها أكثر من الخشب والفحم، وهذان
أكثر من الجلد واللحم. كما أن لمستوى ارتباط قوة الإدراك بالموضع المقابل
للحرارة أثراً في شدة وضعف العذاب. فمثلاً المخ الذي يكون تقبله للحرارة.
أقل من العظام، يكون تأثره أشد، لأن قوة الإدراك فيه أكبر. وأن للحرارة
نفسها من حيث كمالها ونقصانها، دوراً في الشدة والضعف فالحرارة التي
تصل إلى مائة درجة تؤلم أكثر من الحرارة التي تصل إلى درجة خمسين. كما
أن لمدى ارتباط المادة الحرارية الفاعلة بالمادة المتقبلة لها سبباً في تخفيف أو
تشديد العذاب. فمثلا، إذا كانت النار قريبة من اليد كان الاحتراق أخف مما
إذا لتصقت النار باليد. جميع هذه الأٍسباب الخمسة المذكورة تكون في هذه
الدنيا في منتهى النقص وفي الآخرة في منتهى كمال القوة والتمامية. إن جميع
إدراكاتنا في هذا العالم ناقصة وضعيفة ومحجوبة بحجب كثيرة لا يتسع المجال
لذكرها ولا تناسبه. إن أعيننا لا ترى اليوم الملائكة ولا جهنم، وآذاننا لا تسمع
الأصوات العجيبة والغريبة التي تصدر من البرزخ وأصحابه ومن القيامة
وأهلها، وحواسنا لا تحس بالحرارة هناك، كل ذلك لأنها ناقصة جميعاً. إن
الآيات والأخبار الواردة عن أهل البيت صلوات الله عليهم مشحونة بذكر هذا
الأمر، تلويحاً وتصريحاً. إن جسم الإنسان في هذا العالم لا يتحمل الحرارة، إذ لو
بقى ساعة واحدة في النار الباردة من الدنيا لاستحال إلى رماد. ولكن الله
القادر يجعل هذا الجسم يوم القيامة قابلا للبقاء في نار جهنم - التي شهد
جبرائيل بأنه لو جيء بحلقة واحدة من سلاسل جهنم التي طول الواحد منها
سبعون ذراعاً إلى هذه الدنيا لأذابت جميع الجبال من شدة حرارتها - من دون
أن يذوب. فقابلية جسم الإنسان للحرارة يوم القيامة لا تقاس بقابليته لها في
دار الدنيا. أما ارتباط النفس بالجسد في هذت الدنيا فضعيف وناقص، ففي هذا
العالمُ يستعصي على النفس أن تظهر فيه بكامل قواها، أما الآخرة فهي عالم
ظهور [114] النفس. إن نسبة النفس إلى الجسد نسبة الفاعلية والخلاقية،
كما هو ثابت في محله، وهي أتم مراتب النسبة والارتباط. ونار هذه الدنيا نار
باردة ذاوية وعرضية ومشوبة بمواد خارجية غير خالصة. أما نار جهنم، فنار
خالصة لا تشوبها شائبة، وجوهر حي قائم بذاته ذو إرادة يحرق أهله بإدراك
وإرادة، ويشدد الضغط عليهم بقدر الإمكان. ولقد سمعت الصادق المصدق
الأمين جبرائيل، وهو يصفها. والقرآن والأخبار مليئة بوصفها. أما ارتباط نار
جهنم والتصاقها بالجسم فلا شبيه له في هذا العال، ولو تجمّعت جميع نيران
العالم وأحاطت بإنسان لما أحاطت بغير سطح جسمه. أما نار جهنم، فتحيط
بالظاهر والباطن وبالحواس المدركة وما يتعلق بها. إنها نار تحرق ا لقلب
والروح والقوى، وتتحد بها بنحو لا نظير له في هذا العالم. فيتبيّن مما ذكر أن
هذا العالم لا تتوافر في وسائل العذاب بأي شكل من الأشكال، فلا مواده -
العالم - جديرة بالتقبل، ولا مصادره الحرارية تامة الفاعلية، ولا الإدراك تام.
إن النار التي تستطيع أن تحرق جهنم بنَفَسٍ منها، لا يمكن أن نتصورها ولا أن
ندركها، إلاّ إذا كنا - لا سمح الله - من المتكبرين، انتقلنا من هذا العالم إلى
الآخرة قبل أن نطهّر أنفسنا من هذا الخُلق القبيـح، حيث نراها رأي العين
{فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} (الزمر72). فصل في بيان بعض عوامل التكبر
اعلم إن من عوامل التكبر، فضلاً عمّا سبق ذكره من الأسباب، هو صغر
العقل، وضعف القابل ية، والضعة، وقلة الصبر. فالإنسان لضيق أُفقه ما أن يجد
في نفسه خصلة مميّزه حتى يتصور لها مقاماً ومركزاً خاصاً. ولكنه لو نظر بعين
العدل والإِنصاف إلى كل أمر يتقنه وكل خصلة يتميز بها، لأدرك أن ما
تصوره كمالاً يفتخر به ويتكبر بسببه، إمّا أنه ليس كمالاً أصلاً، وإمّا أنه إذا
كان كمالاً فإنه لا يكاد يساوي شيئاً إزاء كمالات الآخرين، وأنه كمن صفع
وجهه ليحسب الناس احمرار [115] وجهه نتيجة النشاط والحيوية. كما
قيل:"اِسْـتَسْمَنَ ذا وَرَمٍ". فعلى سبيل المثال أن العارف الذي ينظر من
خلال عرفانه إلى الناس جميعاً بعين الازدراء متكبّرا، أو يقول عنهم أنهم
قشريون وسطحيون. ترى أنه لا يملك شيئا من المعارف الإلهية، سوى حفنة
من المفاهيم التي لا تعدو جميعا من أن تكون حُجُباً تغطي الحقائق، أو مطبات في
الطريق، ومجموعة من المصطلحات ذات البريق الخادع مما لا علاقة لها
بالمعارف اإلهية، وبعيدة كل البعد عن معرفة الله وعن العلم بأسمائه وصفاته؟ إن
المعرفة صفة القلب. وكاتب هذه السطور يعتقد أن جميع هذه العلوم هي علوم
عملية، لا مجرد معرفة نظرية وحياكة مصطلحات. لقد رأينا خلال هذا العمر
القصير والمعرفة القليلة ضمن من يسمون بالعرفاء والعلماء في سائر العلوم،
أشخاصا - أقسم بالعرفان والعلم- إنهم لم يتأثروا قلبيا بهذه الاصطلاحات،
بل كان لها تأثير معكوس عليهم. أيها العزيز! إن العرفان بالله، كما تعلم، يحيل
القلب إلى محل تتجلى فيه أسماء الله وصفاته وينزل فيه السلطان الحقيقي الذي
يمحو آثار التلوث ويطرد التعيّن: {... إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا
وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل34). إنه يجعل القلب
أحدياً أحمدياً، فلماذا صار قلبك والهاً بجمالك، وزاد في تلونك، وضاعف في
تعيناتك وإضافاتك وأبعدك عن الحق تعالى وتجليات أسمائه، وجعل قلبك
موطناً للشيطان فتنظر عباد الله، وأصحاب أبواب الحق، ومظاهر جمال المحبوب،
نظرة تحقير وازدراء؟ إنك تتكبر على الله، وتتفرعن في حضرة ذات الله وأسمائه
وصفاته. يا طالب المفاهيم، ويا مضيّع الحقائق! تمهل، أنظر إلى ما لديك من
المعارف فما الأثر الذي تراه من الحق وصفاته في نفسك؟ ولعل علم الموسيقى
والإِيقاع أدق من علمك، واصطلاحات العلوم الأخرى كالفلك والميكانيك
وسائر العلوم الطبيعية والرياضية، تساوي اصطلاحات علمك ودقته تماماً، فكما
أن تلك [116] العلوم ليس لها عرفان بالله، فكذلك علمك الذي حجبته
الاصطلاحات وسجف المفاهيم والاعتبارات، لا يرجى منه تغير في نفس ولا
حال، بل إن تلك العلوم لدى منطق العلوم الطبيعية والرياضية أفضل مما هو
لديك من العلم، لأن تلك العلوم تنتج شيئا، وليس لعلمك ناتج، أو أن ناتجة
معكوس. فالمهندس ينالنتيجة هندسته والصائغ نتيجة صنعته، أمّا أنت فقد
قصرت يدك عن النتائج الدنيوية، ولم تصل إلى نتائج عرفانك. فحجابك أثقل
وأسمك، وما أن يدور الكلام عن الأحديّة حتى يغشاك ظلام غير متناه، وما
أن تسمع عن حضرة أسماء الله وصفاته حتى تتصور كثرة غير متناهية. إذاً لم
تعثر على الطريق إلى الحقائق والمعارف من هذه الاصطلاحات، بل صارت
مدعاة للتفاخر والتكبر على العلماء الحقيقيين. إن المعارف التي تزيد من كدر
القلب ليست بمعارف، والويل لمعارف تجعل عاقبة صاحبها وارثاً للشيطان!.
إن الكبر من أخلاق الشيطان الخاصة. فقد تكبّر على أبيك آدم، فطرد من
حضرة الله، وأنت أيضاً مطرود لأنك تتكبر على كل الآدميين من أبناء آدم.
ومن هنا أيضاً يجب أن تفهم حال سائر العلوم الأخرى. إن الحكيم إذا كان
حكيما وعرف نسبته إلى الخلق وإلى الحق، خرج الكبرياء من قلبه واستقام
أمره. ولكن هذا المسكين الذي يركض وراء المصطلحات والمفاهيم يظن أنها
هي الحكمة، وأنها هي التي تصنع العالم والحكيم، فمرة يرى نفسه متصفة
بالصفات الواجبة، فيقول:"الحكمةُ هِيَ التَشَبُّهُ بِالإِلـهِ"ومرة يحسب نفسه
فـي زمرة الأنبيـاء والمرسليـن، فيقرأ: {وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }
(الجمعة2).، وأحيانا يقرأ:"الحـِكـْمـَةُ ضالَةُ المُؤْمِنِ"( نهج البلاغة- قصار
الحكم - 80 - ( الشيخ صبحي الصالح ) ) {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة/269).، ولكن ما أجهله بالحكمة وما أبعده عنها وعن
خيراتها؟! يقول الحكيم المتألّه وفيلسوف الإسلام الكبير، المحقق الداماد،
رضوان الله عليه: "الحكيم من كان جسده كالرداء له، متى ما شاء خلعه".
فانظر إلى ما يقوله [117] هو وما نقوله نحن! وما أدركه هو من الحكمة وما
أدركنا نحن منها! إذاً، فأنت الذي تتباهى ببضعة اصطلاحات ومفاهيموتتكبر
على الناس، إنما ذلك دليل ضيق نفسك وقلة صبرك وعدم أهليتك!. إن من
يرى نفسه مرشد الخلائق وهاديهم، ويجلس على كرسي التصوف والتوجيه،
يكون أسوأ حالا من المسعف والمتصوف، وأكثر دلالاً منهما. إنه سرق
المصطلحات منهما وأسبغ بعض المظاهر على بضاعته في السوق، وصرف
قلوب الناس عن الله ووجّهها نحو نفسه ودفع بذلك الإنسان الطيّب النقي
السريرة، على إساءة الظن بالعلماء وعامة الناس. ولكن يعطي أسواقهم شيئا
من الرواج، يطعمون الناس، عن وعي أو بدون وعي، بعضا من مصطلحاتهم
الجذّابة، ظانّين أن ألفاظاً مثل "مجذوب علي" أو "محبوب علي" سوف
تمنحهم حقا حالاً من الانجذاب والحب! نتيجة هذه الأسماء التي يستعملها
الدراوشة والمدعون للعرفان. أنت يا طالب الدنيا وسارق المفاهيم، إن عملك
هذا كما تظنه لا يدعو إلى الفخر والتكبر! إن المسكين لقلـة صبره وصغر
عقله ينخدع حتى بنفسـه، فيرى لنفسه م قاما، وقد امتزج فيه حب النفس
وحب الدنيا مع المفاهيم المسروقة والإضافات والاعتبارات، فأصبح مولودا
مشوهاً، إذ نشأ عن تجمعها مزيج عجيب وخليط غريب. وعلى الرغم من كل
هذه العيوب يحسب نفسه مرشد الخلائق وهادي الأمة إلى النجاة، ومالك سر
الشريعة! بل قد تتجاوز وقاحته الحدود، فيرى نفسه في مقام الولاية الكلية.
وهذا ناشئ أيضا من صغر العقل وضيق القلب والصدر وقلة الاستعداد
والأهلية. وأنت أيضا يا طالب علوم الفقه والحديث وسائر العلوم الشرعية، لا
تملك من علمك أكثر من حفنة من الاصطلاحات الخاصة بالأصول والحديث،
فإذا لم يضف إليك علمك هذا الذي كله عمل، شيئا ولم يستطع إصلاحك،
بل أنتج المفاسد الأخلاقية والعملية، فإن عملك أحط من عمل علماء العلوم
الأخرى وأتفه بل أقل عمل كل العوام. إن هذه المفاهيم العرضية والمعاني
الحرفية والدخول في منازعات لا طائل وراءها ولا علاقة لمعظمها بدن الله
بالعلوم حتى تسميها بالثمرة العلمية، أن هذه المفاهيم لا تستوجب كل هذا
الابتهاج و التكبر. والله [118] يشهد وكفى بالله شهيدا أنه لو كانت هذه
هي نتيجة العلم، دون أن تستطيع هدايتك، ودون أن تبعد عنك المفاسد
الأخلاقية والسلوكية، فإن أحط الأعمال خير من عملك لأن تلك نتائجها
عاجلة ومفاسدها الدنيوية والأخروية اقل. وأنت أيها المسكين لا تنال سوى
الوزر والوبال، ولا تحصد غير المفاسد الأخلاقية والأعمال القبيحة. وعليه، فإن
عملك من حيث الاعتبار العلمي ليس فيه ما يدعو إلى التكبر، بل كل ما في
الأمر إنك أفقك العلمي، ما أن تضع اصطلاحاً فوق اصطلاح حتى تحسب
نفسك عالما وسائر الناس جهلاء وتفترش أجنحة الملائكة تحت أقدامك وكأنها
تطير بك، وتضيّق على الناس في المجالس وفي الطرقات. ولكن الأحط من هذا
والأحقر مكانة هو ذلك الذي يتكبّر ويتباهى بالأمور الخارجية، مثل المال،
والجاه ، والخدم، والحشم والقبيلة. فهذا المسكين بعيد عن الخلق البشري
والأدب الإنساني فارغ اليد من كل العلوم والمعارف. ولكن بما أن ملابسه من
أجود الأصواف، وأباه فلان ابن فلان، فهو يتكبّر على الناس. فما أضيق عقله
وأشد ظلام قلبه! إنه يقتنع من كل الكمالات باللباس الجميل، ومن كل جمال
بالقبعة والرداء! يرتضي المسكين مقام الحيوانية ويقبل بحظها، ويقتنع من جميع
المقامات السامية الإنسانية بالصورة الخالية من كل شكل ومضمون، والفارغة
من الحقيقة، ظانّاً نفسه بهذا أنه ذو مقام. وفي الواقع إنه على درجة من الضعة
ومن عدم اللياقة، بحيث أنه إذا شاهد أحداً أعلى منه مرتبة واحدة دنيوية تخضّع
له كما يتخضّع العبد لسيده. لا شك أن من لا همّ له سوى الدنيا، لا يكون إلاّ
عبداً للدنيا ولأهلها. وأن يغدو ذليلا لدى من يتزلف ويستذل لديهم. وعلى
كل حال، يعتبر ضيق أُفق الفكر وانحطاط القابلية من هم عوامل الكِبرٍ، لذلك
فمن يتصف بهذا يتأثر بالأمور التي ليست من الكمال، أو ليست من الكمالِ
اللائق، تأثراً شديداً يدفع به إلى العُجْب والكبر. وكلما كثر حبه للنفس
وللدنيا، ازداد تأثرا بهذه الأمور. [119] فصل في بيان معالجة الكبر بعد
ما عرفت مفاسد الكبر، حاول أن تعالج نفسك مشمّراً عن ساعد الجد للبحث
عن العلاج، واشحذ همّتك لتطهير القلب من هذا الدرن، وأزل الغبار والأتربة
عن مرآته. فإذا كنت ممن قويت نفوسهم، واتسعت صدورهم، ولم يتجذر
حب الدنيا في قلبك، ولم يبهرك زبرجها وزخرفها، وكانت عين إنصافك
مفتوحة، فإن الفصل السابق خير علاج علمي لك. وإذا لم تكن قد دخلت هذه
المرحلة، ففكّر قليلا في حالك، فلعل قلبك يصحو. فيا أيها الإنسان الذي لم
تكن شيئا في أول أمرك، وكنت كامنا دهور العدم والآباد غير المتناهية، ما هو
الأقل من العدم و اللاشيء على صفحة الوجود؟ ثم لمّا شاء تْ مشيئة الله أن
يظهرك، إلى عالم الوجود فمن جرّاء قلة قابليتك الناقصة و تفاهتك وضعتك
وعدم أهليتك لتقبل الفيض، أخرجك من هيولى العالم - المادة الأولى - التي
لا تكون سوى القوة المحضة والضعف الصرف، إلى صورة الجسمية والعنصرية،
التي هي أخسّ الموجودات وأحطّ الكائنات، ومن هناك أخرجك نطفة لو
مسّتها يدك لاستقذرتها وتطهّرت منها، ووضعك في منزل ضيق رجس هو
خصيتي الأب، وأخرجك من مجرى البول في حالة مزرية قبيحة، وأدخلك في
رحم الأم من مكان تنفر من ذكر أسمه. وحوّلك هناك إلى علقة ومضغة،
وغذّاك بغذاء يزعجك سماع أسمه ويخجلك. ولكن بما أن الجميع هذا هو حالهم
وتلك هي بليتهم، زال الخجل "والبَلِيَّةُ إِذا عَمَّتْ طابَتْ". في كل هذه
التطورات كنت أرذل الموجودات وأذلها وأحطها، عاريا عن إدراك ظاهري
وباطني، بريئا من كل الكمالات. ثم شملتك رحمته وجعلك قابلا للحياة،
فظهرت فيك الحياةرغم كونك في أشد حالات النقص، بحيث أنك كنت
أحط من الدودة في أمور حياتك، فزادت برحمته تدريجيا قابليتك على إدارة
شؤون حياتك، إلى أن أصبحت جديرا بالظهور في محيط الدنيا، أظهرك في هذه
الدنيا من خلال أشد المجاري ضعة، وفي أوطأ الحالات، وأنت أضعف في
الكمالات وشؤون الحياة، وأدنى من جميع مواليد الحيوانات الأخرى. وبعد أن
منحك بقدرته [120] قواك الظاهرية والباطنية، ما زلت ضعيفاً وتافهاً بحيث
أن أيّاً من قواك ليست تحت تصرفك، فلست بقادر على المحافظة على صحتك،
ولا على قواك ولا على حياتك، ولست بقادر على الاحتفاظ بشبابك
وجمالك. وإذا ما هاجمتك آفة أو انتابك مرض فلست بقادر على دفعهما
عنك. وعلى العموم، ليس تحت تصرفك شيء من ذلك. لو جعت يوما
لتنازلت حتى لأكل الجيفة، ولو غلبك العطش لما امتنعت عن شرب أي ماء
آسن. وهكذا أنت في شؤونك الأخرى عبد ذليل مسكين لا قدرة لك على
شيء. ول و قارنت حظك من الوجود ومن الكمالات بما لسائر الموجودات،
لوجدت أن ك وكل الكرة الأرضية، بل وكل المنظومة الشمسية، لا قيمة لكم
مقابل هذا العالم الجسماني الذي هو أدني العوالم وأصغرها. أيها العزيز! إنك لم
تر سوى نفسك، والذي رأيته لم تضعه موضع الاعتبار والمقارنة. حاول أن
تنظر إلى نفسك وما تملك من شؤون الحياة وزخارف الدنيا وقارنها بمدينتك.
