امتنع عن مقابلة أي مسؤول أميركي وابتعد عن السياسة زمن صدام ورفض زيارة ايران
لندن: معد فياض
في زقاق ضيق يتفرع عن «شارع الرسول»، يسمى بلهجة أهل مدينة النجف «العكِّد»، وبلهجة أهل بغداد الدارجة «دربونة»، يعيش في بيت نجفي تقليدي قديم، لا يبعد أكثر من 500 متر عن ضريح الإمام علي بن أبي طالب، المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني.
باب البيت وواجهته يشبهان واجهة أي بيت نجفي بسيط للغاية. وفي داخل البيت، تكتشف البساطة في أشد أوجهها. فهو لا يختلف في عمارته عن البيت العراقي، الذي يمتد طرازه العمراني إلى بيوت بابل، التي تعود إلى أكثر من خمسة آلاف عام. عندما تجتاز عتبة البيت، تجد نفسك في ممر يطلق عليه «المجاز»، وهي المساحة التي تفصل بين المدخل والغرف الداخلية للبيت، وتهيئ الغريب للمرور إلى الداخل. عند يسار المدخل هناك غرفة صغيرة وبسيطة، تستخدم كمكتب لآية الله علي السيستاني، يعمل فيها عادة مستشاروه الذين يقرأون ويراجعون الرسائل، التي يسأل أصحابها في الغالب عن أمور فقهية وفتاوى. وتعرض هذه الرسائل على السيد المرجع ليجيب عليها، وتختم بخاتمه لتكون نافذة.
أما الغرفة الكبيرة، التي تواجه باب البيت والمجاز، فهي مقر عائلة السيستاني. غرفة واسعة بعض الشيء، مفروشة بالسجاد البسيط. تخلو الغرفة هذه، التي يستقبل فيها السيستاني ضيوفه، من أي أريكة أو كرسي. ويمتد فوق السجاد فرش يتوزع عليه بعض الوسائد. يطلق على هذه الغرفة، وبلهجة أهالي النجف، تسمية «البراني». وتعني هذه الكلمة «خارج البيت»، مع أنها ضمن مساحته. والبراني مستلة من مفردة «برة» أي الخارج، بينما تسمى هذه الغرفة في مناطق مختلفة من العراق بـ«الديوانية»، مأخوذة عن الديوان.
ولكل مرجع من مراجع الشيعة الأربعة في النجف (السيستاني والشيخ اسحق الفياض، والسيد محمد سعيد الحكيم، والشيخ بشير النجفي)، براني خاصة بكل منهم في منزله، يستقبل فيها ضيوفه ومقلديه وتلامذته. وعادة تقع البراني داخل البيت، وتكون منفصلة عن أجزاء المنزل العائلية والاجتماعية، باستثناء المرجع الأعلى الراحل أبو القاسم الخوئي، الذي كانت برانيته خارج البيت، حيث كان يلقي دروسه على تلامذته في مسجد الخضراء الملاصق لسور صحن الإمام علي.
في «البراني» يجلس السيستاني ساعات معلومة. مدة بقائه في هذه الغرفة تعتمد على صحته ونشاطه اليومي. خلال هذه الساعات التي تقسم ما بين الصباح والمساء، يستقبل المرجع ضيوفه الذين يأتون إليه من كل حدب وصوب، سواء للسلام عليه أو لاستشارته أو للحصول على معلومة فقهية أو فتوى.
في هذا البراني يتساوى الجميع، وتتجسد القيم الإسلامية الاجتماعية الحقة، إذ ليس هناك فرق بين غني وفقير، ولا بين عربي وأعجمي، ولا بين وزير وعامل بسيط. الكل يجلس على الفراش نفسه، وتحت السقف نفسه، وعلى المسافة نفسها من موقع آية المرجع. ذلك أن بيت المرجع مفتوح أمام الجميع، وليس من حق حارس البيت أو المرجع أن يمنع أي زائر. وبمجرد أن تطرق الباب ويسألك الحارس، أو المتطوعين في خدمة المرجع عما تريد، تجيبهم بأنك تريد السلام أو تحية المرجع، فيفتح الباب أمامك واسعا من غير أي استفسار أكثر، لا عن اسمك ولا عن مذهبك ولا عن ميولك السياسية. ويكون الشاي ووجبات الطعام جاهزة خاصة للزوار القادمين من مدن بعيدة. وعندما تصل إلى مدينة النجف لزيارة ضريح الإمام علي، ومن ثم تسأل عن بيت السيد السيستاني، فسوف تجد أكثر من شخص ليقودك إلى موقع البيت.
