بين تلك الأزقة المتعرجة، والبيوت المتكأة على بعضها بحنو أزلي والتي تحكي للناظر قصة تاريخ طويل، حيث تحوّل أديم الأرض إلى طبقات من العصور والأزمان والجماجم، نقلت قدميّ بخطى بطيئة، أتأمل تلك التعرجات والخدوش والزخارف الحجرية، فسافرت بين الذاكرة إلى الزمن البعيد، وأشرعت في قاربها الذي يلغي العصور والمسافات، وأخذت تطوف سجلات الزمن وتقلب أوراق التاريخ.
أما الآجر الذي بنيت به تلك البيوت، فما زال يحتفظ في تعرّجاته آثار الماضي العتيق وتنبعث منه رائحة السنين المحروقة، وحكايات طويلة عاشها أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) مع جبابرة العصر الأموي وبطشهم وتسلطهم وسفكهم للدماء ولويهم للحقائق.
في ذلك المكان العتيق، وفي تلك الزاوية من الزمن المنسي، يرقد بسلام جثمان طاهر لروح مطمئنة، تشكل أحد الرموز الدافقة التي اعتلتها واقعة الطف قبل ما يزيد على ألف وأربعمائة عام، ورغم كل ذلك الكم الهائل من السنين الطويلة تلتهب تلك الرموز كلما اقتربنا من العشرة الأولى لشهر محرم الحرام، حكمةٌ كان الله سبحانه أرادها أن تكون نبراساً خالداً لبني البشر، ذلك هو مرقد السيدة رقية بنت الإمام الحسين (عليه السلام) إحدى الوقائع المؤلمة التي امتازت بها واقعة الطف الخالدة. ذلك المرقد المقدس الذي تعجّ ربوعه بالزائرين من كلّ فج عميق على طول فصول السنة، قضية محركة لأجيال الحاضر تشدها برموز الماضي، وتبحث في سببية تضحياتهم الكبيرة، في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض.
مرقد عتيق لجثمان طاهر، يمثل رمزاً من رموز الحق في صراعه الأبدي ضد الباطل.
كل ذلك يؤكده الأثر التاريخي لتلك الواقعة التي يضمها الزمن السحيق ويحركها الجيل الحاضر، ويتوارثها الأبناء من الآباء بما لها من مدلولات ورموز عميقة، تجعل الأمة على درجة من التحمل والتصدي لما يثار من غبار حول الحقائق، يراد به طمس معالمها وإيغالها عنوة في مشروع حيوية الإنسان وإبعاده عن تاريخه ورموزه، وجعله كشجرة بلا جذور في مهب الريح.
جثمان طاهر، وجسد صغير لمرقد يجثو بسلام في تلك المدينة العتيقة التي تسلّقها الزمن فأوصلها إلى بوابة العالم، وارتقت كتب التاريخ من جامعات الكون، منها العارفون، قصة المواجهة! قصة الصراع العنيف الذي دار بين الحق والباطل، قصة التمييز بينهما والتقييم للخاسر والمنتصر.
رقية في كتب الشيعة
لقد كان لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام) عدة أولاد بنين وبنات، منهم طفلة ذات ثلاث سنين معروفة بـ (رقية) ومدفونة في سوق شارع العمارة في دمشق.
وقد ورد ذكرها في كتب أرباب المقاتل في واقعة كربلاء وناداها الإمام الحسين (عليه السلام) ونطق باسمها في أكثر من موضع وحادثة، وخصوصاً في الساعات الأخيرة من عمره الشريف عندما أراد أن يودّع أهله وعياله نادى بأعلى صوته: (يا أختاه! يا أم كلثوم، وأنت يا زينب، وأنت يا رقية، وأنت يا فاطمة، وأنت يا رباب، انظرن إذا أنا قتلت فلا تشققن عليّ جيباً، ولا تخمشن عليّ وجهاً، ولا تقلن عليّ هجراً) [اللهوف في قتلى الطفوف].