وقارن مدينتك بوطنك، ووطنك بسائر الدول في الدنيا التي لم تسمع بأكثر
من واحدة بالمائة منها، وقارن كل الدول بالكرة الأرضية، والأرض بالمنظومة
الشمسية، وبالكرات الواسعة التي تعيش على فتات أشعة الشمس المنيرة، وقارن
كل المنظومة الشمسية الخارجة عن محيط فكري وفكرك، بالمنظومات الشمسية
الأخرى التي تعد شمسنا وجميع سياراتها، واحدة من سيارات إحدى تلك
المنظومات التي لا يمكن أن تقارن شمسنا معها، والتي يقال أن ما اكتشف منها
حتى الآن يبلغعدة ملايين من المجّرات، وأن في هذه المجرة القريبة الصغيرة عدة
ملايين من المنظومات الشمسية التي تكبر أصغر شمسها على شمسنا ملايين
المرات وتسطع نور أكثر. هذه كلها من العوالم الجسمانية التي لا يعرفها إلا
خالقها، وإن ما اكتشفت منها لا يبلغ الجزء الضئيل منها. وكل عوالم الأجسام
هذه لا تكون شيئا بالقياس إلى عالم ما وراء الطبيعة، فهناك عوالم لا يمكن
للعقل البشري أن يتخيلها. هذه شؤون حياتك وحياتي وهذه حظوظنا ونصيبنا
من عالم الوجود. وعندما تشاء إرادة الله أن تتوفاك وتنقلك من هذه الدنيا،
فإنه يأمر جميع قواك بالاتجاه نحو الضعف وجميع حواسك بالتوقف عن العمل،
فتختل أجهزة وجودك، ويذهب [121] سمعك وبصرك وتضمحل قواك
وقدراتك، فتصبر قطعة جماد تزكم بعد أيام رائحتك العفنة، أنوف الناس
وتؤذي مشامّهم، ويهربون من صورتك وهيئتك، وما أن تمضي عليك أيام
أخر حتى تهترأ أعضاؤك وتتفسخ. هذه هي أحوال جسمك، أما أحوال
أموالك وثروتك فأمرها معروف. أما علم برزخك: فإنك إن انتقلت من هذه
الدنيا - لا سمح الله - قبل أن تصلحه فالله يعلم كيف تكون صورتك، وكيف
تكون أحوالك، إذ أن قوى الإدراك في هذا العالم عاجزة عن أن تسمع أو ترى
أو تشم شيئا من ذلك العالم. إن ما تسمعه عن ظلمة القبر ووحشته وضيقه إنما
تقيسه على ما في هذا العالم من ظلمة ووحشة وضيق، مع أن هذا القياس
وهذه المقارنة باطلة. نسأل الله أن ينجينا مما أعددنا لأنفسنا بأنفسنا!. إن
عذاب القبر أنموذج من عذاب الآخرة والمستفاد من بعض الأحاديث أن أيدينا
تقصر عن الوصول إلى شفاعة الشفعاء في القبر، فياله من عذاب! إن نشأة
الآخرة أشد وأفظع من جميع الحالات السابقة. إنه يوم تبرز فيه الحقائق،
وتنكشف فيه السرائر، وتتجسد فيه الأعمال والأخلاق. يوم تصفيه الحساب،
يوم الذلة في المواقف. تلك هي أحوال يوم القيامة!. ما حال جهنم التي تكون
بعد يوم القيامة فأمرها معلوم أيضاً. إنك تسمع أخباراً عن جهنم! إن النار
ليست وحدها عذاب جهنم. فلو أن باباً منها انفتحت على عينيك وعلى هذا
العالم لهلك أهلها خوفا. وكذلك لو انفتحت باب أخرى على أذنيك، وأخرى
على خياشيمك، لو أن أيّاً منها فتح على أهل هذا العالم لهلكوا جميعا من شدة
العذاب. يقول أحد علماء الآخرة: مثلما أن حرارة جهنم أشد ما تكون،
كذلك برودتها أشد ما تكون. والله تعالى قادر على أن يجمع الحرارة
والبـرودة. هكذا هي نهاية حالك. إذاً، فالذي أوله عدم غير متناه، وهو منذ
أن يضع قدمه في الوجود تكون جميع تطوراته قبيحة وغير جميلة، وكل حالاته
مخجلة، وكل من دنياه وبرزخه [122] وآخرته أفجع من الأخرى، بم يتكبر؟
بأي جمال أو كمال يتباهى؟ إن من كان جهله أكبر وعقله أصغر كان تكبره
أكثر ومن كان علمه أكثر وروحه أكبر وصدره أوسع، كان تواضعه أكثر.
النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان علمه من الوحي الإلهي،
وكانت روحه من العظمة بحيث أنها بمفردها غلبت نفسيات كل البشر، إن
هذا النبي قد وضع جميع العادات الجاهلية والأديان تحت قدميه، ونسخ جميع
الكتب، واختتم دائرة النبوة بشخصه الكريم، وكان هو سلطان الدنيا والآخرة
والمتصرف في جميع العوالم بإذن الله، ومع ذلك كان تواضعه مع عباد الله أكثر
من أي شخص آخر. كان يكره أن يقوم له أصحابه احتراما، وإذا دخل مجلسا
لم يتصدر ويتناول الطعام جالسا على الأرض قائلا: إنني عبد، أكل مثل العبيد
وأجلس مجلس العبيد. لقد نقل عن الإمام الصادق عليه السلام أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب أن يركب الحمار من دون سرج، وأن
يتناول الطعام مع العبيد على الأرض، وكان يعطي الفقراء بكلتا يديه. كان
ذلك الإنسان العظيم يركب الحمار مع غلامه أو غيره، ويجلس على الأرض
مع العبي، وفي سيرته أن ه كان يشترك في أعمال المنزل، ويحتلب الأغنام،
ويرقع ثيابه ويخصف نعله بيده، ويطحن مع خادمه ويعجن، يحمل متاعه
بنفسه، ويجالس الفقراء والمساكين ويأكل معهم. هذه وأمثالها، نماذج من سيرة
ذلك الإنسان العظيم وتواضعه، مع أنه فضلا عن مقامه المعنوي كان في أكمل
حالات الرئاسة الظاهرية. وهكذا قد اقتدى به أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه السلام، إذ كانت سيرته من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم. فيا
أيها العزيز! إذا كان التكبر بالكمال المعنوي، فقد كان الرسول الأعظم صلى
الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام أرفع شأناً، وإذا كان بالرئاسة
والسلطان، فقد كانت لهما الرئاسة الحقة. ومع ذلك، كانا أشد الناس تواضعا.
واعلم، أن التواضع وليد العلم والمعرفة، والكبر وليد الجهل وانعدام المعرفة،
فامسح عن نفسك عار الجهل والانحطاط، وأتصف بصفات الأنبياء، واترك
صفات [1 23] الشيطان، ولا تنازع الله في ردائه - الكبرياء - فمن ينازع
الحق في ردائه فهو مغلوب ومقهور بغضبه، ويُكَبُّ على وجهه في النار. وإذا
عزمت على إصلاح نفسك، فطريقه العملي، أمر يسير مع شيء من المثابرة،
وإنه طريق لو اتصفت بهمة الرجال وحرية الفكر وعلو النظر، فلن تصادفك
أية مخاطر. فـإن الأسلوب الوحيد على النفس الأمّـارة، وقهر الشيطان،
ولإتّباع طريق النجاة، هو العمل بخلاف رغباتهما. إنه لا يوجد سبيل أفضل
لقمع النفس من الاتصاف بصفة التواضع ومن السير وفق مسيرة المتواضعين
فحيثما تكن درجة التكبر عندك، ومهما تكن طريقتك في العلم والعمل،
أعمل قليل بخلاف هوى نفسك، فإن مع الالتفات إلى الملاحظات العلمية تجاه
التكبر، والانتباه إلى النتائج المطلوبة. إذا رغبت بأن تتصدر المجلس متقدما على
أقرانك، فخالفها وأعمل عكس ما ترغب فيه. وإذا كانت نفسك تأنف من
مجالسة الفقراء والمساكين، فمرِّغ أنفها في التراب وجالسهم، وآكلهم،
ورافقهم في السفر، ومازحهم وقد تجادلك نفسك فتقول لك: إن لك مقاماً
ومنزلة، وإن عليك أن تحافظ على مقامك من أجل ترويج الشريعة والعمل في
سبيلها، فمجالستك الفقراء تذهب بمنزلتك من القلوب، وإن المزاح مع مَنْ هو
دونك، يقلل من عظمتك، وجلوسك في ذيل المجلس يحط من هيبتك، فلا
تقدر أن تؤدي واجبك الشرعي على خير وجه!! اعلم، أن هذه كلها من
مكائد الشيطان والنفس الأمارة. لقد كان مقام رسول الله صلى عليه وآله
وسلم في الدنيا من حيث الرئاسة والمركز أرفع منك، ومع ذلك كانت سيرته
هي التي قرأت عنها وسمعت بها. لقد عاصرت شخصيا من العلماء من كانت
لهم الرئاسة والمرجعية الدينية كاملة في دولة واحدة، بل ولكل الشيعة في العالم
وكانت سيرتهم تلي سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. منهم، الأستاذ
المعظم والفقيه المكرم الحاج الشيخ عبدالكريم الحائ ري اليزدي حيث كانت
له رئاسة الشيعة ومرجعيتهم من 1340هـ ( 1920 م ( المترجم) ) حتى
[124] 1355هـ ( 1935 م ( المترجم ) ). كان سيرته عجيبة، كان
يوافق الخدم في السفر، ويؤاكلهم، ويفترش الأرض، ويمازح صغار الطلبة.
وخلال أيام مرضه في أواخر حياته، كان يخرج بعد المغرب يتمشى في الشارع
وقد لفّ رأسه بقطعة قماش بسيطة متنعلاً حذاءاً بسيطاً من دون أي اهتمام
بالمظهر، وكان هذا يزيد من وقعة في القلوب، من دون أن تصاب هيبته بأي
اهتزاز أو وهن. وكان هناك آخرون من علماء قم ممن لم يلتفتوا أبدا إلى هذه
التقيدات التي يحيكها لك الشيطان. كانوا يشترون حاجياتهم من السوق
بأنفسهم، ويحملون الماء من مخازن المياه إلى بيوتهم، ويشتغلون في منازلهم.
وكان صدر المجلس وذيله سواء عندهم. وكانوا على درجة من التواضع بحيث
تبعث على التعجب ومع ذلك كله كان مقامهم محفوظا بل كانت منزلتهم
تسمو في قلوب اناس أكثر فأكثر. وعلى أي حال، إن صفة النبي الأكرم صلى
الله عليه وآله وسلم وصفة علي بن أبي طالب عليه السلام لا تقلل من قدر
الإنسان إذا اتصف بها. ولكن لا بُدَّ من ينتبه الإنسان إلى مكائد النفس في
هذه الحالات، لأنها كثيرا ما تكون قد أعدت لك فخّاً آخر لتوقعك فيه. فقد
يجلس - أحدهم من يريد التخلص من الكبير- في ذيل المجلس بهيئة من يريد أن
يقول أن مقامه أرفع من مقامات الحاضرين، ولكنه لتواضعه جلس حيث. وإذا
التبس على الناس الأمر وقدّموا عليه من يشك في أفضليته عليه، فإنه - من
يهرب من صفة التكبر - يقدم على نفسه من لا يشك في تأخره عنه لكي
يزيل ذلك الالتباس بالإيحاء بأن تأخيره في الدخول على المجالس وتقديم الآخرين
على نفسه يكون من باب التواضع. هذه ومئات الأمثلة الأخرى من هذا القبيل
هي من مكائد النفس التي تريد للإنسان التكبر والرياء. فلا بُدَّ من المجاهدة
الخالصة الص ادقة وبها يمكن إصلاح النفس. إن جميع الصفات النفسانية قابلة
للإصلاح، إلا أن الأمر في البداية يتطلب بعض العناء، ولكن ما أن يضع قدمه
على طريق الإصلاح حتى يسهل عليه الأمر. إنما المهم هو أن يشرع في التفكير
في تطهير نفسه وإصلاحها، والاستيقاظ من النوم. [125] إن المرحلة الأولى
من مراحل الإنسانية هي "اليقظة" وهي الاستيقاظ من نوم الغفلة، والصحوة
من سكر الطبيعة، والإدراك بأن الإنسان مسافر، وأنه لا بُدَّ للمسافر من زاد
وراحلة. وزاد الإنسان خصاله، وراحلته في هذه المرحلة الخطيرة المخيفة، وفي
هذه الطريق الضيقة، على الصراط الذي هو أحدَّ من السيف وأدق من الشعرة،
هي همّة الرجال وعزمهم. والنور الذي ينير ظلام هذا الطريق، هو نور الإيمان
والخصال الحميدة. فإذا تقاعس الإنسان ووهنت همته أخفق في العبور،
وانكب على وجهه في النار، وساوى تراب الذل، وانقلب في هاوية الهلاك.
فمن ل يستطع اجتياز هذا الصراط لا يستطيع اجتياز صراط يوم القيامة أيضا.
فيا أيها العزيز، أشدد عزيمتك، ومزّق عن نفسك سجف الجهل، وانج بنفسك
من هذه الورطة المهلكة! كان إمام المتقين وسالك طريق الحقيقة ينادي في
المسجد بأعلى صوته حتى يسمعه الجيران: "تـَجـَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللهُ فَقَدْ
نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحيلِ"( نهج البلاغة - الخطبة - 204 - ( الشيخ صبحي
الصالح ) )! وما زادٌ ينفعك سوى الكمالات النفسانية، وتقوى القلب،
والأعمال الصالحة، وصفاء الباطن، وخلوص النية من كل عيب وغش. فإذا
كنت من أهل الإيمان الناقص والصوري، فعليك أن تطهّر نفسك من هذا
الغش حتى تنضم إلى زمرة السعداء والصالحين. والغش يزول بنار التوبة والندم،
وبإدخال النفس في أتون العذاب واللوم، وصهرها في حرارة الندامة والعودة
إلى الله. عليـك أن تعمل فـي هذا العالم، وإلاّ فإن {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، ال
َّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ}(الهمزة 6،7). سوف تذيب قلبك. والله أعلم كم
قرن من قرون الآخرة يستغرق إصلاحك هذا!! إن التطهر في هذه الدنيا سهل
يسير، فالتغّيرات والتصورات سريعة الوقوع فيها، أما في العالم الآخر فالتغيير
يكون بشكل آخر، فزوال صفة من صفات النفس قد يستغرق قرونا عديدة.
إذاً، أيها الأخ، ما دمت في مقتبل عمرك، وزهرة شبابك، وأوج قوتك،
وحرية إرادتك، سارع لإصلاح نفسك، ولا تلق بالاً لهذا الجاه والمقام، وطأ
على هذه الاعتبارات بقدميك إنك إنسان، فأبعد نفسك عن صفات الشيطان،
فلعلّ [126] الشيطان يهتم بهذه الصفة اهتماماً كبيراً لكونها صفة من
صفاته. وهي التي أدت إلى طرده من حضرة الله، ولذلك فهو يريد أن يوقع
الإنسان، عارفاً أو عاميّاً عالماً أو جاهلا، في مثل هذه الرذيلة، حتى إذا ما
لقيك يوم القيامة شَمَتَ بك قائلاً: "ويا أبن آدم، ألم يخبرك الأنبياء بأن اتكبر
على أبيك قد طردني من حضرة الحق. لقد نزلت عليّ لعنة الله لأني احتقرت
مقام آدم واستعظمت مقامي، فلماذا أوقعتك نفسك في هذه الرذيلة"؟.
وعندئذ تصبح، أيها المسكين! موضع شماتة أرذل مخلوقات الله وأحطها، فضلاً
عن عذابك وابتلاءاتك وندامتك وحسرتك مما يعجز الكلام عن وصفه. إن
الشيطان لم يكن قد تكبّر على الله، بل على أدم وهو من مخلوقات الحق، فقال:
{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (الأعراف/12). فاستعظم نفسه
واستحقر آدم. وأنت تستصغر بني آدم وتستكبر بنفسك عليهم، فـأنت أيضاً
تعصي أوامر الله. لقد قال لك تعالى: كن متواضعاً مع عباد الله، ولكنك تتكبر
وتتعالى عليهم. فلماذا، تلعن الشيطان وحده؟ أشرك نفسك الخبيثة معه في اللعن
أيضاً، مثلما أنت شريكه في هذه الرذيلة. إنك من مظاهر الشيطان، بل إنك
تجسّد الشيطان. ولربما كانت صورتك في البرزخ وفي يوم القيامة صورة
شيطانية. فإن المقياس في صورة الإنسان في الآخرة الملكات الحاصلة للنفس.
فليس هناك ما يمنع من أن تكون على صورة شيطان، أو على صورة نملة
صغيرة، إن موازين الآخرة تختلف عن موازين الدنيا. فصل قد يكون الحسد
سببا للتكبر اعلم أن من الممكن أحياناً أن يتكبّر فاقد الكمال على واجد
الكمال، كأن يتكبر الفقير على الغني والجاهل على العالم. ولا بُدَّ أن نعرف أنه
مثلما كان العُجب أحيانا مدخلا للتكبر، فإن الحسد قد يصبح أيضاً مدخلاً
إليه. فالإنسان الذي يفتقر إلى كمال موجود في غيره، يندفع إلى أن يحسده، ثم
يصير سبباً لكي يتكبر عليه ويسعى جهده لإذلالهِ وإهانته. [127] روى عن
الإمام الصادق عليه السلام أنه قال "الكِبَرُ قَدْ يَكونُ فِي شِرارِ النَّاسِ مِنْ كُلِّ
جِنْسٍ ..."ثُمَّ قَالَ "إِنَّ رَسولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَرَّ فِي بَعضِ
طُرقِ المَدِيَنِة وَسَوْدَاءَ تَلقطِ السرقين، فَقِيلَ لَهَا: تَنَحِّي عَنْ طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ
صَلّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ الطَرِيقَ لَمَعرض. فَهَمَّ بِهَا بَعْضُ القَوْمِ
أنْ يَتَنَاوَلها، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وَسَلَّم: "دَعُوهَا فإِنَّهَا
جَبَّارة"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الكبر، ح 2
). وقد تظهر هذه الصفة في بعض أهل العلم، مبرراً أن التواضع أمام الأغنياء
غير محمود، وتقول له نفسه الأمارة بالسوء إن التواضع للأغنياء منقصة للإيمان.
إن المسكين لا يميّز بين التواضع لغني من أجل غناه والتواضع لغير ذلك. فمرة
يتواضع الإنسان مدفوعا برذيلة حب الدنيا والانجذاب نحو طلب الجاه والمقام.
