اختارت اكبر شمعة لشرائها، سألها البائع مازحا هل تريدين إحراق العريس ام العروس؟ إنها لعيد ميلاد ابني.
مازال العراقيون يمتلكون الرغبة في الاحتفال رغم كل شيء لا ينقصهم الحماس الذي هو حسب معتقدات (أخوية الرام) المرحلة الثالثة من مراحل المحبة الحميمة..
أتأمل مجموعة من الشموع المعلقة أمامي في احد المحلات التي يقع مكان عملي قبالتها.. انها تتدلى من خلال خيوطها المعلقة بالمسامير اشبه ما تكون باناس معلقين على حبال المشانق.. أجسادها ملتفة بأشرطة ملونة (الأحمر – الأبيض – الأزرق – الأخضر) هل هي أكفانها؟ انها تنتصب أمامي بانتظار يد تمتد اليها لتنزلها من حبل مشنقتها.. كل واحدة من تلك الشموع مشروع اشتعال وتوهج وذوبان.. ترى لو امتلكت لسانا تتحدث به هل ستبوح بأسرارها؟
من منا لم يجرب إيقاد شمعة ولو واحدة في عمره؟ حتى طفلي الصغير جرب ذلك ولسعته حرارة الجسد الذائب..
رغم ذلك هو يشعر بالفرح والزهو في مغامرته الأولى لإيقاد شيء ما وإشعاله.. انها لذيذة تلك التجربة الأولى للنار والنور..وربما الفضول يدفعه لان يراقب ذوبان هذا الجسد أمامه حتى اخر ثمالة فيه.. ام تراه يفكر بأمه التي تضيء بسمتها أيامه ولياليه ام بابيه يكد ويكدح لاجله؟ بماذا يفكر الإنسان الأكبر سنا؟
هل يتأمل تلك الشمعة أمامه؟ ام انه يكتفي بالتحديق الأبله إليها؟ ام انها لاتثير انتباهه؟ فالفضول الاول انقضى منذ سنوات طويلة بحكم العادة والاستمرار.. والرغبة في الاكتشاف تدثرت باغطية التجارب الطويلة التي عاشها.. ام تراه الان يفكر بالفناء والموت الذي تقوده خطواته اليه مثلما هذه الشمعة امامه آيلة لذبول وفناء مؤكد.
يمد يده نحوها.. يحاول ان يلمس لهبها الضئيل باطراف اصابعه.. انه يعرف انها ستحرق ذلك الاصبع إن تمادى في الاقتراب منها.. لكن اليس الاحساس بالاحتراق دليل اكيد انه حي وانه يستطيع ان يمارس حياته الطبيعية على اكمل وجه؟
ما لهذه الافكار تغزوه الان وتغزو غيره.. لماذا لا يتامل تلك الشمعة من منظور اخر؟
يكتنف الشموع عالم من الاسرار.. قسم منها قابل للانكشاف وقسم آخر يبقى مستغرقا في سريته.
ماذا عن اوقاتنتا الحميمة مع الزوجات؟ الشمعة شاهدة على لحظات الحب والشغف والتحليق عاليا، لكنها لا تبوح الا نادرا وعبر ثرثرة نسائية في غالب الأحيان.
لماذا الشمعة وحدها لها حضور مميز وهي ترافق الزوجان في رحلة التحليق والطيران تلك؟ الا تكفي أضواء النيون بالوانها المتعددة لاضاءة دروب الطيران تلك؟
هل جربتم الفرق يوما؟ انها لحظة الانخطاف التي يوفرها وهج الشمعة ولا توفرها تلك المصابيح..
النار هنا مثقلة برمزية جنسية.. الانتصار عليها انتصار جنسي.. فالرجال الأوائل أنتجوا النار بحك قطعتين من الخشب الجاف.. فعل الاحتكاك كما يقول محللون نفسيون تجربة أضفيت عليها الصفة الجنسية بقوة.
هل تذكرون بروميثيوس؟ الذي قام بسرقة النار، والتي تعني النور والمعرفة والدفء، قام بسرقتها من الآلهة وإعطائها للبشر. وهل تذكرون باندورا التي تحرق الرجل دون جذوة؟
المرأة – النار في الأساطير الإغريقية يمكن على الأقل اتقاؤها لكن المرأة نار يتعذر إخمادها.. إنها تحرق الرجل بالهموم، إنها تستهلكه.
ما الذي يقوله التحليل النفسي عن رمزية النار غير الذي ذكرناه؟
النار هي الحياة والذي يخبئ النار تكون لديه فعلا بذرة الحياة.
الخاصية الجنسية لميول الحارق التي اظهرها التحليل النفسي.
أحلام النار التي درست من قبل المحللين النفسيين.. انها بين الأكثر وضوحا، الأكثر نقاء تلك التي تفسيرها الجنسي هو الاكثر يقينية.
أخيرا الأساطير حول أصل النار التي عرضها فريزر بشكل واسع في كتابه (الغصن الذهبي) ونشير الى واحدة منها.
في قبيلة استرالية تعلم النساء وحدهن صنع النار، انهن يخفين الارمدة المشتعلة في فروجهن.. ما الذي يمكن ان نقراه في لهب الشمعة ايضا؟
اللهب الذي يتصاعد نحو السماء والذي لا يمكن ادراكه كان احيانا رمز الروح.. وكان كذلك في الديانات القديمة جدا في امريكا اللاتينية حيث توجب على الكاثوليكية ان تتآلف مع الوثنية.. ففي كنائس قرية في غواتيمالا الكثير من الشموع المشعلة على اطباق تشغل الممر المركزي.. قكل واحدة منها سوف تكون روح ميت بواقع عائلة بكل طبق.
ومنذ العصور القديمة قربت الشعلة من الروح ومن البقاء وذلك هو السبب الذي من اجله كان المسيحيون الاوائل يدفنون موتاهم مع مصابيح صغيرة من الطين المشوي.
واليوم ايضا توقد الشموع على راس سرير الاموات... ومصابيح الموتى نوع من المصابيح المقامة في القرن الثاني عشر وهي تعيد التذكير بخلود الروح في القرون الوسطى.
بالمقابل توقد الشموع أيضا بمناسبات أعياد الميلاد والحنة التي تسبق الزواج بليلة واحدة وعند الأضرحة المقدسة للأولياء والصالحين لطلب النذور.
لماذا نوقد الشموع لأعياد ميلادنا؟ هل هي لتذكيرنا بان أعوامنا تحترق ببطء ولا يتبقى منها غير رائحة الشمع المذاب ورماد خيوطه؟ ولماذا نوقد الشموع في أعراسنا؟ هل هي للتذكير بالرمزية الجنسية لاقتران الرجل بالمرأة؟ ولماذا نوقد الشموع للموتى والغائبين؟ هل هي للتذكير بالروح الراحلة والتي نتمنى ان تبقى مرافقة وحارسة لنا؟ ولماذا نوقد الشموع في الاضرحة المقدسة؟ هل هي تطلع للوصول والذوبان في الروح الكلية؟
أسئلة كثيرة تطاردني وانا انتظر يد البائع الذي ارقبه من مكان عملي لتمتد لا نزال شمعة الى زبون سيعيش تجربة الاشتعال والتوهج وربما الطيران تحت لهبها الصاعد الى السماء والذي لا يمكن إدراكه.