«... من أجل أن نفهم طبيعة المسيرة العامة لحياة الأئمة (من وفاة الرسول "صلى الله عليه وآله" حتى وفاة الإمام الحسن العسكري "عليه السلام") علينا أولاً أن نتبين فلسفة الإمامة. التيار الذي عرف في مدرسة أهل البيت "عليهم السلام" باسم الإمامة، والذي تتكون عناصره الأصلية من أحد عشر شخصاً توالوا خلال قرنين ونصف القرن تقريباً، إنما هو في الواقع امتداد للنبوة.
فالنبي يبعثه اللَّه سبحانه بمنهج جديد للحياة، وبعقيدة جديدة، وبمشروع جديد للعلاقات البشرية، وبرسالة إلى الإنسانية. ويطوي حياته في جهاد مستمر، وجهد متواصل، ليؤدي مهمّة الرسالة الملقاة على عاتقه قدر ما يسمح له عمره المحدود.
وعملية الدعوة يجب أن تستمر بعده؛ كي تبلغ الرسالة أعلى الدرجات المتوخاة في تحقيق الأهداف.
ويجب أن يحمل أعباء المواصلة من هو أقرب الناس إلى صاحب الرسالة في جميع الأبعاد، كي يبلغ بالأمانة إلى محطة آمنة وقاعدة رصينة ثابتة مستمرة.
هؤلاء هم الأئمة وأوصياء النبي، وكل الأنبياء العظام وأصحاب الرسالات كان لهم أوصياء وخلفاء.
ومن أجل أن نعرف مهمة الإمام "عليه السلام"، لا بد أن نعرف مهمة النبي"صلى الله عليه وآله". والمهمّة يبينّها القرآن الكريم إذ يقول:
«لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط».
هذه إحدى الآيات التي تبين علّة النبوة، وتبين من جهة أخرى مهمة الأنبياء.
فالأنبياء قد بعثوا لبناء مجتمع جديد، ولاقتلاع جذور الفساد، ولإعلان ثورة على جاهلية زمانهم، وتخليص مجتمعاتهم.
وعملية التغيير هذه يعبّر عنها الإمام علي "عليه السلام" في مطلع استلام مهام حكومته بقوله:
«... حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم...».
«... إلا أن أقيم حقاً وأدفع باطل»
إنها عملية صناعة مجتمع على أساس التوحيد والعدل الاجتماعي وتكريم الإنسان، وتحريره، وتحقيق المساواة الحقوقية والقانونية بين المجموعات والأفراد، ورفض الاستغلال والاستبداد والاحتكار، وافساح المجال للطاقات والكفاءات الإنسانية، وتشجيع التعلّم والتعليم والفكر والتفكير...
إنها عملية إقامة مجتمع تنمو فيه كل عوامل سمو الإنسان في جميع الأبعاد الأساسية، وتدفع الكائن البشري فيه باتجاه مسيرته التكاملية على ساحة التاريخ.
هذه هي المهمة التي بعث اللَّه الأنبياء من أجلها، ونستنتج من ذلك أن الإمامة، باعتبارها امتداداً لمهام النبوّة تتحمَّل نفس هذه الأعباء... هدف الإمامة هو نفس هدف النبوة، والطريق هو الطريق، أي ايجاد مجتمع إسلامي عادل، والسعي لصيانة مسيرته الصحيحة».
معنى الإمامة
ينطلق سماحة القائد للحديث عن معنى الإمامة من خلال حديثه عن الإمام السجاد "عليه السلام"، فيقول "دام ظله":
«... انظروا مثلاً كيف يستفيد الإمام السجاد "عليه السلام" من أسلوبه الجذاب، حيث يقول:
«ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده».
إلى أن يقول الإمام "عليه السلام":
«وعن إمامك الذي كنت تتولاه»
فهو هنا يطرح موضوع الإمامة، وقضية الإمامة عند الأئمة تعني قضية الحكومة أيضاً، إذ لا يوجد فرق بين الولاية والإمامة على لسان الأئمة "عليهم السلام". وإن كان للولي والإمام معانٍ مختلفة عند البعض ولكن هاتين القضيتين، الولاية والإمامة، على لسان الأئمة أمر واحد، وكلمة الإمام المقصودة هنا تعني ذلك الإنسان المتكفّل بإرشاد الناس وهدايتهم من الناحية الدينية، وأيضاً المتكفّل بإدارة أمور حياتهم من الناحية الدنيوية، أي خليفة النبي "صلى الله عليه وآله".