فليس هذا من خلق التواضع في شيء، بل إنه المداهنة والملق وأنه من الرذائل
النفسانية، وصاحبها لا ي تواضع للفقراء، إلا إذا طمع فيهم بشيء أو أراد
منهم شيئا. ومرة أخرى يكون طبع التواضع في الإنسان داعية له إلى احترام
الناس والتواضع لهم. فقراء كانوا أم أغنياء، مرموقين كانوا أم مغمورين. فهذا
تواضعه خالص من غير شائبة، وروحه طاهرة مطهرة، لم يجتذب قلبه الجاه
والمقام. إنه تواضع محمود للفقراء ومحمود للأغنياء، فلا بُدَّ من احترام كل
إنسان بما هو خليق به. أما تحقيرك لأهل الجاه والغنى والتكبر عليهم فلا يعني
أنك لست متملقا، بل يعني أنك حسود، وتكون في الوقت نفسه على خطأ.
ولهذا إذا رأيتهم يحترمونك على غير انتظار وتوقع، تتواضع لهم وتخفض لهم
جناحك. وعلى كل حال، إن مكائد النفس وأحابيلها من الدقة المتناهية بحيث
أن المرء لا يسعه إلا أن يستعيذ بالله منها. وَالحَمْدُ لله أوّلاً وآخِراً. [129]
الحَديــــث الــخَـــامِس" الــحسَـــــــد
[130] "بالسند المتصَّـل إلى محمَّـد ب يعقوب عن علــيّ بن
إبراهيم، عن محمّد بن عيســى، عن يونس، عن داود الرقي، عن أبي
عبدالله عليه السلام قال: قالَ رَسُــولُ اللّــه صَــلى اللّه عَليهِ
وآلِــهِ وسَــلَّم: قالَ اللّه عَزَّ وَجــلّ لِمَــوسَى بنِ عُـمْراِن: "يا
ابْــنَ عُمْـرانِ لا تًـحْسُدَنَّ النّــاسَ عَلى ما اتَـيْتُــهُمْ مِـنْ
فَضْلي ولا تَمُدَّنَّ عَيْنيــْكَ إِلى ذلِكَ وَلا تُتْبِــعْهُ نَفْسَكَ فَإنَّ الحاسِدَ
ساخِطٌ لِنِعَــمي صادٌ لِقِسْمِيَ الَّذي قَسَــمْتُ بَيْنَ عِبادي وَمَنْ
يَــكُ ذلِكَ فَلَــسْتُ مِنْهُ وَلَيْــسَ مِنّي"( أصول الكافي، المجلد الثاني،
كتاب الإيمان والكفر، باب الحسد، ح 6 ). [131] الـشرح: إن الحسد،
حالة نفسية يتمنى صاحبها سلب الكمال والنعمة التي يتصورهما عند الآخرين،
سواء أكان يملكها أم لا، وسواء أرادها لنفسه أم لم يردها. وهذا يختلف عن
الغبطة، لأن صاحب الغبط ة يريد النعمة التي توجد لدى الغير، أن تكون
لنفسه، من دون أن يتمنى زوالها عن الغير. وأما قولنا: "النعمة التي يتصورها
عند الآخرين" فنعني به أن تلك النعمة قد لا تكون بذاتها نعمة حقيقية. فطالما
تبين أن الأمور التي تكون بحد ذاتها من النقائص والرذائل، يتصورها الحسود
من النعم والكمالات، فيتمنى زوالها عن الآخرين. أو أن خصلة تعــدّ من
النقائص للإنسان ومن الكمال للحيوان ويكون الحاسد في مرتبة الحيوانية
فيراها كمالاً، ويتمنى زوالها. فهناك بين الناس، مثلا أشخاص يحسبــون
الفتك بالغير وسفك الدماء موهبة عظيمة، فإذا شاهدوا من هو كذلك
حسدوه. أو قد يحسبون سلاطة اللســان وبذاءته من الكمالات،
فيحسدون صاحبها. إذاً، فالمعيار في معرفة هذه الحالة النفسية هو توهّــم
الكمال وتصور وجود النعمة، لا النعمة نفسها، فالذي يرى في الآخرين نعمة
حقيقية كان، أو موهومة ويتمنى زوالها، يعـدّ حسوداً. اعلم أن للحسد
أنواعا ودرجات حسب حال المحسود، وحسب حال الحاسد، وحسب حال
الحسد ذاته. أما من حيث حال المحسود، فمثل أن يحسد شخصاً لما له من
كمالات عقلية، أو خصال حميدة، أو لما يتمتع به من الأعمال الصالحة
والعبادية، أو لأمور [131] خارجية أخرى، مثل امتلاكه المال والجاه والعظمة
والاحتشام وما إلى ذلك، أو أن يحسد على ما يقابل هذه الحالات من حيث
كونها من الكمال الموهوم الموجود في المحســود. أما من حيث حال
الحاسد، فقد ينشأ الحسد أحيانــا من العداوة، أو التكبّر، أو الخوف، وغير
ذلك من الأسباب والعوامل التي سيرد ذكرها فيما بعد. وأما من حيث حال
الحسد نفسه، الذي نستطيع أن نقوله أنها الدرجات والتقــسيمات
الحقيقية، للحسد دون ما سبق ذكره، فلشدته وخفته مراتب كثيرة، تختلف
باختلاف الأسباب، كما تختلف باختلاف الآثار. وسوف نشير، إن شاء الله،
في عدة فصول إلى مفاسد الحسد وعلاجه. قدر استطاعتنا، ومن الله التَّوفيق.
فـصل في ذكر بعض أسباب الحـسد للحسد أسباب كثيرة، يرجع أكثرها
إلى رؤية الذلة في النفس، تماما كمـا أن الكبر، - نوعا - يتم على عكس
ذلك. فكما أن المرء عندما يجد في نفــس كمالاً لا يجده في غيره، تنشأ عنده
حالة من الترفع والتعزز والتعالي في نفسه، فيتكبّر. وإذا لاحظ الكمال في غيره،
انتابته حالة من الذل والانكسار. ولولا وجود عوامل خارجية ولياقات
نفسانية، لنتج من ذلك الحسد. وقد ينشأ من تصور ذله في تساوي غيره معه،
مِثل أن يحسد صاحب الكمال والنعمة مثيله أو الذي يليه. ويمكن القول أن
الحسد هو ذلك الانقباض والذل النفسي اللذان تكون نتيجتهما الرغبة في زوال
النعمة والكمال عن الآخرين. وقـد حصـر بعضهـم - كالعلامة
المجلسـي قدس سره - ( بحار الأنوار، المجلد الثالث والسبعون، ص 240 )
أسباب الحسد في سبعة أمور: الأول: العداوة. لثاني: التعزز: أن يكون من
حيث يعلم أن يستكبر بالنعمة عليه وهو لا يطيق احتمال كبره وتفاخره لعزّة
نفسه. الثالث: الكبر: أن يكون في طبعه أن يتكبر على المحسود ويمتنع ذلك
عليه [133] بنعمته وهو المراد بالتكبر. الرابع: التعجب: أن تكون النعمة
عظيمة والمنصب كبيراً فيتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة كما أخبر الله
تعالى عن الأمم الماضية إذ قالوا: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا}(يس15). و{
أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} (المؤمنون47). وأمثال ذلك كثيرة فتعجبوا من أن
يفوزوا برتبة الرسالة والوحي والقرب مع أنهم بشر مثلهم فحسدوهم وهو
المراد بالتعجب. الخامس: الخوف: أن يخاف من فوات مقاصده بسبب نعمة
بأن يتوصل بها إلى مزاحمته في أغراضه. السادس: حب الرئاسة: أن يكون يحّب
الرياسة التي تنبني على الاختصاص بنعمة لا يساوى فيها. السابع: خبث
الطينة: أن لا يكون بس بب من هذه الأسباب بل لخبث النفس وشحّها بالخير
لعباد الله". ولكنني أعتقد كما أشرت إليه سابقا، أن معظم هذه الأسباب بل
كلها تعود إلى رؤية ذل النفس، وإن السبب المباشر لحسد حسب التعريف
المشهور له ما ذكرناه - انبعاث الحسد من رؤية ذل النفس فلا مجال لذكر
هذه الأقسام -. وأما بناءًا على ما ذكرناه في معنى الحسد من أن نفس هذه
الحال تكون حسداً فلا اعتراض على صحة ذكر هذه الأقسام. وعل ى أي
حال يكون البحث حول هذه المعاني بعيداً عن مقصودنا وعن طبيعة
موضوعنا. فصل في بعض مفاسد الحسد اعلم أن الحسد نفسه أحد الأمراض
القلبية المهلكة، ويتولّــد منه أيضاً أمراض قلبية كثيرة، كالكبر
وفســـاد الأعمال وتعدّ كل واحدة منها من الموبقات. وتشكّـــل
سبباً مستقـــلاً لهلاك الإنسان. ولسوف نباشر بذكر المفاسد الواضحة
منها. ولا شك في أن هناك مفاسد خفيّــة عن نظر الكاتب. [134] وأما
مفاسدالحسد فسنكتفي بما نقل عن الصادق المصدق: ففي صحيحة معاوية بن
وهب قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: آفَــةُ الدّيــنِ الحَسَــد
والعُــجْبُ وَالــفَخْرُ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب الحسد، ح 5). وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه
السلام: "إِن الرَّجُــلَ لَيَــأْتى بِأي بادِرَةٍ فَــيُكَــفَّرُ، وَإنَّ
الحَسَــدَ لَيَــأْكُــلُ الإيمان كَمـــا تَــأْكُــلُ النّــار
الحَطَبَ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الحسد، ح
1 ). ومعلوم أن الإِيمان نور إلهي يجعل القلب موضع تجليات الحق جلّ جلاله،
كما جاء في الأحاديث القدسية: "لا يَسَعُنِي أَرْضي ولا سَمائي بل يَسَعُني
قَلْبُ عبدِي الْمؤمِنِ"( إحياء العلوم، المجلد الثالث، ص 12. إتحاف السادة
المتقين، المجلد السابع ص 234. غوالي اللئالي، المجلد الرابع ص 7). فهذا ا لنور
المعنوي، وهذه البارقة الإلهية التي تجعل القلب أوسع من كل الموجودات،
تتعارض مع هذا الضيق والظلام اللذين تسببهما هذه الرذيلة، رذيلة الحسد. إن
هذه الصفة القبيحة تضغط على القلب وتضيقه فتبدو آثارها في كل كيان
الإنسان، باطنه وظاهره. إنها تصيب القلب بالحزن والكدر، والصدر
بالاختناق والضيق، والوجه بالعبوس والغضب. وهذه الحال تطفئ نور الإيمان،
وتميت قلب الإنسان، وكلما اشتدت ازداد ضعف الإيمان. إن جميع الصفات
المعنوية والظاهرية للمؤمن، تتنافى والآثار التي يوجدها الحسد في ظاهر
الإنسان وباطنه. إن المؤمن يحسن الظن باللّه تعالى، وهو راض بقسمه الذي
يقسمه بين عباده. أما الحسود فساخط على اللّه تعالى، يشيح بوجهه عن
تقديراته. لقد جاء في الحديث الشريف: إن المؤمن لا يتمنى السوء للمؤمنين،
بل هم أعزاء عنده، والحسود بعكس ذلك. المؤمن لا يغلبه حب الدنيا،
والحسود بل إنما و مُبْـــتَلى بشدة حبه للدنيا. والمؤمن لا يداخله خوف ولا
حزن إلا من بارئ الخلق تعالى، أما الحسود فخوفه [135] وحزنه يدوران
حول المحسود. والمؤمن طلق المحيا، وبشراه في وجهه، والحسود مقطب الجبين
عبوس الوجه. والمؤمن متواضع، والحسود متكبر في معظم الحالات. فالحسد،
آفة الإيمان التي تأكله، كما تأكل النار الحطب. ويكفي في شناعة هذه الرذيلة
هو أن الحسد يقضي على الإيمان الذي يعدّ وسيلة النجاة في الآخرة، وباعثا
لحياة القلوب، ويجعل الإنسان مفلساً ومسكيناً. وإن من المفاسد الكبيرة التي لا
تنفك عن الحسد، سخط الحسود على الخالق وولي نعمته وإعراضه عن تقديراته
تعالى. في هذا اليوم أن حجب الطبيعة الدكناء والحجب الحاصلة من انشغالنا
بهذه الطبيعة قد حجبت جميع مشاعرنا، فأعمت أعيننا وأصمت آذاننا، فلا
ندري إننا غاضبون تجاه مالك الملوك ومعرضون عنه ولا نعلم ما هي صورة
هذا الغض ب والإعراض في الملكوت حيث مساكننا الأصلية الدائمية؟ وإنما
يصل إلى أسماعنا قول الإِمام الصادق عليه السلام: "ومَنَ يَـكُ كَذلكَ
فـَلَسْتُ مَنْهُ وَلَيْسَ مِنّي" ولا نفهم ماذا يحمل لنا تبرؤ الحق تعالى منّا
وإعراضه عنّا من مصائب؟ إن من يخرج عن ولاية اللّه ويطرد من ظل راية
أرحم الراحمين لن يكون له أمل في النجاة، ولن يشفع له أحد: {مَنْ ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}(البقرة/255). من ذا الذي يتقدم ليشفع لمن يسخط
عليه اللّه ويكون خارجاً عن حرز ولايته، وقد انقطع حبل المودة بينه وبين
مالك الرقاب؟ واسوأتاه! واحسرتاه على ما نفعله بأنفسنا! لم يفتأ الأنبياء
والأولياء يصرخون في آذاننا ويريدون إيقاظنا من النوم، ولكننا نزداد غفلة
وشقاءً يوماً بعد يوم. ومن مفاسد هذا الخلق الذميم، كما يقول العلماء، ضيق
القبر وظلمته. إذ أنهم يقولون إن صورة هذا الخق الفاسد الرديء، التي فيها
ضيق نفساني وكدر قلبي، تشبه ضيق القبر وظلمته، إذ أن ضيق القبر أو
اتساعه منوط بضيق الصدر أو انشراحه. روي عن الإمام الصادق عليه
السلام - إلى أن قال -، وَأنَّ رَسولَ اللّه صَلى اللّه عَليه [136] وآله
وسلمَ خَرَجَ فِي جِنَــازَةِ "سَعْــد" وَقَــدْ شَيّعَــهُ سَبْــعُونَ
أًلْفَ مَلَكَ. فَرَفَعَ رَسُولُ اللّه صَلّى اللّه عَليهِ وَآله وسلم رَأسَهُ إلى
السَّــماءِ ثُمّ قالَ: مِثــلُ "سَعْد" يُضمّ؟ قال: قلت جعلت فداك أنّــا
نحدّث إنه كان يِسْــتَخِفُّ بِالْبَولِ فَقال مَعَاذَ اللّه، إنَّما كانَ مِنْ زعّارة في
خُـلُـقِه عَلى أَهْلِهِ ( فروع الكافي، المجلد الثالث، باب المسألة في القبر، ح
6، ص 236 ). إن الضيق والضغط والكدر والظلام الذي يحصل في القلب
بسبب الحسد قلّما يوجد في خلق فاسد آخر. ولى أي حال إن صاحب هذا
الخلق يعيش في الدنيا معذباً مبتلىً، ويكون له في القبر ضيق وظلمه، ويحشر في
الآخرة مسكيناً متألماً. هذه هي مفاسد الحسد نفسه دون المفاسد الخلقية
الأخرى، أو الأعمال الفاسدة الباطلة، التي يمكن أن تتولد عن الحسد،
وقــلّما يتفق أن لا تتولد عن الحسد مفاسد أخرى بل إن عدداً من
السيئات الأخلاقية والأعمال الباطلة الأخرى تكون وليدة الحسد، كالكِبر في
بعض الحالات، كما سبق، والغِيبة، والنميمة، والشتم، والإِيذاء، وغير ذلك
مما هو من الموبقات والمهلكات. فعلى الإنسان العاقل أن يشمّر عن ساعد الجد
لينقذ نفسه من هذا العار وإيمانه من هذه النار المحرقة والآفة الصعبة، وأن ينجو
بنفسه من ضغط الفكر وضيق الصدر في هذه الدنيا - وهما نوعان من العذاب
المرافقان للعمر كلّه - وكذلك من الضيق والظلمة في القبر وفي البرزخ، ومن
غضب اللّه تعالى. على الإنسان أن يفكر قليلاً ليدرك أن أمراً له هذا القدر من
المفسد يجب أن يعالج، مع العلم أن حسدك لن يضر المحسود. فلا تزول نعمته
بمجرد حسدك له، بل يكون له نفع دنيوي وأخروي، وذلك لأن شقائك
وحزنك وأنت عدوه وحاسده يعد نفعاً له. فهو يرى أنه متنعم وأنت معذب
بتنعمه، وهذه نعمة له. فإذا انتبهت لهذه النعمة الثانية التي تتوفر للمحسود
جلبت لنفسك عذاب وضغط فكري آخِرَيْن ويعتبر عذابك هذا نعمة له
وهكذا. وعليه، فإنك تكون دائما في عذاب وشقاء وتعاسة وغمّ، وهو في
نعمة وسرور وانبساط. وفي الآخرة أيضاً يكون حسدك له نفعاً له، وخصوصاً
إذا كان الحسد قد دفع بك إلى الغيبة والافتراء وسائر الرذائل، مما يستوجب
أخذ حسناتك وإعطائها له، فتعود أنت مفلساً، ويزداد هو نعمة وعظمة.
[137] لو أنك أمعنت الفكر في هذه الأمور لأقدمت على تطهير نفسك من
هذه الرذيلة وأنقذت نفسك من هذه المهلكة. ولا تظنن أن الرذائل النفسانية
والخلق الروحية غير ممكنة الزوال ، إن ظنوناً باطلة توحيها إليك النفس
الأمارة والشيطان لكي تنحرف عن سلوك الآخرة وإصلاح النفس. فما دام
الإنسان في دار الزوال وعالم التبدل هذا، فمن المم كن أن يتغيّر في جميع صفاته
وأخلاقه، ومهما تكن صفاته متمكنة، فإنها قابلة للزوال ما دام حياً في هذه
الدنيا، وإنما تختلف صعوبة التصفية وسهولتها نتيجة شدّة هذه الصفات
وخفّتها. ومن المعلوم أن إزالة صفة حديثة الظهور في النفس إنّما يتحقق بقليل
من الجهد والترويض، كالنبتة في أيامها الأولى التي لم ترسل جذورها إلى
الأعماق بعد ولم تتمكن من التربة. ولكن إذا تمكنت تلك الصفة من النفس
وأصبحت من الملكات المستقرة فيها، فإنه يصعب إزالتها، ورغم أن إزالتها
ممكنة، كاقتلاع شجرة ضخمة معمرّة ضربت بجذورها في أعماق التربة،
فكلما تقاعست وأبطأت في مساعيك لاقتلاع جذور المفاسد من قلبك
وروحك، ازداد تعبك وعنائك في اجتثاثها. فيا عيزي؛ إن الوقوف منذ البداية
دون تسرب المفاسد الأخلاقية أو العملية إلى مملكة ظاهرك وباطنك، أيسر
بكثير من إخراجها بعد توغلها، لأن ذلك يتطلب الكثير من العناء والجهد.
