بين جُدرانٍ متصدعة و خلف الأسوار بعيداً عن الأحباب يجلس ناصر كاتما ً أحزانه و أوجاعه ذارفا ً لدموعه
معيدا ً محاسبة نفسه و لكنه متأخراً في مثل هذا الأمر
فهو الآن يدفع الثمن ولازال يرى أن والده السبب الرئيسي
لما هو عليه و لما حدث لعائلته
و في هدوء هذا المكان تخرج الزفرات وصرخات الآآآآه
ناصر : سامحيني يا يمى سامحيني ... سامحيني يا رقية
و أسند رأسه إلى الجدار غارقاً بدموعه
مُحلقاً في ذكريات الماضي
أبو ناصر : قوم يا ناصر خلصني اترك هالكتاب عنك
و أمشي معي
ناصر : يبى بكرة علي امتحان وين تبي توديني ؟
أبو ناصر : أنا الغلطان إلي خليتكم تدخلوا هالمدرسة اللي
ما يجي من وراها إلا عوار الراس قوم خلصني خلنا نترزق الله
ناصر : إن شاءالله
دائما ً ما يتصرف والدي هكذا فطالما اجتهد في ابعادنا أنا و أختي رقية عن الدراسة
فتفكير والدي ينم على التخلف والرجعية رغم كونه رجلاً متعلماً
والدتي المسكينة لم تحظى بأخذ العلوم أو الدراسة
أو حتى القراءة ولكن تصرفاتها تنم عن عقلية متزنة و أخلاق حسنة أما والدي فكلا
أختي رقية التي تصغرني بسنتين عانت الكثير والكثير فكثيراً ما أراها تبكي من تصرفات والدي و قسوته
و في أحد الأيام أتت جارتنا الطيبة أم زكريا لزيارتنا مع ابنتها الصغيرة نوره
أم زكريا : أخاف بنتج رقية عليها دروس واجد وهي في الصف أول ثنوي و ما هي فاضية تدرس بنتي نوره
أم ناصر : انتين اخت و عزيزة و رقية تقدر تدرس نوره
ما بتاخذ من وقتها حتى ساعه يمكن
أم زكريا : سالمة يا اختي و الله يوفقكم يا رب
ابتسمت لها وقالت : دقايق أناديها
توجهت أم ناصر إلى المطبخ لتقوم بتقديم واجبات الضيافة بعد أن نادت على رقية
بدأت رقية بتدريس نوره و والدتي تتبادل الحديث مع جارتها إلى أن دخل والدي غاضباً و بدأ بالصراخ
دون أن يراعي مشاعر جارتنا أو مشاعرنا نحن
أبو ناصر : قومي يا رقية لدراستج احنا مو ملزومين بعيال الناس
و أنتي يا أم ناصر كملي شغلج احنا ما نستقبل ضيوف في هالوقت
خرجت جارتنا مع ابنتها وعلامات الحزن تعلوها وتعلونا فهي ليست المرة الأولى اللتي يتصرف الوحيدة التي يتصرف بهذه الطريقة معها أو مع غيرها
رقيةكثيرا ما تبكي عند عودتها من المدرسة ..وطالما أسعى لجعلها تفصح عما يضايقها
و لكني لم أفلح ولم تفصح لي عما في خاطرها إلا في ذلك اليوم
ناصر : رقية أنا اخوج الوحيد قولي وشو الي يخليج تصيحي بهالشكل .. بس خلاص لا تصيحي
رقية : نظرة الكل لي تذبحني
ما في و لا بنت تحب تصاحبني أو تتكلم معي
كلهم يعرفوا أن أبوي ما يتصرف زين من ذاك اليوم
أتوقعك تذكره
يوم أول مرة تجي إلي صديقتي و لما شافها أبوي في بيتنا و أنا وياها ندرس طردها و فشلني و هي ما قصرت خبرت كل البنات و الحين الكل يعذبني بنظراته
حتى مدرساتي إلي كانوا يحترموني تغيروا
أبوي كل ما شافني ماسكه كتاب و أذاكر عصب و شقه و يضربني بعد
و عادت مرة أخرى للبكاء
لم استطع التخفيف عنها غير انني خرجت من غرفتها أحمل ضعفي بيدي دون تقديم أي مساعدة لها فمايؤلمها مثقلٌ كاهلي
فهذا والدي و هذه تصرفاته المعتادة
وفي إحد الأيام
مرضت والدتي و ارتفعت درجت حرارتها و والدي خارج المنزل
و هاتفنا مقطوع منذُ أسبوع
رقية : تصرف يا ناصر أني خايفة على أمي
ناصر : شسوي يعني ما عندي لا سيارة و لا تلفون اكلم به هذا كله من أبوج
رقية : مو وقته يا ناصر أمي بدت تهذي لازم نسوي شي
لم أحتمل تعب والدتي و ليس من المعقول أن اقف هكذا كأنني طفل صغير
و بدأت بالتفتيش بين أغراض والدي
رقية : وش تسوي ؟
ناصر : ابوج طالع مع صديقه و السيارة تحت بدور على المفتاح
رقية : لا تتهور انت ما تعرف تسوق
ناصر : خلاص لقيت فلوس .. بسرعه لبسي امي عباتها
و انتي البسي و انا بجيب تكسي
رقية : ان شاءالله
وبعدما وصلنا إلى المستشفى بقينا أنا و رقية في الخارج جالسين على أحد المقاعد القريبة
من غرفة والدتي منتظرين خروج الطبيب
رقية : اني خايفة
ناصر : لا تخافي شوية صخونه و ارهاق
رقية : بس هي كانت تهذي و ما تتحرك
ناصر : إن شاءالله خير
رقية : الله يسمع منك يارب
كنت أحاول أن أطمئن رقية رغم خوفي على والدتي ...