الناس في إيران وفي الفترة السابقة لعهد الإمام الخميني "قدس سره" لم يكونوا يعرفون المعنى الحقيقي للإمام ولكن الشعب اليوم أصبح يفهم معناه جيداً، فنحن نقول إن الإمام هو قائد المجتمع، أي ذلك الإنسان الذي نتعلّم منه ديننا وتكون بيده أيضاً إدارة دنيانا بحيث تكون إطاعته في أمور الدين وأمور الدنيا واجبة علينا. ولحسن الحظ أن هذا المعنى (للإمام) قد ركز في أذهان الناس بعد الثورة.
في عالم التشيع تعرضت هذه القضية (دور الإمام) إلى فهم خاطىء، ففي السابق كان الناس يتصورون أن الإمام يتفرد بحكم المجتمع، وهو الذي ينبغي أن يدير أمور الحياة بيده وبجهده الذاتي، فيحارب ويصالح ويعمل وينفذ كل طلب بنفسه، فهو يأمر الناس وينهاهم من جهة وفي نفس الوقت هو الذي ينفّذ هذه الأمور وحده لإصلاح دينهم!
واليوم أيضاً تعرّضت هذه القضية للفهم الخاطىء بحيث أصبحنا نعتبر أن الإمام في عصر الغيبة ليس إلا عالماً دينياً، وهذا بالطبع تصور خاطىء، لفظة الإمام تعني المتقدم والقائد. فالإمام الصادق"عليه السلام" عندما كان يخاطب الناس في منى وعرفات بقوله:
«أيها الناس إن رسول اللَّه "صلى الله عليه وآله" كان الإمام»
كان يشير إلى أن الإمام هو ذلك الإنسان الذي يتولى أمور الناس الدينية والدنيوية.
في المجتمع الإسلامي أيام حكم عبد الملك بن مروان وفي عصر الإمام السجاد "عليه السلام" كان هذا المعنى يفهم بشكل خاطىء، لأن إمامة المجتمع وهي إدارة شؤون حياة الناس، قد سلبت من أهلها وأعطيت إلى من لا أهلية لهم بها حيث كانوا يلقبون أنفسهم بالأئمة ويعرفهم الناس بذلك.
فالناس كانوا يُطلقون لقب الإمام على عبد الملك ومن قبله أبيه وقبلهما يزيد وغيره، وقد قبلوهم على أساس أنهم قادة المجتمع وحكام الناس.
وهكذا عندما كان الإمام السجاد "عليه السلام" يقول إنك لتسأل عن إمامك في القبر، كان يشير بذلك إلى أنك هل انتخبت الإمام المناسب والصحيح؟ وهل أن ذلك الشخص الذي يحكمك، ويقود المجتمع الذي تعيش فيه هو حقاً إمام؟ وهل هو ممن رضي اللَّه عنه؟ لقد كان الإمام"عليه السلام" بهذا الكلام يوقظ الناس ليجعل هذه القضية في نفوسهم حساسة...».
فهدف الأئمة "عليهم السلام" هو هدف الرسول "صلى الله عليه وآله" وهو تشكيل الحكومة الإسلامية، كما يؤكِّد هذا المعنى الإمام القائد:
«... إذن فالرسول "صلى الله عليه وآله" نهض من أجل تأسيس حكومة حقّة حيث بُني النظام الإسلامي وتأسس آنذاك نتيجة نضال وجهاد الرسول "صلى الله عليه وآله"، ومن بعدها جاهد الرسول "صلى الله عليه وآله" أيضاً من أجل الحفاظ على هذا النظام واستمراره، ولا يُعقل أن يغفل الإمام الذي يأتي من أجل متابعة مسيرة الرسول "صلى الله عليه وآله" عن مثل هذا الموضوع المهم...».