وإذا تسربت، فإنك كلما أخرت التصدي لإخراجها، ازداد الجهد المطلوب
منك وضعفت قواك الداخلية. يقول شيخنا الجليل والعارف الكبير الشاه آبادي
( روحي فداه ): إن الإنسان في عز شبابه وقوة فتوته يكون أقدر على الوقوف
بوجه المفاسد الأخلاقية، وأفضل في أداء واجبه الإنساني. فلا تتركوا هذه
القوى تضيع من أيديكم، ويستولي عليكم ضعف الشيخوخة، وعندئذٍ يصعب
عليكم التوفيق في مساعيكم، وحتى لو أنكم وفقتم، فإن ذلك الإصلاح
سوف يتطلب منكم الكثير من المشقة والتعب. وعليه، إذا فكّر الإنسان العاقل
في المفاسد ووجد أنه غير داخل فيها، فإنه يستطيع أن يمنع نفسه من التلوث
بها، وإذا وجد نفسه - لا سمح الـلّه - مبتلاةً بها، فخي ر له أن يسرع في
إصلاح نفسه قبل أن تتجذّر تلك المفاسد فيه، وإذا كانت - لا [138] سمح
اللّه - قد تجذّرت فيه فعليه أن يبذل كل جهد مستطاع في سب يل اقتلاع
تلك الجذور لئلا يصل إلى مرحلة اللاعودة في البرزخ والآخرة، لأنها إذا أعطت
ثمرها، وخرج صاحبها بخلقه الفاسد من هذه الدنيا المتبدلة في هيولاها والمتغيرة
في جوهرها، خرج أمر اقتلاعها من يديه، وهيهات أن يتبدّل خلق من
الأخلاق النفسانية في الآخرة أو في البرزخ. جاء في مضمون حديث عن
رسول الـلّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم، أن الخلود في الجنة أو في النار منوط
بنية الإنسان. فالنوايا الفاسدة، التي هي وليدة الأخلاق والرذيلة، لا يمكن أن
تزول إلا بزوال منشئها. إن الملكات في ذلك العالم تكون على درجة من شدّة
الظهور وقوته بحيث أن زوالها إما لا يكون ممكناً، فيكون صاحبها مخلداً في
النار. وإمّا إذا أمكن بالضغوطات والمشاق والنيان إزالتها، فإن ذلك قد يحدث
ولكن بعد قرون ربوبية. فيا أيها الإنسان العاقل! إن ما يمكن أن تصلحه في
شهر أو في سنة من التعب الق ليل الدنيوي وبمحض اختيارك واضعاً حدّاً
لشقائك في الدنيا والآخرة، لا تهمله لكيلا يوردك موارد الهلاك. فصـل في
بيان جذور المفاسد الخلقيـة سبق القول بأن الإيمان، الذي هو حظ القلب،
غير العلم الذي هو حظ العقل. ثم إن جميع المفاسد الأخلاقية والعملية تنشأ عن
كون القلب غافلاً عن الإيمان، وأن ما يدركه العقل عن طريق البرهان العقلي
أو عن طريق أخبار الأنبياء لم يوصله إلى القلب، ولذلك فالقلب لا يعرف عنه
شيئاً. إن من بين المعارف التي يصدّقها الحكماء والمتكلمون وعامّة الناس من
أهل الشرائع، ولا يشكون فيها أبداً، هو أن ما جرى به قلم الحكيم المطلق
جلّت قدرته من الوجود والكمال ومن بسط النعمة وتقسيم الآجال والأرزاق،
جاء على خير تقدير وأجمل نظام، وهو يت طابق كل التطابق مع المصالح
التامة والنظام الكلي لأتم نظام متصور. ولكن يعبر كل واحد - من الحكماء
والمتكلمين - بلسانه الخاص [139] واصطلاحه الذي يختص بفنه الذي اتخذه
وسيلة لتبيان هذه النعمة الإلهية والحكمة الكاملة. يقول العارف: ظلّ الجميل
جميل على الإطلاق. ويقول الحكيم: النظام العيني المطابق للنظام العلمي خال
من النقص والشرور، والشرور المتوهمة الجزئية هي من أجل إيصال الكائنات
إلى كمالاتها التي تليق بها. ويقول المتكلم وأهل الشرائع: أفعال الحكيم تكون
على أساس من الحكمة والصلاح، وأن أيدي العقول البشرية الجزئية المحدودة
قاصرة عن إدراك المصالح العالية في التقديرات الإلهية. هذا الموضوع يدور على
ألسنة الجميع، وكل ما يستدل على ذلك بأدلة تتناسب مع مدى سعة علمه
وعقله. ولكن بما أنه لم يتعد حدود الأقوال إلى حيث القلوب والأحوال، فإن
ألسنة الاعتراض مطلقة، وأن من لم يكن ه حظ من الإيمان يقوم بتفنيد برهانه
وتكذيب قوله. وعلى هذا الأساس تكون المفاسد الأخلاقية. وليعلم من يحسد
الناس ويتمنى زوال النعمة عن الآخرين، ويحقد في قلبه على أصحاب النعم، أنه
لا إيمان له بأن اللّه عزّ وجل من باب معرفة الصالح أسبغ نعمه على أولئك،
وأن إدراكنا لذلك قاصر. وليعلم أيضاً أنه لا يؤمن بعدل اللّه تعالى ولا يرى
التقسيم عادلاً. إنك في أصول العقائد تقول إن اللّه عادل، وما هذا إلاّ مجرد
لفظة على لسانك. إن الإيمان بالعدل يناقض الحسد. إنك إذا كنت ترى اللّه
عادلاً، لرأيت تقسيمه عادلاً أيضاً. وقد جاء في الحديث الشريف: يقول الـلّه
عزّ وجل: "إن الحسود يشيح بوجهه عمّا قسمته بين العباد، وهو ساخط
على نعمي". إن القلب يخضع بالفطرة للقسمة العادلة، وينفر بالفطرة كذلك
من العسف والجور. إن الفطرة الإلهية الكامنة في أعماق البشر حب العدل
والرضى به، وكراهة الظلم وعدم ا لانقياد له. فإذا رأى خلاف ذلك فليعلم أن
في المقدمات نقصاً. فإذا سخط على النعمة وأعرض عن القسمة، فذلك لأنه لا
يرى ذلك عدلاً، بل يراه - والعياذ باللّه - جوراً. وليس معناه أنه يرى القسمة
عادلة ثم يعرض عنها، أو أنه يرى الخطة المرسومة مطابقة للنظام الأتم
والمصلحة التامة، ثم يسخط عليها بل يرى أن هذا جور ومغاير للعدل. أسفاً
علينا! إن إيماننا ناقص، ولم تخرج أدلتنا العقلية من نطاق العقل لتصل إلى
حدود القلب. ليس الإيمان بالقول [140] والسماع والمطالعة والمباحثة
والنقاش فحسب وإنما يتطلب أيضاً خلوص النية. إن الباحث عن اللّه يجده لا
محالة، والذي يطلب المعارف يبحث عنها، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي
الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}(الإسراء72). {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا
لَهُ مِنْ نُورٍ} (النور40). فصـل في بيان المعالجة العملية لحسـد يوجد
فضلاً عن العلاج العلمي الذي ذكرنا بعضه، العلاج العملي لهذه الرذيلة، وذلك
بأن تتكلف إظهار المحبة للمحسود وترتب الأمور بحيث يكون هدفك هو
معالجة مرضك الباطني. إن نفسك تدعوك لإيذائه واعتباره عدواً، وتكشف لك
عن مساوئه ومفاسده. ولكن عليك أن تعمل خلافاً لما تريده النفس، وأن
تترحم عليه وتحترمه وتجلّه. وأحمل لسانك على أن يذكر محاسنه، وأعرض
أعماله الصالحة على نفسك وعلى الآخرين، وتذكّر صفاته الجميلة. صحيح أن
هذا سوف يكون متكلفاً في بادئ الأمر ومن باب المجاز دون الحقيقة ولكن لما
أن الهدف هو إصلاح النفس وإزالة هذه المنقصة والرذيلة، فإن نفسك سوف
تقترب في النهاية من الحقيقة، ويخف تكلفك شيئاً فشيئاً، وترجع نفسك إلى
حالها الطبيعي وتصبح ذات واقعية. قل لنفسك، على الأقل: إن هذا الإنسان
عبد من عباد اللّه، ولعل اللّه نظر إليه نظرة لطف فأنعم عليه بما أنعم، خصّه د
ون غيره بها، خصوصاً إذا كان المحسود من رجال العلم والدين، وأنه
محسـود على ذلك، فإن مثل هذا الحسد يكون أقــبح، ومعاداة أمثال هؤلاء
أسوأ عاقبة. ولا بُــدَّ من تفهيم النفس بأن هؤلاء هم من عباد اللّه
المُـخْـلَـصِين الذين شملهم توفيق منه، ووهبهم هذه النعم العظيمة. وهي نعم
يجب أن تبعث في القلوب المحبة لهم واحترامهم والخضوع لهم. فإذا رأى أن
هذه الأمور التي يجب أن تكون دافعاً على المحبة والاحترام توجب نقيض ذلك
فعليه أن يعلم أن الشقاء قد اكتنفه من كل جانب، وأن الظلام قد أحاط
[141] بباطنه، فلا بُــدَّ أن يبادر إلى إصلاح نفسه بالطرق العلمية
والعملية. وليعلم أنه إذا اتخذ طريق المحبة فإنه سرعان ما يكون موفقا، لأن نور
المحبة قاهر للظلمة ومزيل للكدر، ولقد وعد اللّه تعالى المجاهدين أن يهديهم
وأن يعينهم بلطفه الخفي ويوفقهم. إنّه وليّ التوفيق والهداية. فصـل في ذكـر
حــيـث الــرفـع اعلم أن ه ورد في بعض الأحاديث الشريفة ما
مضمونه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم قال: إن اللّه رفع عن أمتي
تسع... ومنها الحسد إذا لم يظهر من خلال يده أو لسانه. ومن المعلوم أنه يجب
أن لا تَــحُولَ أمثال هذا الحديث الشريف دون المساعي الجادة لقلع هذه
الشجرة الخبيثة من النفس، ولا تمنع المحاولات المبذولة في سبيل تطهير الروح من
هذه النار التي تحرق الإيمان، ومن هذه الآفة التي تقضي عليه، لأنه يندر أن
تدخل هذه الرذيلة المفسدة إلى نفس إنسان ولا تتوالد فيها المفاسد المختلفة، ثم
لا يظهر أثرها أبدا، ويحافظ على إيمان الإنسان. مع أنه قد ورد في الأحاديث
الصحيحة أن هذه الصفة تأكل الإيمان، وإنها آفة الإيمان، وأن اللّه تعالى بريء
من صاحبها، وإنه مطرود من حضرته، فيجب أن لا يغفل الإنسان عن مثل هذا
الأمر الخطير والفساد الكبير الذي يهدد كل وجوده وطاقاته، م تمسكاً
بالتفسير الظاهري لهذا الحديث الشريف. عليك إذاً، أن تقــوم جاهـداً،
بتقليـم فروع الحسد، والسعي لإصلاح النفس، ولا تدع شيئاً منه يترشح إلى
الخارج، وعندئذٍ تضعف جذوره، ويقف نموه. وإذا وافتك المنية وأنت ماضٍ في
سبيل الإصلاح والترويض للنفس، فإن رحمة اللّه سوف تشملك، ولسوف
ينالك العفو برحمة اللّه الواسعة وببركة الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه وآله
وسلم، وإذا بقيت منه باقية فإن بوارق الرحمة الإلهية سوف تحرقها وتطهّر
النفس وتزكّيها. أما ما جاء في رواية حمزة بن حمران، عن أبي عبداللّه عليه
السلام أنه [142] قال: "ثَلاثَـــةٌ لَمْ يَـنْجُ مِنْها نَبِيٌّ فَمَنْ دُونَهُ فِي
الوَسْوَسَةِ فِي الْـخَلْـقِ والطِّيرَةُ والحَـسَدُ إِلاّ أنَّ المُؤْمِنَ لا يَسْتَعْمِلُ
حَـسَدَهُ"( وسائل الشيعة، المجلد 11، أبواب جهاد النفس، باب تحريم الحسد،
ح 8 ) فإنه إما يكون من باب المالغة الدالة على كثرة الابتلاء بها، وإما أن
يكون التعبير كناية عن كثرة الابتلاء دون أن يكون القصد هو مضمون الكلام
بذاته، وإما أنه اعتبر الحسد أعم من الغبطة، من باب المجاز، وإما أنه يقصد
بالحسد تمنّي زوال بعض النعم المستعملة لدى الكفار في ترويج مذهبهم الباطل.
وإلا فإن الأنبياء والأولياء مطّهرون من الحسد بمعناه الحقيقي. إن القلب الملوث
بالمساوئ الأخلاقية والقذارات الباطنية لا يمكن أن يهبط عليه الوحي والإلهام،
ولا يكون موطن التجليات الذاتية والصفاتية. إذاً، لا بُــدَّ أن يفسر هذا
الحديث بحسب ما ذكر، أو بشكل آخر، أو يرد علمه إلى قائلة صلوات اللّه
عليه. والحمد لله أولاً وآخراً. [143] الحَـــــديث
السَــــادِس "من أصبح وأمسى والدنيا أو الآخِرة أكـبر همـّه"
[144] بالسند المتَّصل إلى محمّد بن يعقوب عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن
محمّد، عن ابن محبوب، عن عبدالله بن س نان وعبدالعزيز العبدي، عن
عبدالله بن أبي يعفور، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "مَنْ أَصْبَــحَ
وأَمْسى وَالدُّنْـــيَا أَكْبَرُ هَمَّه، جَعَــلَ اللَّــهُ الفَقْـــرَ بَيْنَ
عَيــنَــيْــهِ وَشَتَّــتَ أَمْــرَهُ وَلَــمْ يَنَــلْ مِنَ الدُّنْــيَا
إلاّ مَـــا قُسِمَ لَــهُ وَمَنْ أَصْبَحَ وَأمْــسَى وَالآخِـرَةُ أَكْبَــرُ
هَمَّــه، جَعَــلَ اللَّــهُ الغِنَى فِي قَلْبِــهِ وَجَمَــعَ لَهُ أَمْــرَهُ"(
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح 15 ).
[145] الشرح: اعلمِ أن للدنيا والآخرة اطلاقات حسب آراء أرباب العلوم
ولدى مقاييس معارفهم وعلومهم ولا يكون البحث عن حقيقتها على ضوء
المصطلحات العلمية بمهمة لدينا، فإن بذل الجهد في فهم الاصطلاحات والرد
والقبول والجرح والتعديل يحول دون بلوغ القصد. وإنما المهم في هذا الباب
هم فهم الدنياالمذمومة التي على طالب الآخرة أن يتحرز منها. وما يعين
الإنسان على النجاة، وسوف نبين ذلك إنشاء الله في بضعة فصول، ونسأل
الـلّه تعالى التوفيق في سلوك هذا الطريق. فصل في بيان كلام مولانا المجلسي -
رحمة اللّه عليه - في حقيقة الدنيا المذمومة يقول المحقق الخبير والمحدث المنقطع
النظير مولانا المجلسي رحمة اللّه عليه: ( فاعلم أن الذي يظهر من مجموع
الآيات والأخبار على ما نفهمه أن الدنيا المذمومة مركبة من مجموع أمور تمنع
الإنسان من طاعة الـلّه وحبه وتحصيل الآخرة، فالدنيا والآخرة، ضرّتان
متقابلتان فكلما يوجب رضى الله سبحانه وقربه فهو من الآخرة، وإن كان
بحسب الظاهر من أعمال الدنيا كالتجارات والصناعات والزراعات التي يكون
المقصود منها تحصيل المعيشة للعيال لأمره تعالى به وصرفها [146] في وجوه
البر، وإعانة المحتاجين، والصدقات، وصون الوجه عن السؤال وأمثال ذلك،
فإن هذه كل ها من أعمال الآخرة وإن كان عامة الخلق يعدونها من الدنيا.
والرياضات المبتدعة والأعمال الريائية، وإن كان مع الترهب وأنواع المشقة فإنها
من الدنيا لأنها مما يبعد عن الله ولا يوجب القرب إليه كأعمال الكفار
والمخالفين ) انتهى كلامه ( بحار الأنوار، المجلد 73، باب حب الدنيا، ص 63
). ونقل المجلسي - رحمه اللّه - عن أحد المحققين: "دنياك وآخرتك عبارة
عن حالتين من أحوال قلبك، والقريب الداني منهما يسمى الدنيا وهي كل ما
قبل الموت، والمتراخي المتأخر يسمى آخرة، وهي ما بعد الموت. فكل مالك فيه
حظ وغرض ونصيب وشهوة ولذ ة في عاجل قبل الوفاة، فهي الدنيا في
حقك..."( بحار الأنوار، المجلد 73، باب حب الدنيا، ص 25 ). يقول الفقير
إلى الله: إن الدنيا مرة تطلق على نشأة الوجود النازلة والتي هي دار تصرّم
وتغيّر ومجاز، والآخرة تطلق على الرجوع من هذه النشأة إلى ملكوت الإنسان
وباطنه والتي ه دار بقاء وخلود وقرار. وهاتان النشأتان متحققتان لكل نفس
من النفوس وشخص من الأشخاص. وعلى العموم، لكل كائن مقام ظهور
وملك وشهود. وتلك هي مرتبته النازلة الدنيوية. ومقام باطني، وملكوت
غيبي، وهي النشأة الصاعدة الأخروية. وهذه النشأة النازلة الدنيوية وإن كانت
ناقصة بذاتها وإنها آخر مراتب الوجود، ولكن لما كانت مهد تربية النفوس
القدسية، ودار تحصيل المقامات العالية، ومزرعة الآخرة، فإنها من أحسن
مشاهد الوجود وأعز النشآت، وهي المغنم الأفضل عند الأولياء وأهل سلوك
الآخرة. ولولا هذه الأمور الملكيّة والتغييرات والحركات الجوهرية، الطبيعية
والإرادية، ولولا أن يسلط الـلّه تعالى على هذه النشأة التبدّلات والتصرّمات،
لما وصل أحد من ذوي النفوس الناقصة إلى حد كماله الموعود ودار قراره
وثباته، ولحصل النقص الكلي في الملك والملكوت. [147] إن ما ورد في
القرآن والأحاديث عن ذم هذه الد نيا، لا يكون عائدا في الحقيقة إلى الدنيا من
حيث نوعها أو كثرتها، بل يعود إلى التوجه نحوها وانشداد القلب بها ومحبتها.
وعليه، يتبين من ذ لك أن أمام الإنسان دنياءان: دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة.