فبنيتها ضعيفة جدا ً... الهموم أضعفتها و والدي كثيرا ما
يمارس هواية الضرب عليها و علينا أيضا ً...
فأنا ورقية دائمي الهروب منه و الإنعزال عنه فنحن نهابه و لا نحب لقائه أبدا ً
و والدتي فما عساها أن تفعل
و ما إن خرج الطبيب حتى استأذنت رقية منه لتتمكن من الدخول على والدتي
و أما أنا فبقيت معه لأطمئن على حالة والدتي
ناصر: دكتور وشو فيها امي ؟
دكتور : انهيار عصبي
ناصر : انهيار عصبي ؟ لا حول و لا قوة إلا بالله
دكتور : ان شاءالله تتحسن و الحين درجة الحرارة مرتفعة و انتوا اتأخرتوا بنقلها للمستشفى ... بس لازم تبتعد عن أي ضغط أو انفعال
ناصر : مشكور دكتور و ان شاءالله ما يصير إلا الخير
و دخلت على والدتي بكل هدوء ...
رقية تمسح على رأس والدتي النائمة مقاومةً لدموعها
رقية : ناصر أمي تعبانه شوف كيف شكلها أني خايفة عليها ( و لم تستطع فخانتها دموعها كعادتها ) ناصر و الله لو يصير لأمي شي اني اموت
مسحتُ على رأسها و حاولت تهدئتها
ناصر : بس يا رقية امي ما فيها الا الخير و هي محتاجه للراحة بس و بسج دموع
انتهى وقت الزيارة و عدنا إلى المنزل
و ما أن وصلنا للمنزل حتى رأينا والدي و الغضب متطايرا من عينيه
توجه نحونا بغصب و بنظرات أرعبتنا و كأنه بركان سيثور في أي لحظة
و رفع يده محاولا ً ضرب أختي
و فجأة شعرت بقوة كبيرة جعلتني أمسك بيد والدي
ناصر : لا تمد يدك عليها بدون سبب
بكت رقية و أسرعت إلى غرفتها
أبو ناصر : ولد قليل أدب
و أفلت يده بعنف من بين يدي
ناصر : يبه ما في سبب يخليك تمد ايدك على رقية أو على أي أحد كفايا خلااااااص
أبو ناصر : والله و أشوف طلع لك لسان يا نويصر
و الله انك ما تستحي على وجهك
و في أسباب تخليني أضربها و أضربك و أضرب أمك بعد
ناصر : ما يكفيك كل الي صار بسببك
أفرح الحين يا بويي ( وقالها بكل حزن ) أمي المسكينة بالمستشفى بسببك و أختي ليلها و نهارها بكى
ما راح أسكت خلاص
دُهشتُ من ردة فعل والدي الباردة جدا ً توقعت أن المشكلة ستكبر و تكبر أكثر و لكنه انسحب من المنزل بعد أن ألقى نظراته التي اعتدت عليها
و بعد تلك الحادثة أصبحتُ كثيرة التغيب عن المدرسة رغم كونها هذه السنة الأخيرة لي و لكني انشغلت مع مرض والدتي
ناصر : و الله يا غريب متضايق حدي و أحس الدنيا ضاقة في عيني .. أمي و مرضها و أبوي مثل ما انت عارف و أنا محتاج فلوس عشان علاج امي و لا أدري وش اسوي و كيف أدبر فلوس و أنا مامخلص ثانويه
غريب : الله يفرج عنك .. واذا عن الفلوس قلت لك من قبل طريقة بس مسوي نفسك مثالي و منت راضي
ناصر : لا مستحيل يا غريب تبيني أشتغل في التهريب لا ما أقدر
غريب : براحتك مع ان ودي أساعد بس أنت ما تبي
حاولت أن أفكر في كلامه أنا أعلم أن هذه العمل غير مشروع و لكنني لا أملك المال و أنا لا أعرف طريقة أخرى تجعلني أحصل على المال
