عظم الله أجوركم بذكرى أربعين سيد الشهداء عليه السلام
[ مشاهد الفداء والفناء ]
أذن الإمام عليه السلام ليلة عاشوراء لأصحابه بالانصراف وتركه وحيداً ، فخطب خطبته المعروفة ، وكان مما قاله : ( أما بعد؛ فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً عني خيرا ، ألا إني لأظنُ يوما من هؤلاء الأعداء غدا ، وإني قد أذنت لكم جميعا ، فانطلقوا في حلٍّ ليس عليكم مني ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملا ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعا خيرا ، ثم تفرَّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرِّج الله ، فإن القوم إنما يطلبونني ، ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري ) .
فلمّا أكمل الإمام عليه السلام خطابه ، فإذا بدموع أهل بيته وأصحابه قد انهملت ، وهزّتهم هزّاً ، فانبرى جميعهم ملبّين صرخة الحق والحقيقة يؤكِّدون على فدائهم وفنائهم في معشوقهم الذين ولهوا فيه :
المشهد الأول : أهل بيته عليهم السلام :
ابتدأ أبو الفضل العبّاس عليه السلام قائلاً : [ لِمَ نفعل ذلك ؟ لنبقى بعدك ؟ لا أرانا الله ذلك أبداً ] وكذا تابعه عليه بقية الفتية الأحرار من آل هاشم عليهم السلام .
وفي الرواية أخرى [ فقال له أهله : لا نفارقك ويحزننا ما يحزنك ، ويصيبنا ما يصيبك ، وإنا أقرب ما نكون إلى الله إذا كنّا معك ] .
المشهد الثاني : أولاد مسلم عليهم السلام :
قال لهم الإمام روحي فداه : [ حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا فقد أذنت لكم ]
فقالوا : [ إذاً ما يقل الناس ؟ وما نقول ؟ إنّا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرمِ معهم بسهم ؟ ولم نطعن برمح ؟ ولم نضرب بسيف ؟ ولا ندري ما صنعوا ؟ لا والله ، لا نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا نقاتل معك ، حتى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك ] .
المشهد الثالث : الأصحاب الأنجاب عليهم السلام :
(1) زهير بن القين البجلي : [ لا والله لا يكون ذلك أبداً ، أترك ابن رسول الله صلى الله عليه وآله أسيراً في يد الأعداء وأنجو ؟! لا أراني الله ذلك اليوم ]
وفي رواية : [ والله ، لوددت أني قتلت ، ثم نشرت ، ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف مرة ، وأن الله عز وجل يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك ] .
(2) سعيد بن عبد الله الحنفي : [ لا نُخلّيك حتى يعلم الله أنا حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله ، والله لو أعلم أني أقتل ثم أحيا ، ثم أحرق ثم أذرى ، ويفعل ذلك بي سبعين مرة ، ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك ، وإنما هي موتة أو قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً ]
(3) بشر بن عُمر الحضرمي : [ أكلتني إذاً السباع حيا إذا فارقتك ، وأسأل عنك الركبان ، وأخذلك مع قلة الأعوان ، لا يكون هذا أبداً ]
(4) مسلم بن عوسجة الأسدي : [ أنحنُ نخلّي عنك ؟ وبمَ نعتذر إلى الله من أداء حقّك ؟ ولا والله حتى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضربهم بسيفي ، ما ثبت قائمه في يدي ، ولا أفارقك ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ثم لم أفارقك حتى أموت معك ]
(5) محمد بن بشير : [ أكلتني السباع حياً إن فارقتك ] .
(6) وهكذا انبرى بقية الأصحاب فأعلنوا الترحيب بالشهادة في سبيل عشقهم وولههم ، فجزاهم الإمام روحي فداه بالخير ، ثم هتفوا جميعاً : [ الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك ، وشرَّفنا بالقتل معك ، أو لا نرضى أن نكون معك في درجتك يا ابن رسول الله ؟! ] .
يقول الأديب المسيحي جورج جرداق : [ حينما جنّد يزيد الناس لقتل الحسين وإراقة الدماء، وكانوا يقولون: كم تدفع لنا من المال؟ أما أنصار الحسين فكانوا يقولون لو أننا نقتل سبعين مرة، فإننا على استعداد لأن نقاتل بين يديك ونقتل مرة أخرى أيضاً ] .
أقول : نعم ؛ لقد نصروا الحق ووصلوا إلى درجة الفناء ، فقدّموا أرواحهم وأنفسهم في سبيل الدفع عن الحسين صلّى الله عليه ، وقد ورد في زيارة الشهداء [ أشهد لقد كشف الله لكم الغطاء ، ومهَّد لكم الوطاء ، واجزلَ لكم العطاء ، وكنتم عن الحق غير بطاء ، وأنتم لنا فرط ، ونحن لكم خلطاء في دار البقاء ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ]