بعد أن اتَّضح أن موضوع هذا العلم ومحوره هو الفكر، وبما أنَّ الفكر يتوقف على المعلومات الذهنية المسبقة وربط بعضها ببعض، فمن الضروري أن نتطرق إلى العلم الذي هو إنكشاف الشيء على ماهو عليه وأقسامه تمهيداً لعملية التفكير، فنقول: العـلم حضـوري وحصـولي :
هذا التقسيم من التقسيمات الأساسيه التي لها دور رئيسي في تمييز المسائل المنطقية عن غيرها حيث قسَّموا العلم إلى قسمين: حضوري وحصولي، ونرى بأنّ أفضل وسيلة لتعريفهما هو بيان الفروق بينهما. وقد ذكروا فروقاً ثلاثة: الفرق الأوَّل :
- العلم الحصولي هو حضور صورة المعلوم لدى العالم.
- العلم الحضوري هو حضور نفس المعلوم لدى العالم.
توضيح
العلم الحصولي عبارة عن انعكاس صورة المعلوم في الذهن، فالحاضر لدى الإنسان ليس إلاّ الصورة الذهنية المجرَّدة عن المادة الخارجية والحقيقة العينيَّة والوجود الخارجي، وعليه سوف تتَّحد تلك الصورة مع الذهن أو العقل -ما شئت فعبِّر- فهناك أمور ثلاثة اتَّحدت و صارت شيئاً واحداً وهي:
العـاقل: وهو الإنسان نفسه (وهو روح لا جسد)
والمعقول: وهو الصورة الذهنيَّة (التي لا مادة لها)
والعـقل: وهو الذي أدرك تلك الصورة.
فالصورة عندما يعلمها الإنسان سوف تتجرَّد وبتجرُّدها تنسجم مع الروح أو العقل، فمن خلال الصورة المعلومة لدى الذهن، يتعرَّف الإنسان على الواقع العيني الخارجي.
وفي الحقيقة فإن وزان ارتسام الصورة في ذهن الإنسان هو وزان انعكاس الصورة في المرآة، غير أنَّ هناك فرقاً كبيراً بينهما وهو أنَّ الارتباط الموجود بين الصورة والمرآة ليس ارتباطاً علمياً، أي أن المرآة لا تعلم أنَّ الصورة ارتسمت فيها. وأمّا بالنسبة للإنسان فالأمر مختلف، فعندما تنعكس الصور في ذهنه سوف يعلم بتلك الصورة بالعلم الحضوري تبعاً لمعرفة نفسه (لأنَّها انسجمت مع النفس) ثمَّ ومن خلال تلك الصورة الذهنيَّة، يعلم بمصداقها العيني الموجود في الخارج، أي أنَّه يعلم بأنَّ الذي حضر في نفسه هو نفس ذلك الموجود الخارجي بعينه، وهذا هو حقيقة العلم الحصولي(وسرُّ ذلك هو أنَّ الأشياء الخارجية توجد في ذهن الإنسان بوجود آخر يسمى الوجود الذهني مقابل الوجود العيني الخارجي، والصورةُ الذهنيَّة هي التي تسمَّى الماهية التي ربما تتواجد في عالم الخارج وربما تتواجد في عالم الذهن، لأنَّ الماهية وإن كانت هي شيئية الشيء إلا أنَّها اعتبارية لا أصالة لها والأصالة للوجود فقط، وبناءً عليه فانعكاس الصورة يعني انعكاس نفس ذلك الشيء لا غيره. وعلى ضوئه تنحل أعظم مشكلة ألا وهي مشكلة المعرفة. تفصيل هذا الموضوع يُطلب في مبحث الوجود الذهني من الحكمة المتعالية (الفسفة)).
الفرق الثاني :
- المعلوم بالعلم الحصولي، وُجوده العلمي غير وجوده العيني.
- والمعلوم بالعلم الحضوري، وجوده العلمي عين وجوده العيني.
توضيح :
قلنا إنَّ الصورة تتواجد في الذهن في العلم الحصولي فيكون لها وجود علميٌ وهو الوجود الذهني. وهناك وجود آخر في الخارج يُسمى الوجود العيني. فالوجودان اختلفا لا بالحقيقة فلا تباين بينهما ولا انفصال، لأنَّ الوجود (العيني والذهني ) أمرٌ واحد بسيط، بل الفرق بينهما إنَّما هو في الشدَّة والضعف والسعة والضيق فحسب.
وأمّا العلم الحضوري، فإن وجوده العلمي هو عين وجوده العيني، كعلم النفس بذاتها وصفاتها وحالاتها الحسنة والقبيحة. فعندما يعلم الإنسان بحزنه وسروره وإخلاصه واطمئنانه وحسده وحقده، فإن هذا العلم لم يصل إليه من خلال الصور الذهنيَّة لتلك الصفات بل عرفها معرفةً حضوريَّة، فهي بحقيقتها ووجودها العيني حاضرة لديه. وهكذا علمه بنفسه فهو يعرف نفسه لا من خلال انعكاس صورة من نفسه في ذهنه بل يعرفها معرفةً حضوريةً. وفي الحقيقة هذه المعرفة -أعني معرفة النفس- هي المنشأ الرئيسي لجميع العلوم الحضورية، فمن عرف نفسه فقد عرف حالاتها وصفاتها جميعاً بنفس العلم، غاية ما هناك أنه ربَّما لا يركِّز فيها أو يتجاهلها وهذا أمر آخر.
الفرق الثالث :
- العلم الحصولي ينقسم إلى التصور والتصديق.
- أمّا العلم الحضوري فلا ينقسم إلى التصور والتصديق. ذلك لأنَّ موطنه النفس بما هي هي لا الذهن الذي هو موطن الإدراك، وحيث لا إدراك فلا تصوُّر ولا تصديق. وسيأتي أنَّ التصوُّر والتصديق قسمان للإدراك الذهني.
ثم: إنَّ علم المنطق لا علاقة له بالعلم الحضوري وإنما تعلق أبحاثه بالعلم الحصولي فقط، لأنَّ هذا العلم يشكِّل محتويات الذهن التي بها تتمُّ عملية التفكير، ولهذا سوف تقتصر أبحاثنا المنطقية في بيان هذا القسم من العلم.
تعريف العلم الحصولي :
على ضوء ما ذكرنا في المقدَّمة، نستنتج أمرين:
1- إنَّ العلم الحصولي يعني "انطباع صورة الشيء في الذهن". أو بتعبير أدق: "حضور صورة الشيء في الذهن".
2- إنَّ العلم الحصولي لا يحصل إلاّ من خلال علمٍ حضوريٍّ وهو العلم بالصورة الحاضرة لدى الإنسان التي تشكِّل حالةً من حالات النفس مندمجة معها، وهذه الصورة الذهنية هي صورة المعلوم، وعليه فلولا إدراك الإنسان نفسَه وحالاتها لما تمكَّن من إدراك أي شيءٍ آخر خارج عنها، فبما أنَّ الإنسان يعرف نفسَه ويعرف الصور التي تنعكس في نفسه -كلُّ ذلك بالعلم الحضوري- يتمكَّن من معرفة الحقائق العينيَّة والأشياء الخارجية.
ومن هنا نقول :
إنَّ معرفة النفس هي أهم المعارف، إذ بها تعرف الأشياء الأخرى، وكلَّما توسَّع الإنسان في معرفته لنفسه وتعمَّق فيها، اتسع علمه بما حوله وتمكَّن من درك الحقائق كما هي، ومن لم يعرف نفسه حق المعرفة فسوف يعيش أوهاماً يظنُّها حقائق، فيقيِّمها تقييماً أعلى من مستواها.
ولا يمكن للإنسان أن يصل إلى حقيقة نفسه إلا بمعرفته لله سبحانه، فإنَّ النفس نفحة من نفحات الرحمان فمن لم يحظ بمعرفة الشمس كيف يدرك شعاعه؟ {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ...}(الحشر/19).
التعديل الأخير تم بواسطة أنين الإستغفار ; 24-03-2009 الساعة 02:32 AM.