فالممدوح هو الحصول في هذه النشأة وهي دار التربية ودار التحصيل ومحل
التجارة لنيل المقامات واكتساب الكمالات والإعداد لحياة أبدية سعيدة، مما لا
يمكن الحصول عليه دون الدخول إلى هذه الدنيا، كما جاء في خطبة لمولى
الموحدين أمير المؤمنين علي عليه السلام ردا على من ذم الدنيا: "... إنّ الدُّنْيَا
دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَها، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنىً لِمَنْ تَزَوَّدَ
مِنْهَا، وَدَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنْ اتّعـَظَ بِهَا. مَسْجِدُ أحِبّاءِ اللّهِ، وَمُصَلّى مَلائِكَةِ اللَّهِ،
وَمَهْبـَطُ وَحْي اللَّهِ، وَمَتْجَرُ أوْلِيَاءِ اللَّهِ. اكْتَسَبُوا فِهَا الَّحْمَةَ، وَرَبَحُوا فِيهَا
الجَنَّةَ ..."( نهج البلاغة، الحكمة رقم 131 ( الشيخ صبحي الصالح ) ) وقال
تعالى:{... وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}(النحل30). وهي دار الدنيا حسب ما ورد في
تفسير العيّاشي عن الإمام الباقر عليه السلام. وعليه، فإن عالم الملك، وهو
مظهر الجمال والجلال وحضرة الشهادة المطلقة، ليس مذموماً بهذا المعنى، بل
المذموم هو دنيا الإنسان نفسه، أي التوجه إليها والتعلق بها وحبها، وهذا هو
منشأ كلّ المفاسد والخطايا القلبية والظاهرية. كما جاء في كتاب الكافي
الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام: قال عليه السلام: "رَأْسُ كُلّ خَطِيئَةٍ
حُبُّ الدُّنْيَا"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب حب
الدنيا، ح1 و 3 ). وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "مَا ذِئْـــبَانِ
ضَارِيَان فِي غَنَمٍ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ هذا في أَوَّلِهَا وَهذا في آخِرِ هَا بِأَسْــرَعَ
فِيهَا مِنْ حُبِّ الـــمَالِ وَالشَّــرَفِ فِي دينِ المُــؤْمِنِ"( نهج البلاغة
- الخطبة 5 - ( الشيخ صبحي الصالح ). فتعلق القلب بالدنيا وحبها، هو
الدنيا المذمومة. وكلما كان التعلق بها أشد كان الحجاب بين الإنسان ودار
الكرامة، والحاجز بين القلب والحق سبحانه، [148] أسمك وأغلظ. وإن ما
جاء في الأحاديث الشريفة من أن لله سبعين ألف حجاب من النور والظلمة،
يمكن أن يكون المقصود من حجب الظلمة هذه الميول والتعلقات القلبية نحو
الدنيا. فكلما كان التعلق بالدنيا أقوى، كان عدد الحجب أكثر، وكلما كان
الحب لها أشد، كان الحجب أغلظ واختراقها أصعب. فصل في بيان سبب
ازدياد حب الدنيا اعلم أنه ولما كان الإنسان وليد هذه الدنيا الطبيعية، وهي
أمه، وهو ابن هذا الماء والتراب، فإن حب الدنيا يكون مغروساً في قلبه منذ
مطلع نشوئه ونموه، وكلما كبر في العمر، كبر هذا الحب في قبه ونما. وبما وهبه
الـلّه من القوى الشهوانية ووسائل التلذذ للحفاظ على ذاته وعلى البشرية،
يزداد حبه ويقوى تعلقه، ويظن أنّ الدنيا إنّما هي دار اللذات وإشباع الرغبات،
ويرى في الموت قاطعاً لتلك ا للذات، وحتى لو كان يعرف من أدلة الحكماء
أو أخبار الأنبياء صلوات اللّه عليهم أن هناك عالماً أخروياً فإن قلبه يبقى غافلاً
عن كيفية عالم الآخرة وحالاته وكمالاته ولا يتقبله، فضلاً عن بلوغه مقام
الاطمئنان. ولهذا يزداد حبّه وتعلقه بهذه الدنيا. وبما أن حب البقاء فِطري في
الإنسان، فهو يكره الزوال والفناء، ويظن أن الموت، فناء. ولو أنه آمن بعقله
بأن هذه الدنيا دار فناء ودار ممر، وأن العالم الآخر عالم بقاء سرمدي، فما دام
إيمانه العقلي هذا يكون موجوداً، ولم يدخل الإيمان قلب، بل ولم يحصل
الاطمئنان الذي هو المرتبة الكاملة للإيمان القلبي. فهو لا يزال يميل فطرةً، إلى
الدنيا والبقا ء فيها كما طلب إبراهيم خليل الرحمن من الحق المتعال هذا
الاطمئنان، فأنعم به عليه. إذاً، إما أن القلوب لا تؤمن بالآخرة، مثل قلوبنا،
وإن كنا نصدق بها تصديقاً عقلياً، وإما أنها لا اطمئنان فيها، فيكون حب
البقاء في هذا العالم، وكراهة الموت والخروج من هذا العالم في القلب موجوداً.
ولو أدركت القلوب أن هذه الدنيا هي أدنى العوالم، وأنها دار الفناء والزوال
والتصرم والتغيّر، وأنها دار الهلاك ودار النقص، وأن العوالم الأخرى التي تكون
بعد الموت عوالم باقية وأبدية، وأنها دار كمال وثبات وحياة وبهجة وسرور،
لحصل فيها بالفطرة حب تلك العوالم، ولنفرت من هذه الدنيا. ولو ارتفع
الإنسان عن هذا [149] العالم ووصل إلى مقام الشهادة والوجدان ورأى
الصورة الباطنية لهذا العالم وللتعلق به، والصورة الباطنية لذلك العالم - عالم
الآخرة - والتعلق به، لأصبح هذا العالم ثقيلاً عليه، وغصّة في حلقه ولنفر منه،
واشتاق للتخلص من هذا السجن المظلم ومن سلسلة قيود الزمان والتغير. كما
جاء في كثير من كلام الأولياء. يقول الإمام علي عليه السلام: "وَاللَّهِ لابْنُ
أَبِي طَالِبٍ آنـَسُ بِالمَوْتِ مِنَ الطِّفـْلِ بِثَـدْيِ أُمِّهِ"( نهج البلاغة - الخطبة
5 - ( الشيخ صبحي الصالح ). ذلك لأنه رأى بعين الولاية حقيقة هذه الدنيا،
فلا يؤثر على مجاورة رحمة الحق المتعال شيءٌ أبداً. ولولا المصالح لما ثبتت
نفوسهم الطاهرة، لحظة واحدة في سجن الطبيعة المظلمة. إن الوقوع في الكثرة،
ونشأة الظهور والاشتغال بالتدبرات المُلكية بل التأييدات الملكوتية، يعدّ كل
ذلك للمحبين والمنجذبين، ألم وعذاب ليس بقدورنا أن نتصورهما. إن أكثر
أنين الأولياء إنما هو ألم فراق المحبوب والبعد عن كرامته، كما أشاروا إلى ذلك
بأنفسهم في مناجاتهم، على الرغم من أنهم لا يحجبهم حجاب مُلكي أو
ملكوتي، وقد اجتازوا ج حيم الطبيعة الذي كان خامداً غير مستعر، وقد خلوا
من التعلق بالدنيا وتطهرت قلوبهم من الخطيئة الطبيعية. إلاّ أن الوقوع في عالم
الطبيعة هو بذاته تلذذ طبيعي وقسري، مما كان يحصل لهم، ولو بأقل مقدار،
فكان ذلك من باب الحجاب. وفي ذلك ي قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله وسلم: "لَيُرَانُ عـَلَى قَلْبِي وإنّي لأَسْــتَغفِرُ اللّه فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعينَ
مَرَّةً"(نهاية ابن أثير، ص 180، ج 3. الجامع الصغير، ج 1 ص 103.
صحيح مسلم، ج 8 ص 72 ). ولعل خطيئة آدم أبي البشر نجمت عن هذا
التوجه القسري نحو تدبير المُلِك والحاجة الاضطرارية إلى القمح وسائر الأمور
الطبيعية، وهذه خطيئة بالنسبة إلى أولياء الـلّه والمنجذبين إليه. ولو بقى آدم
عليه السلام في ذلك الانجذاب الإلهي، ولم ي دخل في قضية المُلك، لما حدث
كل هذا الشقاء والعناء في الدنيا والآخرة. [150] فصل في بيان تأثير
الحظوظالدنيوية في القلب ومفاسده اعلم أن ما تناله النفس من حظ في هذه
الدنيا، يترك أثراً في القلب، وهو من تأثير الملك والطبيعة، وهو السبب في تعلقه
بالدنيا. وكلّما ازداد التلذذ بالدنيا، اشتد تأثر القلب وتعلقه بها وحبه لها، إلى
أن يتجه القلب كـُلّياً نحو الدنيا وزخارفها، وهذا يبعث على الكثير من
المفاسد. إن جميع خطايا الإنسان وابتلاءه بالمعاصي والسيئات سببها هذا الحب
للدنيا والتعلق بها كما ورد في الحديث الذي أوردناه من كتاب أصول الكافي
قبل قليل. وإن من المفاسد الكبيرة لحب الدنيا - كما كان يقول شيخنا
العارف (روحي فداه)- هو أنه إذا انطبع حب الدنيا على صفحة قلب
الإنسان، واشتد الأنس بها، انكشف له عند الموت أن الحق المتعال يفصل بينه
وبين محبوبه، ويفرّق بينه وبين مطلوبه، فيغادر الدنيا ساخطاً مغتاظاً على ولي
نعمته. إن هذا القول القاصم للظهر يجب أن يوقظ الإنسان أيّما إي قاظ
للحفاظ على قلبه. فالعياذ باللّه من إنسان يسخط على ولي نعمته، مالك الملوك
الحق، إذ ليس أحد يعرف صورة هذا السخط والعداء، غير اللّه تعالى. ويقول
أيضاً شيخنا المعظم - دام ظله - نقلاً عن أبيه المعظم، إنه كان في أواخر
عمره خائفاً بسبب المحبة التي كان يكنّها لأحد أولاده، ولكنه بعد الانهماك
بالرياضات النفسية تخلص من ذلك الخوف، وانتقل إلى دار السرور مسروراً،
رضوان الـلّه عليه. جاء في "الكافي" بإسناده عن طلحة بن زيد، عن أبي
عبدالله عليه السّلام قال: "مَثَلُ الدُّنيا كَمَثـَلِ ماءِ البحرِ كُلَّما شَرِبَ مِنْهُ
العطشانُ ازدادَ عَطَشاً حَتَّى يقتل"(أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب ذم الدنيا ح 54 ). إن حب الدنيا ينتهي بالإنسان إلى الهلاك
الأبدي، وهو أصل البلايا والسيّئات الباطنية والظاهرية وقد نقل عن رسول
الـلّه صلّى الـلّه عليه وآله وسلم قول: "إِنَّ الدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ أَهْلَـكَا مَنْ
كَانَ قَبْلَكُمْ، وَهُمَا مُهْلِكَاكُمْ". [151] وعلى فرض أن الإنسان لم يرتكب
معاصي أخرى - على الرغم من أن هذا الفرض بعيد، أو من المستحيل عادة -
فإن التعلق بالدنيا نفسه معصية، بل أن مقياس طول بقاء الإنسان في عالم القبر
والبرزخ هو أمثال هذه التعلقات. فكلّما كان التعلق بالدنيا أقل كان البرزخ
وقبر الإنسان أكثر نوراً وأوسع، ومكثه فيه أقصر. لذلك فقد ورد في بعض
الروايات: إن عالم القبر لأولياء الله لا يزيد عن ثلاثة أيام، وإنّما كان هذا
لأجل التعلق الطبيعي والعلاقة الجِبِلّية لأولياء الـلّه تجاه العالم. وإن من مفاسد
حب الدنيا والتعلّق بها هو أنه يجعل الإنسان يخاف الموت. وهذا الخوف
الناشئ من حب الدنيا، والتع لق القلبي بها المذموم جداً. غير الخوف من المرجع
- مآل الإنسان بعد الموت - المعدود من صفات المؤمنين. إن أهم صعوبة في
الموت هي ضغوطات لرفع هذه العلائق، والخوف من الموت. يقول المحقق
المدقق الإسلامي البارع، السيد العظيم الشأن، الداماد، كرّم اللّه وجهه، في
كتابه "القبسات" الذي يعد من الكتب النادرة: "لاَ يُخيِفنك الموتُ، فإنَّ
مَرارَته في خوفه"(قبسات ميرداماد، ص 72). ومن المفاسد الكبيرة لحب الدنيا
أنه يمنع الإنسان من الرياضات الشرعية والعبادات والمناسك، ويُقويّ جانب
الطبيعة في الإنسان بحيث يجعلها تعصي الروح وتتمرد عليها ويوهن عزم
الإنسان وإرادته، مع أن من أكبر أسرار العبادات والرياضات الشرعية هو أن
تجعل الجسم وقواه الطبيعية تابعة ومنقادة للروح بحيث يكون للإرادة دوراً مؤثراً
في الجسم ويخضع الجسم لأوامر الإرادة فيعمل ما تشاء، ويمتنع عمّا تشاء،
ويصبح مُلك الجسم وقواه الظاهرة مقهوراً ومسخّراً للملكوت بحيث أنه يقوم
بما يريد من دون مشقة ولا عناء. إن من الفضائل والأسرارالشاقة والصعبة
للعبادات تحقق هذا الهدف - تسخير مُلك الجسم للملكوت - أكثر حيث
يصير الإنسان بذلك ذا عزم، ويتغلب إلى الطبيعة والملك. فإذا اكتملت الإرادة
وقوي العزم واشتد، أصبح كمَــثَل الجسم وقواه الظاهرة والباطنة مَثَل
ملائكة اللّه الذين لا يعصون الله وإنما يطيعونه [152] في كل ما يأمرهم به
وينهاهم عنه، من دون أن يعانوا في ذلك عنتاً ولا مشقة. كذلك إذا أصبحت
قوى الإِنسان مسخّرة للروح، زال كل تكلف وتعب وتحوّل إلى الراحة
واليسر، واستسلمت أقاليم الملك السبعة للملكوت وأصبحت جميع القوى
عمّالاً له. فاعلم، يا عزيزي، أن العزم والإرادة القوية لذلك العالم ضروريان
وذات فعالية. إن البلوغ لأحد مراتب الجنة والذي يُعدّ من أفضلها هو العزم
والإرادة. فالإنسان الذي ليست له إرادة نافذة ولا عزم قوي لا ينال تلك الجنة
ولا ذلك المقام الرفيع. جاء في الحديث، أن أهل الجنة عندما يستقر ون فيها،
تنزل عليهم رسالة من ساحة القدس الإلهي جلّت عظمته بهذا المضمون: "هذه
رسالة من الحي الثابت الخالد إلى الحي الثابت الخالد إلى الحي الثابت الخالد. أنا
الذي أقول للشيء: كن، فيكون. وقد جعلتك اليوم أيضاً في مستوىً إذا أمرت
الشي: وقلت له كن، فيكون". فلاحظ أي مقام و سلطان هذا؟ وأية قدرة
إلهية هذه التي تجعل إرادة الإِنسان مظهراً لإرادة اللّه! فــيُلبس العدم لباس
الوجود؟ هذه القدرة وهذا النفوذ هما أفضل وأرفع من كل النعم الجسمانية.