لم يتجاوز السيستاني عتبة هذا البيت منذ عشر سنوات، إلا مرتين. الأولى في أبريل (نيسان) 2003، عندما دخلت القوات الأميركية إلى العراق، واستقر قسم منها عند حدود مدينة النجف. عندما طلب إليه نجله محمد رضا، بنصيحة بقية العلماء، أن يترك بيته بصورة مؤقتة خوفا على حياته من جهة، وكي لا يتعرض لضغوط سياسية من جهة أخرى. وفي المرة الثانية التي ترك فيها بيته، كانت في أغسطس (آب) 2004، عندما اضطر للسفر إلى لندن لإجراء الفحوص الطبية والعلاج. غير أن هذه المرة لم تكن الأولى التي يترك فيها السيستاني مدينة النجف، إذ كان قد غادرها في عام 1961، عندما عزم على السفر إلي موطنه مشهد، وكان يحتمل استقراره هناك. النجف، مثلما هو معروف عنها كأكبر وأبرز حوزة، تشكل أمنية في ذهن أي رجل دين شيعي وطالب علم وفقيه، لأن يزورها ويتزود من علومها على أيدي علمائها. وهذه المدرسة الدينية تجسد الحديث: «لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى». لهذا ترى أن ما يميز علماءها، هو درجتهم الفقهية والعلمية، وليس جنسيات البلدان التي ينحدرون منها. فالسيستاني إيراني، والشيخ الفياض أصله أفغاني، والشيخ النجفي من أصول باكستانية، باستثناء الحكيم الذي هو عراقي، وإن كان أجداده قد أقاموا في إيران منذ العهد الصفوي.
وفي توجه علماء الدين الشيعة، لا بد من الدراسة في حوزة النجف والنهل من علمها والتلمذة على أيدي أساتذتها وفقهائها وعلمائها، حتى وإن كان قد درس في حوزات أخرى في إيران أو غيرها. وضمن هذا التوجه كان السيد علي السيستاني قد وصل إلى عاصمة العلم، النجف، في عام 1951 مهاجرا إليها من مدينة قم في إيران. فسكن مدرسة البخارائي العلمية، وحضر بحوث آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي، والعلامة الشيخ حسين الحلي في الفقه والأصول ولازمها مدة طويلة. وحضر خلال ذلك أيضا بحوث بعض الأعلام الآخرين منهم الإمام الحكيم والسيد الشاهرودي.
قد يختلف السيستاني عن الكثير من معاصريه، إذ وصل إلى النجف وهو مجتهد وليس طالب علوم دينية في مراحله الابتدائية، أو كما يطلق عليه في عناوين الحوزة العلمية، طالب في المقدمات. وعلي السيستاني الذي ولد في مشهد، شرق إيران، حيث مرقد الإمام الرضا، في 4 أغسطس (آب) 1930، نشأ أصلا في أسرة علمية دينية ملتزمة، وتربى وسط عائلة جل أفرادها من رجال الدين. والده هو السيد محمد باقر، وجده الأدنى هو العالم السيد علي، الذي ترجم له العلامة الشيخ أغا بزرك الطهراني في طبقات أعلام الشيعة.