وكذلك جاء في (مقتل أبي مخنف) الذي هو أقدم مقتل لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، نادى في يوم عاشوراء لكي يودع أهله وعياله: (يا أم كلثوم، ويا سكينة، ويا رقية، ويا عاتكة، ويا زينب، يا أهل بيتي عليكن مني السلام).
رقية في كتب السنة
ذكر عبد الوهاب بن أحمد الشافعي المصري (المتوفى عام 973 هج ) مقام السيدة رقية (عليها السلام) في كتابه [المنن: الباب العاشر]: هذا البيت بقعة شرّفت بآل النبي (صلى الله عليه وآله) في دمشق وبنت الحسين (عليه السلام) الشهيدة (رقية).
وقد ذكر العلامة الشيخ الحافظ سليمان القندوزي الحنفي (المتوفى عام 1294 هـ) اسم رقية (عليها السلام) عن لسان أبي عبد الله الحسين (عليه السلام): ثم نادى يا أم كلثوم، ويا سكينة، ويا رقية، ويا عاتكة، ويا زينب، يا أهل بيتي عليكنّ مني السلام).
رقية في اللغة
الضريح الجديدة
إن للاسم تأثيراً عميقاً على نفس الإنسان كما ثبت ذلك في علم النفس، ولذا ورد عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (إن من حق الولد على والده ثلاثة: يحسن اسمه، ويعلمه الكتاب، ويزوجه إذا بلغ). وأما كلمة (رقية) - كما جاء في اللغة - فهي تصغير راقية بمعنى الارتفاع والسمو والتصغير هنا للتحبيب.
وهكذا جميع أسماء ربائب الوحي فهي جميلة ورزينة ترمز وتشير إلى معاني الرفعة والطهر والنقاء والخير والصلاح، وأقل ما نقول للمستهزأ بها إنه لا يعرف العربية.
أما الأسماء الدخيلة والمتعربة و... فلا ترمز عادة إلا للفساد والإفساد جاءت بها أيادي مجهولة وأخذها بعض البسطاء والسذج بدون وعي ومعرفة وبعضهم أخذها تشبها أو حقداً.
الولادة والشهادة
الذي يبدو من مجمل التواريخ أن السيدة رقية (عليها السلام) ولدت ما بين عام (57 هـ و58 هـ) ووفاتها في (5 صفر 61 هـ) [ستاره درخشان شام: للشيخ علي الرباني الخلخالي: ص 219].
قصة الشهادة
الضريح القديم للسيدة رقية مع التوسعة الجديدة
قصة شهادة يتيمة الحسين (عليه السلام) رقية في الخربة بدمشق تؤلم كل ذي قلب حنون، وكل من يحمل المعاني السامية الإنسانية، ويستطيع الزائر لمقامها المبارك أن يحسّ بمظلومية هذه اليتيمة وما جرى عليها وعلى أهل بيتها (عليهم السلام) بمجرّد أن يدخل مقامها الشريف خاشعاً متواضعاً، فسرعان ما ينكسر قلبه ويجري دمعه على خدّيه، إنها المظلومة التي تحرّك الضمائر الحية وتهزّ الوجدان من الأعماق وتجعل الإنسان ينحاز إليهم ويلعن ظالميهم وغاصبي حقوقهم.
أما كيفية شهادتها فتقول كتب التاريخ: أن السيدة رقية (عليها السلام) في ليلة قامت فزعة من منامها وقالت: أين أبي الحسين (عليه السلام)؟ فإني رأيته الساعة في المنام مضطربا شديدا، فلما سمعن النساء بكين وبكى معهن سائر الأطفال، وارتفع العويل، فانتبه يزيد (لعنه الله) من نومه وقال: ما الخبر؟ ففحصوا عن الواقعة وقصوها عليه، فأمر أن يذهبوا برأس أبيها إليها، فأتوا بالرأس الشريف وجعلوه في حجرها، فقالت: ما هذا؟ قالوا: رأس أبيك، ففزعت الصبية وصاحت فمرضت وتوفيت في أيامها بالشام.