وبديهي، أن تلك الرسالة لم تكتب عبثاً وجزافاً. إن من كانت إرادته تابعة
للشهوات الحيوانية، وعزيمته ميته خامدة، لا يصل إلى هذا المقام. إن أعمال اللّه
منزّهة عن العبث. فكما أن هذا العالم قائم على النظام والترتيب، على الأسباب
والمسببات، كذلك هي الحال في العالم الآخر، بل إن العالم الآخر ألْيَق بالنظام
والأسباب والمسببات، وإن جميع نظا عالم الآخرة ينبعث من المناسبات
والأسباب، وإن نفوذ الإرادة يجب أن يتهيأ من هذا العالم، فإن الدنيا مزرعة
الآخرة وإن هذا العالم مادة لكل نعم الجنة ونقم النار. إذاً، كل عبادة من
العبادات وكل منسكٍ من المناسك الشرعية، فضلاً عن إن لها صورة أخروية
وملكوتية، وبها يتم عمارة الجنة الجسمانية وقصورها، وتهيئة الغلمان والحور
- طبقاً للبراهين والأحاديث - فإن لكل عبادة من العبادات أيضاً أثراً يحصل في
النفس، مما يقوّي الإِرادة شيئاً فشيئاً ويصل بقدرتها إلى حد الكمال. [153]
لذلك كلّما كانت العبادات أشق كانت أرغب: "أَفْضَــلُ الأَعْمَــالِ
أَحْــمَزُهَا"(نهاية ابن الأثير، المجلد الأول، ص 440، مادة"همز"أهمزها أي
أقواها وأشدّها ). فالتنازل عن النوم اللذيذ في ليل الشتاء البارد، والانصراف
إلى عبادة الحق المتعـال، يزيد من قوة الروح وتغلبها على قوى الجسم، ويقوّي
الإرادة. وإذا ك ان هذا في أول الأمر على شيءٍ من المشقة والعناء، فإن ذلك
يخف تدريجاً كلّما واصل العبادة، وازدادت طاعة الجسم للنفس. إذ أننا نلاحظ
أن أهل العبادة يقومون بالأعمال دون مشقة وتكلف. أما نحن فشعورنا
بالكسل وبالمشقة ناشئ من أننا لا نبدأ بالعمل. فلو إننا بدأنا العمل وكررناه
عدة مرات، لتبدلت مشقته إلى راحة، بل إن أهلها يلتذون بها أكثر مما نلتذ نحن
بمشتهيات الدنيا. إذاً، الأمر يصبح عادياً بالتكرار. والخير عادة. ولهذه العبادة
ثمرات، منها: أن صورة العمل نفسه تصبح على قدر من الجمال في ذلك العالم
لا يكون له نظير في هذا العالم، ونكون عاجزين عن تصور مثلها. ومنها: أن
النفس تصبح ذات عزم واقتدار، فتكون لها نتائج كثيرة، وقد سمعت واحدة
منها. ومنها: أيضاً أنها تجعل الإِنسان يأنس بالذكر والفكر والعبادة، فإن المجاز
قد يقرّب الإنسان إلى الحقيقة، فيتوجه القلب إلى مالك الملوك، وتحل المحبة
لجمال المحبوب الحقيقي، ويخفّ تعلق القلب وحبه للدنيا والآخرة. إذ لو
حصلت الجاذبية الربوبية والحال الخاصة، لأمكن إدراك حقيقة العبادة والسر
الحقيقي للتذكر والتفكر، ولسقط كِلا العالمين- الدنيا والآخرة - من نظره،
ولأذهب تجلّي الحبيب غبار الرؤية الإثنينيّة من القلب ولا يعر ف أحد سوى
الـلّه الكرامة المعطاة لمثل هذا العبد؟ وكما يقوى عزم الإِنسان بالرياضات
الشرعية والعبادات والمناسك وترك الرغبات ويصبح الإنسان ذا عزم وإرادة،
فكذلك في المعاصي تتغلب الطبيعة لدى الإنسان وتضعف إرادته وعزمه. كما
سبق ذكر شيء منه. [154] فصــــــل الإنسان بفطرته يحب
الكمال التّام المطلق لا يخفى على كل ذي وجدان أن الإنسـان، بحسب
فطرته الأصيلة وجبلّته الذاتية، يعشق الكمال التام المطلق، ويتوجه قل به شطر
الجميل على الإطلاق والكامل من جميع الوجوه. وهذا من فطرة الله التي فطر
الناس علي ها وبهذا الحب للكمال، تتوفر إرادة المُلك والملكوت، وتتحقق
أسباب وصول عشّاق الجمال المطلق إلى معشوقهم. غير أن كل امرئ يرى
الكمال في شيء ما، حسب حاله ومقامه، فيتوجه قلبه إليه. فأهل الآخرة يرون
الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، فقلوبهم متوجهة إليها. وأهل اللّه يرون
الكمال في جمال الحق، والجمال في كماله سبحانه يقولون {إِنِّي وَجَّهْتُ
وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ }(الأنعام//79). ويقولون: "لي مَعَ
اللَّهِ حال"( إشارة إلى الحديث المشهور المنقول عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله وسلم ( لي مع اللّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ) راجع
كتاب أحاديث المنوي ) وفيهم حب وصاله وعشق جماله. وأهل الدنيا عندما
رأوا أن الكمال في لذائذها، وتـبيّن لأعينهم جمالها، اتجهوا فطرياً نحوها. ولكن
على الرغم من كل ذلك، فإنه لمّا كانَ التوجه الفطري والعشق لذاتي قد تعلقا
بالكمال المطلق، كان ما عدا ذلك من التعلقات عرضياً ومن باب الخطأ في
التطبيق. إن الإنسان مهما كثر مُلكه وملكوته، ومهما نال من الكمالات
النفسية أو الكنوز الدنيوية أو الجاه والسلطان، ازداد اشتياقه شدّه، ونار عشقه
التهاباً. فصاحب الشهوة، كلّما ازدادت أمامه المشتهيات، ازداد تعلق قلبه
بمشتهيات أخرى ليست في متناول يده، واشتدّت نار شوقه إليها. وكذلك
النفس التي تطلب الرئاسة، فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطر من الأقطار،
تتوجه بنظرة طامعة إلى آخر، بل لو أنها سيطرت على الكرة الأرضية برمتها،
لرغبت في التحليق نحو الكرات الأخرى للاستيلاء عليها. إلاّ أن هذه النفس
المسكينة لا تدري بأن الفطرة إنّما تتطلع إلى شيءٍ آخر. إن العشق الفطري
الجبلّي يتجه إلى المحبوب المطلق، إن جميع الحركات [155] الجوهرية
والطبيعية والإرادية، وجميع التوجهات القلبية والميول النفسية تتوجه نحو جمال
الجميل الأعلى على الإِطلاق، ولكنهم لا يعلمون، فينحرفـون بهذا الحب
والعشق والاشتياق - التي هي براق المعراج وأجنحة الوصول - إلى وجهة هي
خلاف وجهتها، فيحرّروها ويقيدوها بلا فائدة. لقد بعدنا عن القصد، وهو
أنه لمّا كان الإنسان متوجهاً قلبياً إلى الكمال المطلق، فإنه مهما جمع من زخرف
الحياة فإن قلبه يزداد تعلقاً بها. فإذا اعتقد أن الدنيا وزخارفها هي الكمال
ازداد ولعه بها، واشتدت حاجته إليها، وتجلّى أمام بصره فقره إليها. بعكس
أهل الآخرة الذين أشاحوا بوجوههم عن الدنيا، فكلّما ازداد توجههم نحو
الآخرة، قلّ التفاتهم واهتمامهم بهذه الدنيا، وتلاشت حاجتهم إليها، وظهر
في قلوبهم الغِنى، وزهدوا في الدنيا وزخارفها. كما أن أهل الله مستغنون عن
كلا العالمين ( الدنيا والآخرة )، متحررون من كلتا النشأتين وكل حاجتهم
نحو الغنى المطلق، متجلّياً الغِنَى بالذات في قوبهم، فهنيئاً لهم. إذاً، مضمون
الحديث الشريف يمكن أن يكون إشارة لما مرّ شرحه من قوله: مَنْ أَصْبَحَ
وَأَمْسَى وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللَّهُ الفقرَ بَيْنَ عَيْـنَيْهِ، وَشَتَّتَ أَمْرَه، وَلَمْ يَنَلْ
مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قـُسِمَ لَهُ، وَمَنْ أَصْبَحَ وَأَمْسَى وَالآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللَّهُ
الغِنَى فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ". ومن المعلوم، أن من يتجه قلبه إلى الآخرة،
تغدو أمور الدنيا وصعابها في نظره حقيرة سهلة، ويجد هذه الدنيا متصرّمة،
ومتغيرة، ويراها معبراً ومتجراً وداراً للابتلاء والتربية، ولا يهتم بما فيها من ألم
وسرور، فتخف حاجاته ويقل افتقاره إلى أمور الدنيا وإلى الناس، بل يصل إلى
حيث لا تبقى له حاجة، فيجتمع له أمره، وتنتظم أعماله، ويفوز بالغِنى الذاتي
والقلبي. إذاً، كلّما نظرتَ إلى هذه الدن يا بعين المحبة والتعظيم، وتعلق قلبَك
بهـا، ازدادت حاجتك بحسب درجات حبك لها، وبان الفقر في باطنك
وعلى ظاهرك، وتشتـتّت أمورك واضطربت، وتزلزل قلبك، واستولى عليه
الخوف والهم، ولا تجري أمورك كما تشتهي، وتكثر تمنياتك ويزداد جشعك،
ويغلبك الغم والتحسر، ويتمكن اليأس من قلبك والحيرة، كما وردت الإشارة
إلى بعض ذلك في الحديث [156] الشريف. فقد روي في "الكافي" بإسناده
عن حفص بن قرط، عن أبي عبدالله الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "مَنْ
كَثُرَ اشْـتِبَاكُه بالدُّنْيَا كَانَ أَ شَدَّ لِحَسْرِتَهِ عِنْدَ فِرَاقِهَا"( أصول الكافي، كتاب
الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح 16). وعن أبي يعفور قال، سمعت أبا
عبدالله ( الصادق ) عليه السلام يقول: "مَنْ تَعَلَّق قَلْبُهُ بِالدُّنْــيا
تَعَــلَّــقَ قَلْبُهُ بِثَلاثِ خِصَا لٍ هَمٍّ لاَ يَفْنَى وَأَمَلٍ لاَ يُدْرَكُ وَرَجَاءٍ لا
يُنالُ"( أصول الكفي، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح 17 ) . أما
أهل الآخرة، فإنهم كلّ ما ازدادوا قرباً من دار كرم الله، ازدادت قلوبهم
سروراً واطمئناناً، وازداد انصرافهم عن الدنيا وما فيها. ولولا أن الله قد عين
لهم آجالهم لما مكثوا في هذه الدنيا لحظة واحدة. فَهُم، كما يقول أمير المؤمنين،
علي بن أبي طالب عليه السّلام: "نُزِّلَتْ أَنْفُسَهُ فِي البَلاءِ، كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي
الرَّخَاءِ، وَلـَوْلا الأَجَلُ الّـَذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيهم، لَمْ تَسْتَقِر أّرْوَاحُهُم فِي
أَجْسَ ادِهم طَرَفَةَ عَيْنٍ شَوْقـاً إِلَى الــثَّوَابِ"( نهج البلاغة - الخطبة
193 ( الشيخ صبحي الصالح ) ). جعلنا الله وإياكم منهم، إن شاء الله. إذاً،
يا عزيزي، بعد أن عرفت مفاسد هذا التعلق والحب، وأدركت أن ذلك يفضي
بالإنسان إلى الهلاك، ويجرّده من الإيمان، ويجعل دنياه وآخرته متشابكتين
مضطربتين، فشم ّر عن ساعد الجد، وقـلّل حسب طاقتك، التعلق بهذه
الدنيا، واقتلع جذور حبها من نفسك، واحتقر الأيام القليلة التي تقضيها في
الحياة، وأزهد في خيراتها المشوبة بالألم والعذاب والنقمة، واطلب من اللّه أن
يعينك على الخلاص من هذا العذاب وهذه المحنة، ويجعل قلبك يأنس بدارِ كرمه
تعالى: "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى". [157] الحَــديــث الـسَــابع
"الغـــضـــب" [158] بالسند المـتَّـصل إِلى محمدّ بن يعقوب
عن علي بن إبراهــيم، عن محمدّ بن عيسى، عن يونـس، عن داود بن
فــرقـد قـال: قال أبو عبدالله عـلـــيه السّــلام: "الغَـضبُ
مِــفْتاحُ كُـلِّ شَــر"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب الغضب، ح 3 ). [159] الشرح: قال المحقق الكبير أحمد بن
محمد، المعروف بابن مسكويه، في كتاب تهذيـب الأخلاق وتطهير الأعراق
القيم الذي يقل نظيره في حسن التــنظيم والبيان م نصه (تهذيب الأخلاق،
لأبي علي أحمد بن محمد مسكويه، ص 193 منشورات الجامعة الأمريكية -
بيروت): "والغضب بالحقيقة هو حركة للنفس يحدث بها غليان دم القلب
شهوة للانتقام. فإذا كانت هذه الحركة عنيفة، أججت نار الغضب وأضرمتها،
فاحتـدّ غليان دم القلب وامتلأت الشرايين والدماغ دخاناً مظلماً مضطرباً
يسوء منه حال العقل ويضعف فعله، ويصير مثل الإنسان عند ذلك على ما
حكته الحكماء مثل كهف مليء حريقاً وأضرم ناراً فاختنق فيها اللهيب
والدخان وعلا منه الأجيج والصوت المسمى وحي النار، فيصعب علاجه
ويتعذر إطفاؤه، ويصير كل ما تدنيه منه للإطفاء سبباً لزيادته ومادة لقوته.
فلذلك يعمى الإنسان عن الرشد ويصمّ عن الموعظة، بل تصير المواعظ في تلك
الحال سبباً للزيادة في الغضب ومادّة للّهيب والتأجج وليس يرجى له في تلك
الحال حيلة". ثم يقول ( تهذيب الأخلاق، لأبي علي أحمد بن محمد مسكويه،
ص 195 منشورات الجامعة الأمريكية - بيروت)"وأما سقراطيس( في كتاب
( الأربعون حديثا ) وأما بقراط... وفي كتاب تهذيب الأخلاق وأما
سقراطيس... ( المترجم ) ) قال أني للسفينة إذا عصفت بها الرياح [160]
وتلاطمت عليها الأمواج وقذفت بها إلى اللجج التي فيها الجبال، أرجى مني
للغضبان الملتهب، وذلك أن السفينة في تلك الحال يلطف لها الملاحون
ويخلصونها بضروب الحيل فأما النفس إذا استــشاطت غصباً فليس يرجى
لها حيلة البتة وذلكن كل ما رُقي به الغضب من التضرع والموعظة والخضوع
يصير له بمنزلة الجزل من الحطب يوهجه ويزيده استعاراً"انتهى. فصل في بيان
فوائد القوة الغـضبية اعلم أن غريزة الغضب من النعم الإلهية التي يمكن بها
عمارة الدنيا والآخـرة، وبها يتم الحفاظ على بقاء الفرد والجنس البشري
والنظام العائلي، ولها تأثير كبير في إيجاد المدينة الفاضلة ونظام المجتمع. فلولا
وجود هذه الغريزة الشريفة في الحيوان لما قام بالدفاع عن نفسه ضد هجمات
الطبيعة، ولآل أمره إلى الفناء والاضمحلال. ولولا وجودها في الإنسان، لما
استطاع، أن يصل إلى كثير من مراتب تطوره وكمالاته زائداً على تحقق ما
تقدم. بل إن التفريط والنقص من حال الاعتدال يعد من مثالب الأخلاق
المذمومة ومن نقائص الملكات التي يترتب عليها الكثير من المفاسد والمعايب،
كالخوف، والضعف، والتراخي، والتكاسل، والطمع، وقلة الصبر، وعدم الثبات
في المواقف التي تتطلب الثبات، والخمود، والخنوع، وتحمل الظلم، وقبول
الرذائل والاستسلام لما يصيبه أو يصيب عائلته، وانعدام الغيرة، وخور العزيمة...
إن الله سبحانه يصف المؤمنين بقوله: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }(
سورة الفتح/ 29). إن القيام بالأمر المعروف والنهي عن المنكر، وتنفيذ الحدود
والتعزيرات وسائر التعاليم السياسية الدينية والعقلية، لا يكون إلاّ في ظل القوة
الغضب ية الشريفة. وعلى ذلك، فإن الذين يظنون أن قــتل غريزة الغضب
بالكامل وإخماد أنفاسها يعد من الكمالات والمعارج النفسية إنّما يرتكبون
خطيئة عظيمة، ويغفلون عن حدّ الكمال ومقام الاعتدال. هؤلاء المساكين لا
يعلمون أن الله تبارك وتعالى لم [161] يخلق هذه الغريزة الشريفة في جميع
أصناف الحيوانات عبثـاً، وأنه جعل هذه الغريزة في بني آدم رأسمال الحياة
المُــلكية والملكوتية، ومفتاح الخيرات والبركات. إن الجهاد ضد أعداء الدين،
وحفظ النظام العائلي للإنسان، والدفاع عن النفس والمال والعِرض، وعن سائر
القوانين الإِلهيـة، والجهاد مع النفس وهي ألد أعداء الإِنسان، لا يكون كل
ذلك إلاّ بهذه الغريزة الشريفة. إن منع الاعتداءات والذب عن الحدود والثغور،
ودفع المؤذيات والمضرات عن الفرد والمجتمع، ويجري تحت لواء هذه الغريزة.
لذلك سعى الحكماء إلى معالجة خمود هذه الغريزة وركودها. وهناك معالجات
علمية وعملية لإيقاضها وتحريكها: مثل الإقدام على الأمور العظيمة المخيفة،
والذهاب إلى ميادين الحرب، والجهاد ضد أعداء الله. فقد نُقل عن بعض
المتفلسفين أنه كان يرتاد الأماكن المخوفة ويلبث فيها قليلاً ويلقى بنفسه في
المخاطر العظيمة، ويركب البحر في أوج تلاطم أمواجه، وذلك لكي يخلص
نفسه من الشعور بالخوف ويتحرر من الضعف والكسل. وعلى أي حال، فإن
غريزة الغضب موجودة لدى كل إنسان ومودعة في باطنه، ولكنها في بعضهم
خامدة منكمشة، كالنار تحت الرماد. فالواجب على من يلحظ في نفسه حال
الخمول والضعف وانعدام الغيرة أن يعالج الحالة بضدها، ويخرج نفسه مما هي
فيه إلى حال من الاعتدال. وهذه الحال المحاولة من الشجاعة التي تعدّ من
الملكات الفاضلة والصفات الحسنة، مما سوف ترد الإِشارة إليه. فصل في
بيـان ذم الإفراط في الغضـب إذا كانت حال التفريط ونقص الاعتدال من
الصفات المذمومة التي تؤدي إل ى كثير من المفاسد التي ذكرنا بعضها، كذلك
هي حال الإِفراط وتجاوز حد الاعتدال، فهي أيضاً تعدّ من الصفات المذمومة
التي تقود إلى مفاسد كثيرة. ويكفي لتبيان مفاسد هذه الحال ذكر هذا الحديث
الشريف الوارد في الكافي. عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال، قال رسول اللّه
صلّى اللّه عل يه وآله وسلم "الغَضَبُ يُفْسِدُ الإِيمانَ كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ"(
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 1).
[162] فقد يصل الغضب بالإنسان إلى حد الارتداد عن دين اللّه، وإطفاء
نور الإيمان، بحيث أن ظلام الغضب وناره تحرق الحقائق الحقّة. بل قد يصل
الأمر إلى الكفر الجحودي الذي نتيجته الهلاك الأبدي، ثم ينتبه على نفسه بعد
فوات الأوان وحين لا ينفع الندم ويمكن أن تكون نار الغضب، جمرة الشيطان،
التي وردت في كلام الإمام الباقر عليه السلام "إنَّ هـذَا الغـَضَب جَمْرَةٌ مِن
َ الشَّيْطانِ تُوقـَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ" ( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب
الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 12) صورتها في ذلك العالم، صورة نار
الغضب الإلهي. كما ورد عنه عيه السلام فـي حديث شريف رواه
صاحب"الكافي": "مَكْتُوبٌ فِي الـتَّوْراةِ فيما ناجَى اللهُ عزّ وجلّ مُوسى: يا
مُوسى أَمْسِكْ غـَضَبَكَ عَمَّنْ مَلَّكْتُكَ عَلَيْهِ أكُفَّ عَنْكَ غـَضَبِي"( أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 7 ). ولا شك في
أنه ليست هناك نار أشد من نار غضب اللّه عذاباً. وقد جاء في كتب الحديث،
عن أبي عبدالله عليه السلام قال:"قَالَ الحَواريّـون لِعيسى عليه السّلام: أَيُّ
الأَشْياءِ أَ شَدّ؟ قٌالَ أَشَدُّ الأَشْياءِ غَضَبُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قالُوا بِمَ نَتقي غَضَبُ
اللّهِ؟ قالَ بَأْن لا تَغْضِبُوا"(وسائل الشيعة، المجلد 11، أبواب جهاد النفس،
ص289 ). وهكذا يتضح أن غضب الله من أصعب الأمور وأشدها، وأن نار
غضبه أشد إحراقـاً، وصورة الغضب للإنسان في هذه الدنيا هي صورة نار
غضب الله في العالم الآخر. وكما أن الغضب يظهر من القلب، فلعل نار
الغضب الإلهي الذي يكون مبدأه الغضب وسائر الرذائل القلبية الأخـرى،
تنبعث من باطن القلب، وتسري إلى الظاهر، وتخرج ألسنة نيرانها المؤلمة من
الأعضاء الظاهرية مثل العين والإذن واللسان وغيرها بل إن هذه الأعضاء تكون
أبوابا تنفتح على جهنم، فتحيط نار جهنم بالأعمال والآثار الجسمية التي في
ظاهر جسد الإنسان، لتتجه إلى باطنه، فيقع الإنسان في العذاب والشدّة بين
جهنمين: أحدهما يبرز من باطن القلب ويدخل ألسنة لهيبها بواسطة أم الدماغ
إلى عالم الجسم. وثانيهما صورة قبائح الأعمال وتجسم الأفعال، حيث تتصاعد
نيرانها من الظاهر إلى الباطن، والله [163] سبحانه وتعالى يعلم مدى هذا
الضغط؟ وهذا العذاب؟ إنه غير الاحتراق وغير الانصهار. أتظن أن إحاطة
جهنم تشبه هذه الإحاطات التي تتصوره؟ إن الإحاطة هنا إنما تكون بظاهر
السطح فقط. أما الإحاطة هناك فتكون بالظاهر وبالباطن، بالسطوح
وبالأعماق. وإذا أصبحت صورة الغضب عند الإنسان صفة راسخة لا سمح الله
- وصورة الغضب آخر مراحل الرسوخ - كانت المصيبة أعظم، وأصبح
للإنسان في البرزخ ويوم القيامة صورة السباع، السباع التي لا شبيه لها في
الدنيا. وذلك لأن سَبُعية الإنسان، وهو في حالة الغضب، لا يمكن مقارنتها
بسبعية أي حيوان آخر من الحيوانات. وكما أن الإنسان في حالة كماله
أعجوبة الدهر ولن تجد له نظيراً، كذلك في حال نقصه واتصافه بالرذائل
وبالصفات الخسيسة لن تجد بين الكائنات من يقف معه في ميزان المقارنة، لقد
وصفهم الله بقوله:{ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}(الفرقان44).
ووصـف قلوبهـم فقال:{فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَْ أَشَدُّ قَسْوَةً }( البقرة /74 ).