ومثل أي طفل ينشأ في عائلة متدينة تشتغل في العلم والفقه، فإن علي الذي لقب بالسيستاني نسبة إلى سيستان الواقعة إلى الجنوب الغربي من إيران، التي أقامت بها عائلته بعد أن تركت أصفهان، بدأ وهو في الخامسة من العمر بتعلم القرآن الكريم، ثم دخل مدرسة دار التعليم الديني لتعلم القراءة والكتابة ونحوها. وفي عام 1941، بدأ بتوجيه من والده، قراءة مقدمات العلوم الحوزية، فأتم قراءة جملة من الكتب الأدبية، وحضر في المعارف الإلهية دروس العلامة المرحوم الميرزا مهدي الأصفهاني المتوفى سنة 1946. كما حضر بحوث الخارج للمرحوم الميرزا مهدي الآشتياني، والمرحوم الميرزا هاشم القزويني. وفي عام 1949، هاجر إلي مدينة قم لإكمال دراسته، فحضر عند العلامتين المعروفين السيد حسين الطباطبائي البروجردي، والسيد محمد الحجة الكوهكمري. وكان حضوره عند الأول في الفقه والأصول، وعند الثاني في الفقه فقط. وفي عام 1951، هاجر من مدينة قم إلي النجف الأشرف، فسكن مدرسة البخارائي العلمية وحضر بحوث آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي، والعلامة الشيخ حسين الحلي في الفقه والأصول، ولازمهما مدة طويلة، وحضر خلال ذلك أيضا بحوث بعض الأعلام الآخرين، منهم الإمام الحكيم والسيد الشاهرودي.
عندما عاد إلي مدينة النجف في أواخر عام 1961، بدأ بإلقاء محاضراته. وكانت له محاضرات فقهية خلال هذه السنوات، تناولت كتاب القضاء وأبحاث الربا وقاعدة الإلزام وقاعدة التقية وغيرهما من القواعد الفقهية. وبحسب الباحث الإسلامي غانم جواد، فإن السيستاني يعد واحدا من أبرز من يمثل مدرسة الخوئي، الذي جلس على منبر الدرس أكثر من سبعين عاما، وقد تميزت بالاعتدال. وكان السيستاني من أفضل تلامذة المرجع الراحل الخوئي. وهو من جلس على مقعده ليدرس في مسجده الخضراء. يقول جواد لـ«الشرق الأوسط»: إن تلامذة الخوئي، وفي مقدمتهم السيستاني، يتميزون باهتمامهم بالعلم وعدم التدخل في السياسة وعدم إتباعهم منهج ولاية الفقيه، الذي يعطي للإمام الديني حق القيادة السياسية.
ويتحدث جواد الذي عرف بدراساته الإسلامية والفقه الشيعي، عن المرجعية والسياسة، قائلا: «يظهر من قراءة حركة المرجعية الشيعية في النجف، أن نتاج ومفاعيل حركة المرجعية بطرح ما حققته من انجازات في مجال التبليغ الديني والانتشار المحدود، لم تتسم بالدينامكية، ولم تغير في ميزان القوى داخل المحيطات الاجتماعية والسياسية، التي يصل إليها ذراع المرجعية، بل ساهم عزوفها أحيانا عن الشأن العام في تعضيد الأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة».
ويضيف أن «التحولات السياسية التي شهدها العراق منذ عقد الخمسينات كانت من الخطورة الجدية لأن تعدل من صيرورة المرجعية لضرورة مواكبة التغييرات شديدة السرعة في العراق عموما، بل كان الرهان قائما على أن انحصار تأثير المرجعية في المجال الفقهي والإرشادي ليس المعبر الحقيقي والواقعي إلى قيادة الأمة، والاحتفاظ بالرصيد الكامل من المقلدين (الأتباع)، وإنما قد يؤدي إلى دفع المرجعية خارج مضمار التأثير الاجتماعي». ويشير إلى أنه «في ضوء وعي إشكالية انكفاء المرجعية وانحباس سلطانها، تجري قراءة تجارب التشكيلات السياسية الشيعية في العراق، كتعبير احتجاجي ضمني على النظام المرجعي القائم وتوفير النصاب السياسي له».
المرجع، كما هو معروف لا يعين بل ينتخب بفضل علمه وكثرة مقلديه. وقد نقل بعض أساتذة النجف، أنه بعد وفاة آية الله السيد نصر الله المستنبط، اقترحت مجموعة من العلماء على الإمام الخوئي إعداد الأرضية لشخص يشار إليه بالبنان، مؤهل للمحافظة على المرجعية والحوزة العلمية في النجف. فكان اختيار آية الله العظمى السيد السيستاني. بعد وفاة الخوئي في عام 1992، تصدى السيستاني لشؤون المرجعية وزعامة الحوزة العلمية بإرسال الإجازات، وتوزيع الحقوق، والتدريس على منبر الإمام الخوئي في مسجد الخضراء، وبدأ ينتشر تقليده وبشكل سريع في العراق والخليج ومناطق أخرى، كالهند وأفريقيا وغيرها.
