لقد ذكر القرآن الكريم قصة آدم (عليه السلام) وإبليس في مواضع عديدة؛ لتكون تلك القصة عبرة للعالمين، وبالأخص للمسلمين، فِذكْر القرآن الكريم لتلك القصة، كان من أجل أن نعرف كيف نشأ النزاع والاختلاف، ومن أجل أن نعرف أيضاً أسباب التفرّق وجذوره.
إنَّ في تلك القصة دروساً عظيمة جداً، منها على سبيل المثال مسألة الاصطفاء والاختيار، ومنها أيضاً مسألة الخضوع والتسليم للحكم الإلهي ـ وهذا التسليم الذي تمثّل في دور الملائكة ـ ومنها أيضاً مسألة العناد للاختيار، والاصطفاء الإلهي ـ وكان هذا العناد متمثّلاً في دور إبليس لعنه الله ـ ومنها مسألة مظلومية المنتخب والمصطفى وهو آدم (عليه السلام).
ثم إنّ الآيات القرآنية بيّنت لنا سرّ العناد الشيطاني، وقبل أن نشرع في ذكر القصة نريد أن نتعرّف قليلاً على شخصية إبليس قبل الضلال، وما هو دوره قبل خلق آدم (عليه السلام).
إبليس قبل الضلال
لقد ذكر القرآن الكريم إبليس مع الملائكة مراراً كثيرة، وذِكْره له مع الملائكة يدلّ على أنّه كان صاحب مقام كبير عند الله، ومن أجل ذلك المقام رفعه الله سبحانه، وجعله في درجة الملائكة، وكانت تُعرض له مسائل من علم الغيب، وما هو مقدر في المستقبل، وبالتالي كان لإبليس مقام عالٍ جداً عند الله عزّ وجلّ.
وقد ذكرت النصوص أن إبليس كان له مقام عبادي كبير، فقد ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وهو يصف إبليس ويأمرنا بالاعتبار، قوله (عليه السلام): " فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان عَبَدَ الله ستة آلاف سنة، لا يدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة، عن كبر ساعة واحدة. فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟. كلا، ما كان الله سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً. إنّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد. وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حِمًى حرّمه على العالمين.
وهناك نصوص كثيرة تبيّن مقام إبليس قبل الضلال، لسنا في صدد جمعها.
ومما تقدّم تتضح لنا مسألة مهمة جداً: وهي السبب في ضلال كثير من الناس، وذلك أننا حينما نرى عبداً من عباد الله قد قدم
أعمالاً صالحة كثيرة، نحاول أن نعطيه نوعاً من القداسة؛ بحيث نتصور أنه لا يمكن أن ينحرف عن الصراط المستقيم وهذا تصوّر خاطئ جداً، ولأجل إزالة هذا التصور، ذكرت لنا النصوص القرآنية والحديثية مقام إبليس قبل الانحراف، كي نعتبر ونعرف أنّ مجرد مدح الله سبحانه لبعض خلقه، أو تفضيله لهم لا يعني ذلك أنهم معصومون عن الانحراف، فقد ينحرفون فيما بعد، إلاّ من زكّاه الله ـ تعــالى ـ وعصمه، وذكر لنا ذلك في كتابه، أو بيّنه من خلال ما جاء على لسان رسوله (صلّى الله عليه وآله).
فها هو إبليس خير مثال، قد عبد الله ستـة آلاف سنـة ـ فإذا كانت من سنين الآخرة، فإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدّون ـ لم تنفعه عبادته بعد أن خالف الله سبحانه وعصاه، وهؤلاء بنو إسرائيل قد فضّلهم الله على العالمين، ثمّ لمّا انحرفوا ضربت عليهم الذلّة والمسكنة، وباؤوا بغضب على غضب، وللكافرين عذاب مهين.
فيجب أن لا نغترّ بأحد أبداً، ولا نتبع إلاّ من أمرنا الله عزّ وجلّ بالالتزام بأمره، وأوجب علينا اتباعه، وطمأننا من عدم انحرافه كقوله تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله..).
فإن اتّباع أولئك الصفوة الذين اصطفاهم الله عزّ وجلّ للقيام بأمره هو الذي سينجينا من الحالة الخطيرة التي ذكرها القرآن الكريم؛ حيث يقول: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله...}. ولكن بشرط أن لا نزكّي على الله أحداً.