الطريق إلى بيت المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد علي السيستاني، لا يختلف عن بقية طرقات النجف الأشرف، ولا يتميّز بيته عن بيوت المواطنين.
الطريق ممرٌ ضيقٌ لا يتسع لأكثر من شخصين، وللوصول إلى بيته ستخضع إلى عملية تفتيش دقيق مرتين، ثم تمر عبر بوابة الكترونية للكشف بالأشعة، تفضي بك إلى باب منزلٍ متواضع، يقال إنه خضع للتحسين في السنوات الأخيرة لضرورة استقبال الضيوف الرسميين.
وأنت تنتظر دورك في هذه القاعة الصغيرة للدخول على المرجع الأعلى، تتذكّر أن هذا البيت استقبل وفودا رسمية عراقية وعربية ودولية، ولكنه رفض استقبال أيّ مبعوث أميركي، بما فيهم الحاكم القوي بول بريمر. وعندما ألحّ عليه باللقاء قطع عليه الطريق بقوله: «أنا إيراني وأنت أميركي، فدع العراقيين يختارون لأنفسهم ما يريدون».
المرجع يجلس لاستقبال الناس الحادية عشرة ظهرا، ولا يتسع وقته لإعطاء كل وفدٍ سوى دقائق معدودات. كان جالسا على هيئة المصلي، يمد يده بالسلام، ثم يأخذ الزائر مكانه على الأرض. المجلس متواضع جدا، سجادٌ بسيط، وفرشٌ ومساندُ تجدها في أفقر بيوتنا، لكنّ... المكان بالمكين.
لم يتحدّث كثيرا، حيّا الوفد البحريني بنبرة هادئة، بالكاد تسمع صوته، وقال إنني أدعو لكم دائما بخير الدنيا والآخرة في أعقاب كل صلاة، خصوصا صلاة الفجر. أبلغه أحد الزوار أنه يحمل هدية من الحلوى من أحد مريديه، فردّ بلطف: ربما تعرف أنني ممنوع من أكل الحلوى منذ عشرين عاما، ولا أخرج للحرم (العَلَوي) رغم أنه على بعد مئات الأمتار... فهو لم يغادر منزله خلال عشر سنوات إلاّ للعلاج في لندن.
الزيارة الثانية كانت للمرجع الديني بشير النجفي، الذي جاء من لاهور بالباكستان إلى النجف الأشرف قبل نصف قرن طلبا للعلم، فأصبح من أكبر مراجع الدين. يتحدّث بحماسةٍ وصوتٍ جهوري، وتتسرّب في حديثه بعض الكلمات العامية أحيانا. رحّب بالوفد البحريني ترحيبا حارا، واعتذر عن ضيق المكان (غرفة صغيرة). وأوصى بضرورة وحدة الصفّ وتجنّب كل ما يثير الفرقة بين الشعب الواحد والطائفة الواحدة، ثم بدأ حديثا اجتماعيا، حاثا الشباب على ضرورة التركيز على العائلة وتربية الأبناء. وقال: «العلم يقول إن تأثير لبن الأم على أبنائها يبقى ثلاثين عاما، إلا فاطمة الزهراء ، الذي ظلّ تأثيره أبد الدهر». وعبّر عن غبطته لمن هم من سلالتها، وعلى الآخرين الاجتهاد لينالوا الحظوة من رب العالمين.
اللقاء الأخير مع المرجع الشيخ إسحاق الفيّاض (الأفغاني الأصل)، بعد أداء صلاة الظهر بإمامة أحد تلامذته. في منزله عُلّقت عدة لوحاتٍ خطية فخمة بخط الثلث من إهداء بعض الخطاطين الكبار. على طاولته الصغيرة كتبٌ مكدّسةٌ ومجلدات، وثلاث صحف إحداها تصدر في لندن.
نصح الشباب بضرورة التزود بالعلم والثقافة الإسلامية، ثم تحدّث عن دور العلماء، وركّز على ضرورة المحافظة على استقلالهم، حتى لو لم يجدوا قرص خبزٍ في بيوتهم، «فعليهم أن يفضّلوا الجوع على التبعية الاقتصادية للحكام» كما قال. وله رأيٌ في الوضع الجديد، فبعد التغيير الكبير في العراق، لم يُعط العلماء والثقافة الإسلامية دورا في الإعلام، فهناك تجاهلٌ للحوزة الدينية، حتى الصحف لا تخصّص صفحة واحدة للثقافة الإسلامية.
ساعتان من الزمان... تنقلك من عالمك الأرضي، إلى عالمٍ من الروحانية ومهابة العلم والتقى... والزهد في المتاع