لم يعرف عن السيستاني تدخله في الأمور السياسية مباشرة، ومنذ أن كان حزب البعث الحاكم في العراق سابقا بعمليات تسفير واسعة للعلماء وسائر الطلاب الأجانب في حوزة النجف. لاقى السيستاني عناء بالغا من جراء ذلك، وكاد أن يُسفّر عدة مرات، وتم تسفير مجاميع من تلامذته وطلاب مجلس درسه في فترات متقاربة، ثم كانت الظروف القاسية أيام الحرب العراقية الإيرانية، ولكن على الرغم من ذلك فقد أصر السيد على البقاء في النجف من غير أن يتدخل في السياسة. ويؤكد مؤيدو السيستاني أنه يرفض الانخراط في أي عمل سياسي وأنه رفض مقابلة أي شخصية أميركية، وهو لم يتدخل في السياسة زمن صدام حسين، وكان تحت الإقامة الجبرية لكونه لم يخضع لطلبات الحكومة. فهو من مدرسة تتجنب الدخول في السياسة، وتقوم بما هو لازم عندما تكون الأمة في فتنة. وتفسر مواقف السيستاني الداعية إلى تشجيع الانتخابات أو غيرها من المواقف بأنها تأتي لصالح خير الأمة وليس تدخلا في السياسة.
يقول جواد، الباحث الشيعي والمقرب من المرجع، إن «السيد السيستاني لا يريد أن تتسلط عليه الأضواء، فهو يقدم النصح والإرشاد، ولا يعطي الأوامر. وهو يمتلك السلطة الأخلاقية». ويؤكد أن الدور الذي رسمه لنفسه هو «التوجيه». ويضيف أن نهج السيستاني «هو الاعتدال، وهو بطبعه لا يتدخل في الصراعات السياسية، ولا يحب زج نفسه في الأمور السياسية أو الوقوع في مطبات سياسية أيا كان نوعها، مجسدا بذلك تعاليم أستاذه الخوئي، الذي رفض هو الأخر وفي عهد النظام السابق زج نفسه في الأمور السياسية مفضلا دور الأستاذ والمعلم».
ويشرح جواد «أن المرجع الديني يجب أن يتحلى بثلاث ميزات، وهي أن يكون مجتهدا وعالما، وأن يهتم بالتدريس وأن يكون له تلاميذ يشيرون إليه بالبنان، وهذا ما توفر في آية الله السيستاني».
ويتحدث مصدر من النجف ومقرب من المرجعية، عن «محاولات السياسيين لجره إلى مواقعهم من خلال زيارتهم له». ويقول: «يخرج المسؤول ويقول التقيت بالسيد وبارك مشروعي من غير حتى أن يلتقي السيستاني، بل يكون قد التقى نجله محمد رضا، أو أي شخص آخر، وهم في المرجعية للأسف لا يصدرون تكذيبا أو نفيا». ويشير إلى أن السيستاني «لا يريد أن يكون مثل ولي الفقيه، ولا يتقمص هذا الدور، لأنه لا يؤمن به»، ويضيف: «أن ولي الفقيه يمتلك السلطة القانونية لأن يقود ويحكم ويفصل رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو أي منصب آخر، السياسيون هم من يريدون توريطه مع أنه غير راغب في ذلك على الإطلاق. كل ما يريده هو أن تمشي الأمور بصورة طبيعية وكل ذي حق يأخذ حقه، ويكون دوره عاما وليس تفصيليا».
ويشير هذا المصدر الذي رفض الكشف عن اسمه، إلى أن «رفضه الأخير لزيارة إيران يصب في هذا الجانب». ذلك أن منصب ولي الفقيه سياسي أقرب ما يكون إلى الفقه. والفقيه هو من حصل على مرتبة الاجتهاد، وعنده كتب ومؤلفات فقهية، ويفتي ويقلده الناس.