ناصر : خلاص يا غريب بشتغل معاك بس مرة وحدة
ابتسم غريب بانتصار وقال : مثل ما تبي
و مع مرور الأيام التي أقضي فيها نهاري مع والدتي في المستشفى و في الليل مع غريب و أختي رقية مع والدتي في الليل و نهارها في المنزل
و أما والدي فما عدت أراه بعد تلك الليلة التي دخل فيها و كان بحالة من السكر
و مع عودة والدتي للمنزل
عادت البسمة و النشاط إلى أختي رقية
رقية : نورتي البيت يالغالية
أم ناصر : بوجوكم يا عيالي و ربي لا يخليني منكم
الكل : آمين
تحسنت حالة والدتي النفسية و أختي أيضا ً
و حدث الانقلاب النفسي في تلك الليلة المظلمة
التي دخل فيها والدي على والدتي في وقت نومها
أبو ناصر: نايمة ها ... أقول قومي
أم ناصر :بسم الله
وما أن أبصرته حتى بدأت بالبكاء
أم ناصر : نعم .. اشتبي ؟
أبو ناصر : تراه بيتي و ش فيك مستغربه ؟
أم ناصر : بس ارحمني عذبتني كفايه روووح عنا
أبو ناصر : لا تخافي برحل بس محتاج فلوس و أبيك تعطيني
أم ناصر : حرام عليك تضيع حياتك و حياتنا و فلوسنا على الحرام بسك خاف الله
أبو ناصر : أووص اعطيني فلوس بدون محاضرات
أم ناصر : أقولك ماعندي ما تفهم ... نـاصر ... رقية
و لكنني للأسف لم أصل إلى المنزل إلا متأخراً
فتوجهت مسرعا ً إلى غرفتها بعد أن سمعت بكائها
ناصر : يمه .. رقية وش صار ؟
رقية : من أبوي خوفها و أخذ الفلوس الي عطيتها أمي أمس
مسحت على رأس والدتي و أنا أحاول تهدئتها
ناصر : خلاص يايمه ان شاءالله هذي آخر مرة يجي
لو عطيتيه الفلوس وفتكيتي منه
أم ناصر : لا هذا تعبك يا ولدي
ناصر : لا تخافي يمه الحمد لله عندي فلوس ولا تخافي .. يالله الحين ارتاحي و نامي .. رقية ابقي معها
رقية : ان شاءالله
لم يطل الحال بنا و بدأ عملي يتطور مع غريب عرفت فيما بعد أني أتاجر بحبوب مخدره و لكنني أكملت العمل معه و لم ألتفت الى أي شيء
فكنت أرى أن حياتي بدأت تبتسم لي
فأنا أستطيع أن أمتلك أي شيء أريده بالنقود
و أستطيع أن أمنع والدي من العوده إلينا فكنت أقدم له المال متى احتاج
و الأهم لدي أني لم أعد أرى دموع والدتي أو أختي
و لكنني غفلت عن الحقيقة و الواقع...
فقد تجاهلت نصائح أصدقائي المقربين بعد أن عرفوا بقربي من غريب و عملي معه و لكنني لم أهتم إلى ذلك أبدا ً
و أنا الآن هنا خلف هذه القضبان الحديدية
و الجدران البالية قد يكون والدي هو سبب أخطائي كلها و لكنني أخطأت
لقد كنت أبيعُ حبوب مخدرة هدمت حياة والدي و حياتنا معه...
أنا السبب في كل ما حصل
قد أكون جلبت لهم السعادة مؤقتاً و لكنني سلبت سعادتهم الحقيقة
سامحوني لقد أخطأت كثيرا ً
والدتي في المستشفى حالتها خطيرة بسببي
أختي رقية لم يبقى لها أحد
والدي بعيدا عن الجميع منذ أمد بعيد
و أنا هنا رافضاً وبشدة رؤية أختي التى حاولت أن تلتقى بي هنا