هذا الذي مرّ بك كان جانباً من مفاسد نار الغضب الحارقة، إذا لم يستتبع
الغضب معاص أخرى، بل بقى ناراً داخلية مظلمة تتعقدّ في الباطن وتنجس
وتختنق فتطفئ نور الإيمان، كالنار المشتعلة التي يخالطها الدخان الأسود الذي
يغشى النور فيطفئه. ولكن ذلك أمر بعيد، بل قد يكون من الأمور المستحيلة أن
يكون الإِنسان في حال غضب شديد مستعرة ناره، ثم يمتنع عن إرتكاب معاص
وموبقات مهلكة أخرى. فكثيراً ما يؤدي الغضب المستعر، وهذه الجمرة
الشيطانية الملعونة، في مدة دقيقة واحدة إلى إلقاء الإِنسان في هاوية الهلاك
والعدم، كأن يسبّ الأنبياء والمقدسات - والعياذ بالله - أو يقتل نفساً بريئة
مظلومة، أو يهتك الحرمات، فيخسر الدنيا والآخرة، كما جاء في الكافي عن
أبي عبدالله عليه السلام في حديث له: كان أبي يقول:"أَيُّ شَيْءٍ أشَــدُّ مِنَ
الغَـضَبِ؟ إِنَّ الـرَّجُـلَ لَيَـغْـضَبَ فَيَـقْـتُلَ النَّـفْـسَ الَّـتي حَرَّمَ
اللهُ وَيَــقْـذِفُ المُحْـصَنَةَ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب الغضب،ح 4 ). [164] لقد وقعت أفظع الفتن وارتكبت
أفجع الأعمال بسبب الغضب واشتعال ناره الحارقة. وعلى الإِنسان، وهو سليم
النفس، أن يكون على حذر كثير من حال غضبه. وإذا كان يعرف من نفسه
حدوث حالات الغضب، عليه، في أثناء هدوئه النفسي، أن يعالجها وأن يفكر
في مبادئها وفي مفاسدها عند اشتدادها وآثارها ونتائجها في النهاية، لعله يصل
إلى معرفة طريق لإنقاذ نفسه. فليفكر في أن هذه الغريزة التي وهبها الله تعالى
إياه لحفظ نظام الظاهر والباطن وعالم الغيب والشهادة، إذا استخدمها لغير
تلك الأهداف وبخلاف ما يريد الله سبحانه وضد المقاصد الإِلهية، فما مدى
خيانته؟ وما هي العقوبات التي يستحقها؟ وكم هو ظلوم جهول؟ لأنه لم يَصُنْ
أمانة الحق تعالى، بل استعملها في العداوات والمخاصمات. إن إِمرءً هذا شأنه
لا يمكن أن يأمن الغضب الإلهي. ثم إن عليه إن يفكر في المفاسد العملية
والأخلاقية التي تتولد من الغضب وسوء الخلق. إذ كل مفسدة من هذه المفاسد
يمكن أن تكون سبباً في ابتلاء الإِنسان بصورة دائمة ببلايا شديدة في الدنيا،
وبالعذاب والعقاب في الآخرة. أما المفاسد الأخلاقية التي تتولد من هذا الخلق
فهي الحقد على عباد الله، وقد ينتهي به الأمر إلى الحقد على الأنبياء والأولياء،
بل وحتى على ذات الله المقدسة الواجبة الوجود ووليّ النعم، وشدّة هذا القبح
وهذه المفسدة واضح للجميع، نعوذ بالله تعالى من شر نفس عنيدة إذا ما انفصم
وثاقها للحظة واحدة، جرّت الإِنسان إلى تراب الذل وقادته إلى أرض الهلاك
الأبدي. وكذلك الحسد الذي مرّت بك بعض مفاسده وشروره في شرح
الحديث الخامس. وغير ذلك من المفاسد الأخرى التي تتولد من الغضب. وأما
مفاسد الغضب المؤثرة في الأعمال فإنها ليست بمحصورة، فلعله يتفوه بما فيه
الارتداد أو سب الأنبياء والأولياء - والعياذ بالله - وهتك الحرمات الإِلهية،
وخرق النواميس المقدسة، وقتل الأنفس الزكية، والافتراء على العوائل المحترمة بما
يصمها بالعار والذل ويقضي على النظام العائلي بكشف الأسرار وهتك
الأستار. وغير ذلك من المفاسد التي لا تحصى والتي يبتلي بها الإنسان لدى
فورة الغضب الباعثة على نسف الإيمان وهدم البيوت. [165] لذلك يمكن أن
توصف هذه السجية بأنها أم الأمراض النفسية ومفتاح كل شر. و يقابلها كظم
الغيض وإخماد سعير الغضب فإنه من جوامع الكلم ودائرة تمركز الحسنات
ومجمع الكرامات. كما جاء في حديث ( الكافي ) عن أبي عبدالله عليه السلام
أنه قال سمعت أبي يقول:"أتى رَسُولَ اللهِ رَجُلٌ بَدَوِيٌ، فَقالَ: إنّي أسْكُنُ
البادِيَةَ فَعَلِّمْنِي جَوامِعَ الكَلامِ فَقالَ: آمُرُكَ أَنْ لاَ تَغْضَبَ. فَأعادَ عَلَيْهِ
الأعْرَابِيُّ المَسْأَلَةَ ثَلاثَ مَرّاتٍ حَتّى رَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى نَفْسِه. فَقالَ: لا أَسْأَلُ
عَنْ شيْء بَعْدَ هذَا. ما أمَرَنِي رَسُولُ اللهِ إِلاّ بِالْخَيْرِ. قالَ: وَكانَ أَبي يَقُولُ:
أَيُّ شَيْءٍ أشَدُّ مِنَ الغَضَبِ؟ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ فَيَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتي حَرَّم اللهُ
وَيَقْذِفُ المُحْصَنَةَ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب
الغضب، ح 4). بعد أن يدرك الإنسـان، في حال تعلقه وسكون نفسه وخمود
غضبه، المفاسد الناجمة عن الغضب، والمصالح الناجمة عن كظم الغيظ، يلزم أن
يحتم على نفسه أن يطفئ هذا اللهيب الحارق وهذه النار المشتعلة في قلبه، مهما
لاقى من عنت ونصب في سبيل ذلك، ليغسل قلبه من الظلام والكدر، ويعيد
إليه صفاءه ونقاءه. وهذا أمرٌ ممكن تماماً بشيءٍ من مخالفة النفس والعمل ضد
هواها، وبقليل م ن النصح والإرشاد والتدبر في عواقب الأمور. وهذه وسيلة
يمكن بها إزالة جميع الأخلاق الفاسدة والعادات القبيحة من ساحة النفس،
وإبدالها بجميع الصفات الحسنة والأخلاق المحمودة التي يجب أن يتحلّى بها
القلب. فصل في بيان علاج الغضب إن للغضب المشتعل علاجاً علمياً وعملياً
أيضاً. أما علاجه العملي فهو أن يتفكر الإِنسان في تلك الأمور التي ذكرت،
ويعدّ هذا من العلاج العملي أيضاً. أما العلاج العملي فأهمّه صرف النفس عن
الغضب عند أول ظهوره. وذلك لأن الغضب أشبه بالنار، فهو يزداد شيئاً
فشيئاً ويشتّد، حتى يتعالى لهيبه، وترتفع [166] حرارته ويفلت العنان من يد
الإنسـان، ويخمد نور العقل والإيمان، ويطفئ سراج الهداية، فيصبح الإنسان
ذليلاً مسكيناً. فعلى الإنسان أن يأخذ حذره قبل أن يزداد اشتعاله ويرتفع
سعيره، فيشغل نفسه بأمور أخرى، أو أن يغادر المكان الذي ثار فيه غضبه، أو
أن يغير من وضعه . فإذا كان جالساً فلينهض واقفاً، وإذا كان واقفاً فليجلس،
أو أن يشغل نفسه بذكر الله تعالى. بل هناك من يرى وجوب ذكر الله في حال
الغضب، أو أن يشغل نفسه بأي أمر آخر. على كل حال، يسهل كبح جماح
الغضب في بداية ظهوره. ولهذا العمل في هذه المرحلة نتيجتان: الأولى: هي أن
يهدئ النفس ويقلل من اشتعال الغضب. والثانية: هي أن يؤدي إلى المعالجة
الجذرية للنفس. فإذا راقب الإنسان حاله وعامل نفسه بهذه المعاملة تغيّرت
حاله تغيراً كُلياً واتجهت نحو الاعتدال. وقد وردت الإشارة إلى بعض ذلك
كتاب (الكافي) بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال:"إِنَّ هَذَا الغَضَبَ
جَمْرَةٌ مِنَ الشَّيطانِ تُوقَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ وإِنَّ أحَدَكُمْ إِذا غضِبَ احْمَرَّتْ
عَيْناهُ وَانْتَـفَخَتْ أوْدَاجُهُ وَدَخَلَ الشَّيْطانُ فيه، فَإِذا خاف أَحَدُكُمْ ذلِكَ مِنْ
نَفْـسِهِ فَلْيَلْزَمِ الأرْضَ فَإنَّ رِ جْزَ الشَّيْطانِ يَذْهَبُ عَنْهُ عِنْدَ ذلِكَ"( أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح12). وبإسنـاده،
عن ميسر قال: ذُكر الغضب عند أبي جعفر الباقر عليه السلام فقال:"إِنَّ
الرَّجـلَ لَيَـغْـضَبُ فَما يرضى أبداً حَـتّى يَدْخُلَ النّـار فَأَيُّـما رَجُلٍ
غَضـبَ عَلى قَوْمٍ وَهُوَ قائِـمٌ فَـلْيَجْـلِسْ مِنْ فَوْرِه ذلِـكَ فَإنَّـهُ
سَيَذْهَبُ عَنْهُ رِجْزُ الشَّيْـطانِ وَأَيُّـما رَجُلٍ غَضِبَ عَلى ذي رَحِمٍ فَلْـيَدْنُ
مِنْهُ فَلْـيَمَسَّه، فَإنَّ الرَّحِمَ، إذا مُسَّـت، سَكَـنَتْ"( أصول الكافي، المجلد
الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 2. ). يستفاد من هذا الحديث
الشريف علاجان عمليان حال ظهور الغضب. الأول عام، وهو الجلوس من
القيام، أي تغيير وضعية الإِنسان، ففي حديث آخر أنه إذا كان جالساً عند
الغضب فليقم واقـفاً. وقد نقل عن الطرق ا لعامة أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم عندما كان [167] يغضب، يجلس، إذا كان واقفـاً، ويستلقي
على قفاه إذا كان جالساً، وبذلك يسكن غضبه. والعلاج العملي الآخر علاج
خاص بالأرحام، وهو أن يمسّـه فيسكن غضبه. هذه معالجات يقوم بها
الغاضب لنفسه. أما إذا أراد الآخرون معالجة الغاضب فعند ظهور بوادر
الغضب، عليهم أن يعالجوه بإحدى الطرق العلمية والعملية المذكورة. ولكن إذا
اشتدت حاله واشتعل غضبه، فإن النصائح تنتج عكس المطلوب. ولذلك يكون
علاجه وهو في هذه الحال صعباً، إلاّ بتخويفه من قبل شخص يهابه ويخشاه،
وذلك لأن الغاضب إنما يغضب عندما يرى نفسه أقوى ممن يغضب عليه، أو
يرى أنه، على الأقل، يتساوى معه في القوة. أمـا مع الذين يرى أنهـم أقوى
منه، فـلا يُـظهر الغضب أمامهم، بل تكون الفورة والاشتعال في باطنه
ويبقى محبوساً في داخله ويولد الحزن في قلبه. وعليه فإن العلاج في حالات
الانفعال الشديدة من الغضب والفورة يكون على جانب كبير من الصعوبة.
نعوذ بالله منه. فصل في بيان أن معالجة الغضب باقتلاع جـذوره من أهم
سبل معالجة الغضب هي اقتلاع جذوره بإزالة الأسباب المثيرة له. وهي أمور
عديدة، وسوف نتناول بعضاً منها مما يتناسب وهذا الكتـاب. من تلك
الأسباب حبّ الذات، ويتـفرّع عنه حب المال والجاه والشرف والنفوذ
والتسلط. وهذه كلها تتسبب في إشعال نار الغضب، إذ أن من كانت فيه هذه
الأنواع من الحب، يهتم بهذه الأمور كثيراً، ويكون لها في قلبه مكان رفيع. فإذا
اتفـق أن واجه بعض الصعوبات في واحدة منها، أو أحس بأن هناك من
ينافسه فيها، تنتابه حال من الغضب والهيجان دون سبب ظاهر، فلا يعود يملك
نفسه، ويستولي عليه الطمع وسائر الرذائل الناجمة عن حب الذات والجاه
وتمسك بزمامه، وتحيد بأعماله عن جادة العقل والشرع. ولكن إذا لم يكن
شديد التعلق والاهتمام بهذه الأمور ، فإن هدوء النفس والطمأنينة الحاصلة من
ترك حب الجاه والمقام [168] وسائر تفرعاته، تمنع النفس من أن تخطو
خطوات تخالف العدالة والرويّة. إن الإِنسان البسيط غير المتكلف يتحمل
المنغصات و لا تـتـقطع حبال صبره، فلا يستولي عليه الغضب المفرط في غير
وقته. أما إذا اقتـلع جذور حب الدنيا من قلبه اقتلاعاً، فإنّ جميع المفاسد تهجر
قلبه وتحل محلها الفضائل الأخلاقية السامية. ومن الأسباب الأخرى لإثارة
الغضب هو أن الإِنسان قد يظن الغضب، وما يصدر عنه من سائر الأعمال
القبيحة والرذائل السافلة، كمالاً، وذلك لجهله وقلة معرفته. فيحسب الغضب
من الفضائل ويراه بعض الجهال فتوّة وشجاعة وجرأة، فيتباهى ويطري على
نفسه في أنه فعل كذا وكذا، فيحسب هذه الصفة الرذيلة المهلكة شجاعة، هذه
الشجاعة التي تكون من أعظم صفات المؤمنين، والصفات الحسنة. فلا بد وأن
نعرف بأن الشجاعة غير الغضب، وأن أسبابها ومباد ئها وآثارها وخواصّها
تختلف عن أسباب الغضب ومبادئه وآثاره وخواصّه. مبدأ الشجاعة هو قوة
النفس والطمأنينة والاعتدال والإيمان وقلة المبالاة بزخارف الدنيا وتقلباتها. أما
الغضب فناشئ عن ضعف النفس وتزلزلها، وقلة الإِيمان، وعدم الاعتدال في
المزاج وفي الروح، وحب الدنيا والاهتمام بها، والتخوف من فقدان اللذائذ
البشرية. لذلك تجد هذه الرذيلة مستحكمة في المرضى أكثر مما هي في
الأصحاء، وفي الصغار أكثر مما هي في الكبار، وفي الشيوخ أكثر مما هي في
الشبان. فالشجاعة عكس الغضب تماماً. ومن كانت فيه رذائل أخلاقية كان
أسرع إلى الغضب ممن فيهم فضائل أخلاقية، إذ يكون البخيل أسرع في
الغضب من غيره إذا تعرّض ماله وثروته للخطر. هذا من حيث مبادئ
الشجاعة والغضب وما يوجبهما، وهما من حيث الآثار والنتائج مختلفان أيضاً.
فالغاضب، وهو في حال ثورة غضبه، يكون أشبه بالمجنون الذي فقد عنان عقله،
ويصبح مثل الحيوان المفترس الذي لا تهمّه عواقب الأمور، فيهجم دون تروّ أو
احتكام إلى العقل، فيسلك سلوكاً قبيحاً، يفقد سيطرته على لسانه ويده و
سائر أعضائه، وتلتوي شفتاه في هيئة قبيحة بحيث أنه لو أعطى مرآة، لخجل
من صورته التي يراها فيها. إن بعض أصحاب هذه الرذيلة يغضبون لأتفه
الأمور، بل يغضبون حتى على [169] الحيوانات والجمادات، ويلعنون حتى
الريح والأرض والبرد والمطر وسائر الظواهر الطبيعية إذا كانت خلاف
رغباتهم. ويغضبون أحياناً على القلم و الكتاب والأواني فيمزقونها أو
يحطمونها. أما الشجاع فهو بخلاف ذلك تماماً. فأعماله لا تكون إلاّ عن رويّة
ووفق ميزان العقل وطمأنينة النفس. يغضب في محله، ويحلم في محله، لا تهزّه
التوافه ولا تغضبه. وإذا غضب غضب بمقدار، وينتقم بعقل، ويعرف كيف
ينتقم ومتى وممـن؟ وكيف يعفو ومتى وممن؟ وفي حال غضبه لا يفقد زمام
نفسه، ولا يبادر بالكلام البذيء ول ا بالأعمال القبيحة، ويزن كل أعماله
بميزان العقل والشرع والعدل والإِنصاف، ويخطو خطوات لا يندم عليها بعد
ذلك. فعلى الإِنسان الواعي أن لا يخلط بين هذا الخُلق الذي يتصف به الأنبياء
والأولياء والمؤمنون، يعدّ من الكمالات النفسية. والخلق الآخر الذي هو من
النقائص والصفات الشيطانية ومن وسوسة الخناس. إلاّ أن حجاب الجهل وعدم
المعرفة وحب الدنيا وحب الذات، يعمي عين الإِنسان ويصمّ أذنه ويلقيه في
المسكنة والعذاب. وهناك أسباب أخرى ذكروها للغضب، مثل العُـجب
والزهو والكبرياء والمراء والعناد والمزاح وغيرها مما يطيل البحث الدخول في
تفاصيلها، ولعل أكثرها ينطوي تحت هذين الموضوعين المذكورين بصورة
مباشرة أو غير مباشرة. والحمد لله. [171] الحَديـــث الثَامــــن
"العصبيّة" [172] بسندي المتَّصل إلى مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ عَليِّ بْنِ
إِبْراهِيمَ، عَنْ أبيه، عَنِ النَّوْفَلي، عَن السَّكُوني، عَنْ أبي عَبدالله عليه
السلام قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلم:"مَنِ كانَ في قَلْبه
حَبَّةٌ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ عَصَبَيَّةٍ، بَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ أَعْرابِ الجَاهِليَّةِ"( أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العصبية، ح 3 ). [173]
الشرح: الخردل، نبات معروف له خواص كثيرة، ويصنع منه الشمع،
والعصبيّ: هو الذي يعين قومه على الظلم ويغضب لعصبته ويحامي عنهم.
وعُصبة المرء أقرباؤه من جهة الأب، لأنهم يحيطون به فيقوى بهم، والتعصب
بمعنى الحماية والدفاع. يقول الفقير إلى الله: العصبية واحدة من السجايا
الباطنية النفسانية. ومن آثارها الدفاع عن الأقرباء، وجميع المرتبطين به
وحمايتهم، بما في ذلك الارتباط الديني أو المذهبي أو المسلكي، وكذلك الارتباط
بالوطن وترابه، وغير ذلك من ارتباط المرء بمعلّمه، أو بأستاذه، أو بتلم ذته وما
إلى ذلك. والعصبية من الأخلاق الفاسدة والسجايا غير الحميدة، وتكون سبباً
في إيجاد مفاسد في الأخلاق وفي العمل. وهي بذاتها مذمومة حتى وان كانت
في سبيل الحق، أو من أجل أمر ديني، من غير أن يكون مستهدفاً لإظهار
الحقيقة، بل يكون من أجل تفوقه أو تفوق مسلكه ومسلك عصبته، أما إظهار
الحق والحقيقة وإثبات الأمور الصحيحة والترويج لها وحمايتها والدفاع عنها،
فإما أنه ليس من التعصب، وإما أنه ليس تعصباً مذموماً. إن المقياس في
الاختلاف يتمثل في الأغراض والأهداف وخطوات النفس والشيطان أو
خطوات الحق والرحمن. وبعبارة أخرى، إن المرء إذا تعصّب لأقربائه أو أحبّتِهِ
ودافع عنهم، فما كان بقصد إظهار الحق ودحض الباطل، فهو تعصب محمود
ودفاع عن الحق والحقيقة. ويعدّ من أفضل الكمالات الإنسانية، ومن خلق
الأنبياء والأولياء. وعلامته المميزة هو أن يميل الإنسان إلى حيث يميل الحق
فيدافع [174] عنه، حتى وان لم يكن هذا الحق إلى جانب من يحبّ، بل حتى
لو كان الحق إلى جانب أعدائه. إن شخصاً هذا شأنه يكون من جملة حماة
الحقيقة، ومن زمرة المدافعين عن الفضيلة وعن المدينة الفاضلة، ومن الأعضاء
الصالحين في المجتمع، ومن المصلحين لمفاسده. أما إذا تحرّك بدافع قوميته
وعصبيته بحيث أخذ بالدفاع عن قومه وأحبته في باطلهم وسايَرَهم فيه ودافع
عنهم، فهذا شخص تجلت فيه السجية الخبيثة، سجية العصبية الجاهلية. وأصبح
عضواً فاسداً في المجتمع، وأفسد أخلاق المجتمع الصالح، وصار في زمرة أعراب
الجاهلية، وهم فئة من أعراب البوادي قبل الإسلام ممن كانوا يعيشون في ظلام
الجهل، وقد قويت فيهم هذه النزعة القبيحة، والسجية البشعة بل إن هذه الصفة
توجد في معظم أهل البوادي - عدى من اهتدى بنور الهداية كما ورد في
الحديث الشريف عن الأمام أمير المؤمنين عليه السلام: أن الله سبحانه يعذب
طوائف ستة بأمور ستة: أَهْلَ البَوَادِي بِالعَصَبِيَّةِ وَأَهْـلَ الْقُرَى بِالْكِبَرِ
وَالأُّمَرَاءِ بِالظُلْمِ، وَالفُقَهَاءِ بِالحَسَدِ، وَالتُّجَّارِ بِالخِيَانَةِ وَأَهْلِ الرَّسَاتِيقِ بِالجَهْلِ.