وفي بعض الأخبار: فجاؤوا بالرأس الشريف إليها مغطى بمنديل ديبقي فوضع بين يديها وكشف الغطاء عنه فقالت: ما هذا الرأس؟ قالوا: إنه رأس أبيك، فرفعته من الطّشت حاضنة له وهي تقول: يا أبتاه من الذي خضّبك بدمائك؟ يا أبتاه من الذي قطع وريدك؟ يا أبتاه من الذي أيتمني على صغر سني؟ يا أبتاه من بقي بعدك نرجوه؟ يا أبتاه من لليتيمة حتى تكبر؟
ثم إنها وضعت فمها على فمه الشريف وبكت بكاءً شديداً حتى غشي عليها، فلما حركوها فإذا هي قد فارقت روحها الدنيا، فلما رأى أهل البيت (عليهم السلام) ما جرى عليها أعلوا بالبكاء واستجدوا العزاء وكل من حضر من أهل دمشق، فلم ير ذلك اليوم إلا باك وباكية.
مقامها الشريف
الضريح القديم للسيدة رقية
يقع مقام السيدة رقية (عليها السلام) على بعد (100 متر) أو أكثر من المسجد الأموي بدمشق، وعندما تريد الدخول إلى صحنها المطهر أول ما يلفت نظرك، اللوحة التي على باب مقامها الشريف مكتوب فيها: (هنا مقام السيدة رقية بنت الحسين (عليه السلام) الشهيد بكربلاء) ترى مقامها كالدّر الأبيض الذي يلمع، وفي حينه تتذكر تلك الأيام الرهيبة والنفوس الخبيثة التي أرادت إطفاء نور فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها (عليهم السلام) ولكن هيهات، قال سبحانه وتعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).
وقد دأب المسلمون شيعة وسنة على زيارة مقامها الشريف والمبارك حتى أصبح من المشاهد المشرفة التي تهوي إليها النفوس من كل فج عميق. وقد التجأ إلى قبرها كثير من الناس بحوائجهم، فجعلوا هذه اليتيمة شفيعة ووسيلة إلى الله سبحانه، وقد قضى الله حوائجهم ببركة السيدة رقية (عليها السلام)، فكم من مريض شوفي، وكم من مديون قضي دينه، وكم من مهموم كشف غمه، وكم من مكروب زال كربه، وكم.. وكم..
زيارة السيدة رقية بنت الإمام الحسين (عليه السلام)
السلام عليك يا أبا عبد الله يا حسينُ بن علي يا ابن رسول الله، السلام عليك يا حجة الله وابن حجته، أشهد أنك عبد الله وأمينه بلّغت ناصحاً وأدّيت أميناً وقلت صادقاً وقتلت صديقاً فمضيت شهيداً على يقين لم تؤثر عمىً على هدى ولم تمل من حق إلى باطل ولم تجب إلا الله وحده، السلام عليكِ يا ابنة الحسين الشهيد الذبيح العطشان المرمّل بالدماء، السلام عليك يا مهضومة، السلام عليك يا مظلومة، السلام عليك يا محزونة تنادي يا أبتاه من الذي خضّبك بدمائك، يا أبتاه من الذي قطع وريدك، يا أبتاه من الذي أيتمني على صغر سني، يا أبتاه من لليتيمة حتى تكبر، لقد عظمت رزيّتكم وُجلت مصيبتكم، عظُمت وُجلت في السماء والأرض، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، جعلنا الله معكم في مستقر رحمته، والسلام عليكم ساداتي وموالي جميعاً ورحمة الله وبركاته.
التعديل الأخير تم بواسطة Dr.Zahra ; 04-08-2009 الساعة 07:29 PM.
سبب آخر: تكبير حجم الخط