فصل في بيان مفاسد العصبية يستفاد من الأحاديث الشريفة عن أهل بيت
العصمة والطهارة أن العصبية من المهلكات والباعثة على سوء العاقبة والخروج
من عصمة الإيمان، وأنها من ذمائم أخلاق الشيطان. جاء في الكافي بسنده
الصحيح، عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال:"مـَنْ تَعَصًّبَ أوْ تُعُصِّبَ
لَهُ فَقَدْ خُلِعَ رِبْقُ الإيمان مِنْ عُنُقِه"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب العصبية، ح 2.). أي أن المتعصب بتعصبه يكون قد خرج من
إيمانه، وأما المتعصب له، فبما أنه قد رضي بعمل المتعصب، يصبح شريكاً له في
العقاب. كما جاء في الحديث الشريف:"ومن رضي بعمل قوم حشر معهم.
أما إذا لم يرض به واستنكره فلن يكون منهم". [175] وعن أبي عبدالله
الصادق عليه السلام قال: مـَنْ تَعَصَّبَ عـَصـَّبَهُ اللهُ بِعصابَةٍ مِنَ النّارِ"(
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العصبية، ح 4 ). وعن
أبي عبدالله عليه السلام قال:"لـَمْ َيْدُخِل الجَنَّةَ حَمِيَّةَ غَيْرُ حَمِيَّةِ حَمْزَةَ بْنِ
عَبْدِالمُطَّلِبِ وَذلِكَ حينَ أسْلَم غَضَباً للنَّبِيِّ"( أصول الكافي، المجلد الثاني،
كتاب الإيمان والكفر، ح 5 ). وقد وردت قصة إسلام حمزة بن عبدالمطلب
بعبارات مختلفة، وهي خارجة عن نطاق بحثنا هذا. وعلى كل حال، فمن
المعلوم أن الإيمان، وهو الفوز الإِلهي ومن الخِلَعِ الغيبية لله جل جلاله، الذي
يفيض بها على المخلصين من عباده، والخاصّة في محفل انسه، يتنافى مع مثل
هذه السجية الممقوتة التي تدوس الحق والحقيقة، وتطأ بأقدام الجهل على الصدق
والاستقامة. ولا شك في أن ا لقلب إذا غطّاه صدأ حب الذات والأرحام
والتعصب القومي الجاهلي، فلن يكون فيه مكان لنور الإِيمان، ولا موضع
للاختلاء مع الله ذي الجلال تعالى. إن ذلك الإنسان الذي تظهر في قلبه تجليات
نور الإيمان والمعرفة، ويطوق رقبته الحبل المتين والعروة الوثقى للإِيمان، ويكون
رهن الحقيقة والمعرفة، هو ذلك الإنسان الذي يلتزم بالقواعد الدينية وتكون
ذمته مرهونة لدى القوانين العقلية، ويتحرك بأمر من العقل والشرع، دون أن
يهز موقفه أيّ من عاداته وأخلاقه وما يأنس به من مألوفاته. فلا تحيد به عن
الطريق المستقيم. إن الإِنسان الذي يدعي الإِسلام والإيمان هو ذلك الذي
يستسلم للحقائق ويخضع لها، ويرى أهدافه، مهما عظمت، فانية في أهداف ولي
نعمته، ويضحي بنفسه وبإرادته في سبيل إرادة مولاه الحقيقي. ومن الواضح أن
مثل هذا الشخص لا يعرف العصبية الجاهلية، وانه بريء منها، ولا يتجه قلبه إلاّ
إلى حيث الحقائق ولا تغشي عينيه أستار العصبية الجاهلية السميكة وأنه يطأ
بقدميه في سبيل إعلاء كلمة الحق والإِعلان عن الحقيقة على كل العلاقات
والارتباطات، ويفدى بجميع الأقرباء والأحبة والعادات على أعتاب ولي النعم
المطلق. وإذا تعارضت العصبية الإِسلامية عنده مع العصبية الجاهلية، قدَّم
الإسلام وحب الحقيقة. إن الإنسان العارف بالحقائق يعلم أن جميع العصبيات
والارتباطات والعلاقات ليست سوى أمور عرضية زائلة، إلا تلك العلاقة بين
الخالق والمخلوق، وتلك هي العصبية الحقيقية التي هي أمر ذاتي غير قابل
للزوال، وهو أوثق من كل ارتباط، وأقوى من كل حسب وأسمى من كل
نسب. في حديث شريف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:"كـُلَّ
حَسَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ القِيامَةِ إلاّ حَسَبي وَنَسَبي"( وسائل الشيعة، كتاب
النكاح، الباب الثامن من أبواب مقدمات وآداب النكاح، ح 5 ). وذلك لأن
حسب رسول الله ص لّى الله عليه وآله وسلم روحاني وباق، وبعيد عن جميع
العصبيـّات الجاهلية، وهذا الحسب والنسب الروحانيين في ذلك العالم، يكون
ظهوره أكثر وكماله أوضح فإن نسبه علاقة إلهية لا تظهر على كمال حقيقتها
إلاّ في ذلك العالم. إن هذه العلائق الجسمانية المُلكية القائمة على العادات
البشرية إنما تتقطع بأتفه الأسباب، وليس لأي منها في ذلك العالم نفع ولا قيمة،
إلاّ تلك العلائق التي تتوثق في نظام ملكوتي الهي وتحت ظل ميزان القواعد
الشرعية والعقلية التي لا انفصام لها. فصل في بيان الصورة الملكوتيّة للعصبية
سبق في شرح بعض الأحاديث القول بأن المعيار في الصور الملكوتية والبرزخية
وفي يوم القيامة هو الملكات وقوتها، وإن ذلك العالم هو محل ظهور سلطان
النفس الذي لا يعصي له الجسم أمراً. فقد يحشر الإِنسان في ذلك العالم على
صورة حيوان أو شيطان. وقد مرّ بنا في الحديث في بداية المقال:"مـَنْ كَان
فِي قَلْبِهِ حَبَّة مِنْ خَرْدَل مِنْ عَصَبِية بَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ أَعْرَابِ الجَاهِلِيَّةِ".
ولعله إشارة إلى ذلك الموضع الذي ذكرناه. إن الإنسان الذي فيه هذه الرذيلة،
لعله عندما ينتقل إلى العالم الآخر يرى نفسه من أعراب الجاهلية من غير إيمان
بالله تعالى ولا بالنبوة والرسالة، ويرى أنه في الصورة التي يحشر بها أولئك
الأعراب، ولا يعلم بأنه كان في الدنيا يعتنق العقيدة الحقة من الإيمان بالله
وبرسوله وأنه من أمة الرسول الخاتم صلّى الله عليه [177] وآله وسلم. كما
جاء في الحديث عن أهل جهنم ينسون اسم رسول الله، ولا يستطيعون أن
يعرفوا أنفسهم، إلاّ بعد أن يشاء الحق سبحانه أن يُنجيهـم. وبما أن هذه
السجية من سجايا الشيطان، كما ورد في بعض الأحاديث، فلعل أعراب
الجاهلية وأصحاب العصبية يحشرون يوم القيامة على هيئة الشياطين. في الكافي
في الصحيح، عن أبي عبدال له الصادق عليه السلام قال:"إِنَّ المَلائكَة كانُوا
يَحْسَبُونَ أنَّ إِبْـليسَ منْهُمْ وَكانَ في عِلْم اللهِ أنـَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ فَاسْـتَخْرَجَ
ما فِي نَفْسِهِ بالحَمِيَّةِ وَالغَضَبِ. فقال خَلَقْتَني مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طينٍ"( أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العصبية ح 6 ). فاعلم أيها
العزيز أن هذه الخصلة الخبيثة، من الشيطان، وإنها من مغالطات ذلك الملعون
ومعاييره الباطلة. انه يغالط عن طريق هذا الحجاب السميك الذي يخفي عن
النظر كل الحقائق، بل يظهر رذائل النفس كلّها محاسن، وجميع محاسن الآخرين
رذائل، من الواضع أنه كيف يكون مصير الإِنسان الذي يرى جميع الأشياء على
غير حقيقتها وواقعيتها. وفضلا عن كون هذه الرذيلة هي نفسها تكون سبب
هلاك الإنسان، فإنها كذلك منشأ الكثير من المفاسد الأخلاقية والأعمال
القبيحة التي لا يتسع المجال لذكرها. و عليه، إذا عرف الإِنسان العاقل أن هذه
المفاسد ناشئة من تلك السجية الفاسدة، وأذعن للشهادة الصادقة المصدقة من
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام بأن هذه الرذيلة
تجر الإنسان إلى الهلاك وتدخله النار، فما عليه إلاّ أن يتصدى لعلاج نفسه من
هذه السجية، وأن يطهر قلبه حتى من حبة خردل منها، حتى يكون طاهراً عند
الانتقال من هذه الدنيا إلى العالم الآخر عند اقتراب أجله، فينتقل بنفس صافية.
إن على الإنسان أن يدرك أن الفرصة محدودة والوقت قصير جدا، لأنه لا يعلم
متى يحين موعد رحيله. أيتها النفس الخبيثة لكاتب هذه السطور، لعل الأجل
المقدر قد حان وأنت منهمكة في الكتابة، فينقلك بكل رذائلك إلى العالم الذي
لا عودة منه. [178] ويا أيها العزيز يا من تقرأ هذه الوريقات، خذ العبرة من
حال هذا الكاتب الذي يرزح الآن أو مستقبلاً تحت الثرى، وهو في العالم
الآخر مبتلى بأعما له وأخلاقه البشعة. لقد ضيّع الفرصة الثمينة التي كانت عنده
بالبطالة والأهواء، فأتلف ذلك الرأسمال الإلهي وأباده. فانتبه إلى نفسك لأنك
ستكون يوماً مثلي دون أن تعلم متى يكون ذلك. فلعلك الآن وأنت مشغول
بالقراءة، إذا تباطأت ذهبت الفرصة من يدك. يا أخي، لا تؤجل هذه الأمور
لأنها لا تحتمل التأجيل، فكم من إنسان سليمٍ وقويٍ فاجأه الموت في لحظة
وأخرجه من هذه الدنيا إلى العالم الآخر ولا نعلم عن مصيره شيئا. إذاً، لا تضيّع
الفرصة، بل اغتنم اللحظة الواحدة، لأن القضية عظيمة الأهمية، والرحلة
شديدة الخطورة. فإذا قصّر الإنسان في هذه الدنيا التي هي مزرعة الآخرة،
يكون السيف قد سبق العذل، ولن تستطيع إصلاح فساد النفس، ولا يكون
نصيبك سوى الحسرة والندم والـذل. إن أولياء الله لم يخلدوا إلى الراحة أبداً،
وكانوا دائمي الخوف من هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر. إن حالات علي بن
الحسين عليه ال سلام، الإمام المعصوم، تثير الحيرة. وأنين أمير المؤمنين علي عليه
السلام، الولي المطلق، تبعث على الدهشة. ما الذي جرى لنكون على هذا
القدر من الغفلة؟ من الذي جعلنا نطمئن؟ انه لا يغرينا أحد بتأجيل عمل اليوم
إلى الغد إلا الشيطان. انه يريد أن يزيد من أعداد أنصاره وأعوانه، وأن يجعلنا
نتخلّق بأخلاقه حتى نحشر مع أتباعه. إن ذلك الملعون هو الذي يسعى دائماً إلى
تهوين أمور الآخرة في أعيننا، وبتذكيرنا لرحمة الله ولشفاعة الشافعين يريد أن
ينسينا ذكر الله وطاعته. ولكن يا للأسف! فهذه كلها أمنيات باطلة، وهي من
أحابيل مكر ذلك الملعون وحيله. إن رحمة الله تحيط بك الآن، رحمته في
صحتك وسلامتك وحياتك وأمنك وهدايتك وعقلك وفرصتك وإرشادك إلى
إصلاح نفسك وأن آلاف الرحمة الإلهية المختلفة تحيط بك من جميع الجهات،
ولكنك لا تنتفع بها، بل تطيع أوامر الشيطان. فإذا لم تستطع أن تستفيد من
رحمات هذ الدنيا، فاعلم أنه لن تنالك في العالم الآخر رحمات الله اللامتناهية بل
تحرم من شفاعة الشافعيـن. إن مظهر شفاعة الشافعين في هذه الدنيا هو
الاهتداء بهداهم، وفي ذلك العالم هو الشفاعة لأنها باطن الهداية. فإذا حرمت
الهداية هنا، حرمت الشفاعة هناك. وعلى قدر اهتدائك تكون [179] لك
الشفاعة. إن شفاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم. مثل رحمة الله المطلقة
تنال من هو جدير بها. فإذا انتزع الشيطان - لا سمح الله - وسائل الإيمان من
يدك، فلن تكون جديراً بالرحمة والشفاعة. نعم، رحمة الله واسعة في الدارين.
فإذا كنت تطلب الرحمة، فلماذا لا تستفيد من فيوضات الرحمة المتتالية في هذه
الدنيـا، وهي بذور الرحمات الأخرى؟ إن هذا العدد الكبير من الأنبياء
والأولياء دعوك إلى مائدة ضيافة الله ونعمه، ولكنك رفضتها وهجرتها بوسوسة
من الخنّاس، وبإيحاء من الشيطان، وضحّيـت بمحكمات كتاب الله، والمتوا
ترات من أحاديث الأنبياء والأولياء، وببديهات عقول العقلاء، وببراهين
الحكماء الدامغة، على مذبح نزعات الشيطان والأهواء النفسية. الويل لي ولك
من هذه الغفلة والعمى والصمم والجهل!. فصل في عصبيات أهل العلم من
جملة عصبيات الجاهلية هو العناد في القضايا العلمية، والدفاع عن كلمة سبق
أن صدرت منه أو من معلمه أو شيخه، دون النظر إلى إحقاق الحق وإبطال
الباطل. ولا شك أن مثل هذا التعصب أقبح من كثير من العصبيات الأخرى
وأجدر بالذم من جوانب عديدة. فمن جانب المتعصب نفسه نرى أن أهل
العلم ينبغي أن يكونوا هم المربين لأبناء البشر، باعتبارهم فروع شجرة النبوة
والولاية، وعارفين بوخامة الأمور وعواقب فساد الأخلاق. فإذا اتصف العالم
- لا قدر الله - بالعصبية الجاهلية أو بالصفات الرذيلة الشيطانية، كانت
الحجة عليه أتم وعقابه أشد. إن من يعرف نفسه على أنه، وشمع محفل
العرفان، والهادي إلى السع ادة ومعرف طرق الآخرة، ثم لا يعمل - لا سمح
الله - بما يقول، ويختلف باطنه عن ظاهره، يكون في زمرة أهل الرياء
والنفاق، ويحسب من علماء السوء، ويكون عالماً بلا عمل. وهذا عقابه أكبر
وعذابه أشدّ. وقد أشار الله سبحانه إلى أمثال هذا في القرآن بقوله: {بِئْسَ
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ}(الجمعة5). إذاً، من أهم التزامات أهل العلم هو أن يحافظوا على
هذه الأمور وهذه المقامات، وأن يطهروا أنفسهم كل التطهير من هذه المفاسد،
لكي يصلحوا بهذا أنفسهم والمجتمع، وتكون مواعظهم مؤثرة، وتقع نصائحهم
موقعها من القلوب. إن فساد العالِم يؤدي إلى فساد الأمة. ومن البديهي أن
الفساد الذي يتسبب في مفاسد أخرى والخطيئة التي تزيد خطايا أخرى
وتعظمها تكون أعظم عند وليّ النِعم من الفساد الجزئي الذي لا يتعدّى إلى
غيره. ومن ناحية أخ رى في قباحة هذه السجيّة لدى أهل العلم هو جانب
العلم نفسه، إذا أن هذه العصبية خيانة للعلم وتجاهل لحقه إذ أن من يتحمل
عبء هذه الأمانة ويلبس لبوسها، فعليه أن يرعى حرمتها واحترامها، وأن
يعيدها إلى صاحبها صحيحة سليمة. فإذا ما تعصّب، تعصّب الجاهلية يكون قد
خان الأمانة وأرتكب الظلم والعدوان، وهذه بذاتها خطيئة كبرى. والناحية
الثانية من جرّاء هذه السجيّة القبيحة إهانة أهل العلم فيما إذا كان التعصّب في
المباحث العلميّة مع العلم بأن أهل العلم من الودائع الإلهية الواجب احترامهم.
بينما يكون هتكهم هتكاً لحرمات الله ومن الموبقات الكبيرة. وقد تؤدي
العصبية التي لا تكون في محلها، إلى هتك حرمة أهل العلم. أعوذ بالله من هذه
الخطيئة الكبيرة!. وهناك جانب آخر هو جانب المتعصب له، أي الأستاذ وشيخ
الإنسان. وهذا يوجب العقوق، وذلك لأن المشايخ العظام والأساطين الكرام -
نضّر الله وجوههم - يميلون إلى جانب الحق، ويهربون من الباطل، ويسخطون
على من يتذرع بالتعصب لقتل الحق وترويج الباطل. ولا شك في أن العقوق
الروحي أشد من العقوق الجسمي، وحق الأبوة الروحية أسمى من حق الأبوة
الجسمية. إذاً، يتحتّم على أهل العلم - زادهم الله شرفاً وعظمة - أن يتبرءوا
من المفاسد الأخلاقية والعلمية، وأن يزينوا أنفسهم بحلية الأعمال الحسنة
والأخلاق الكريمة، وأن لا ينزلوا عن المركز الشريف الذي أنعم الله تعالى به
عليهم، إذ أن مدى الخسران في ذلك لا يعلمه إلا الله. والسلام.
[181]
الحَــديــث الـتَـاسِـــع "النـفــــاق" [182] بالسند المـتَّـصل
إلى ثقة الإِسلام محمّد بن يعقوب الكليني، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّد بْنِ
عِيسى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ عَوْنٍ بْنِ القَلاَنِسي، عَنْ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِاللهِ