ان مما لا شك فيه بين الناس هو رجوع الجاهل منهم الى العالم، هذا ما جرت عليه سيرة العقلاء منهم، وقد أمضت الأديان ايجابيا وتقريرا تلك السيرة.
توضيح ذلك:
ان الملاحظ لطريقة الحياة الاجتماعية سواء ما كان منها بدائيا أو مدنيا يجد واضحا وضوحا لا لبس فيه ولا شك إن العقلاء جرت سيرتهم في تعاملاتهم الحياتية على رجوع غير المتخصص منهم إلى الخبير المتخصص كرجوع المريض إلى الطبيب لا إلى التاجر أو البقال، ورجوع من ليس له حظ في اختصاص ما إلى من له حظ في ذلك الاختصاص وليس ذلك الرجوع منهم إلا تلبية لفطرةٍ جبلوا عليها ، ولا تستقيم الحياة بدونها. كرجوعهم في إشباع جوعهم إلى الطعام واشفاء أمراضهم إلى الدواء أو ارواء عطشهم الى الماء وهكذا. وهذه السيرة ليست مختصة بتخصص ما، او فن دون فن، بل تشمل جميع صنوف الحياة وفنونها، ففي كل واقعة لابد لنا من الرجوع فيها الى المتخصص لمعرفة حكمها.
وجاءت الاديان لتقرر وتمضي هذه الحالة الفطرية كما امضت من قبلها حالات فطرية اخرى كثيرة كالزواج واشباع الغرائز وغيرها.
ولكن ضمن ضوابط وحدود وُضِحَت في كل شريعةٍ، فمثلا الزواج له شروط خاصة وضوابط معينة لا يسمى الزواج زواجا في تلك الشريعة ما لم تراعى تلك الضوابط والشروط، وكذلك اشباع الانسان جوعة بالطعام لابد ان ياتي في ضمن دائرة الشريعة ضمن ضوابط وشروط معينة من قبيل الحلية والطهارة والاباحة وغيرها.
وهكذا فيما نحن فيه من رجوع الجاهل الى العالم الخبير في مجال بيان الاحكام الشرعية الدينية وتوضيح العقائد وتبيين المختلف فيه للناس. فإن اصل الارجاع مما لا شك فيه (أي ارجاع غير المتخصص في الدين والاحكام الشرعية الى المتخصص)، نعم هناك شروط وضعتها الشريعة في كيفية كون المتخصص الديني متخصصا (كما ان التخصصات الاجتماعية وضعت و وضحت ضوابط لكون المتخصص فيها متخصصا) ما لم ترعى تلك الضوابط والشروط لا يسمى ذلك متخصصا يجوز الرجوع اليه.
ومما دل من الذكر الحكيم والروايات على اصل الارجاع الديني الى المتخصص.
1- قوله تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
2- وقوله تعالى: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).
ومن الروايات:
1- قوله : (اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا).
بعد وضوح (من خلال التتبع والتأمل) ان الراوي المقصود به هنا هو المتخصص لامطلق من يروي عن اهل البيت لوضوح عدم ارادة هذا المعنى .
اما ما دل على كيفية الارجاع وشروط المرجع اليه فمنها:
قو ل العسكري : (فاما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لامر مولاه فعلى العوام ان يقلدوه).
هذا فيما يخص شروط المرجع اليه، واما كيفية الارجاع فهي عقلائية ممضاة من قبل الشارع،هذا وبعد وضوح ضرورية الرجوع الى المتخصص في تحصيل الاحكام الشرعية، فان افضل طريقة لمعرفة المتخصص هي بالرجوع الى ذوي الخبرة من ذلك التخصص والاعتماد على ارشادهم، نظير الشهادات الجامعية التي تصدر من الجامعة لتؤكد ان فلان قد حصل على تخصصه في هذا الفن او ذاك.
المحور الثاني: في بيان حال الاخبار وطريق الاخذ بها:
قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فصلت 42.
فمن خلال هذه الاية. ومن خلال الحديث الاتي:
عن ابي عبد الله : (لا تتقبلوا علينا حديثا الا ما وافق القران والسنة، او تجدوا معه شاهدا من احاديثنا المتقدمة) رجال الكشي. يتضح:
1- ان هناك احاديث مدسوسة وموضوعة.
2- ان هناك ميزان لمعرفة ذلك.
توضيح ذلك:
الاية المتقدمة تضع لنا ميزانا يفضح الخلط والدس الموجود في المعارف الشرعية ، فما من خلط او دس الا ويدفعه القران ويظهره .
فقول الرسول الذي رواه الفريقان: (ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فاتركوه).
يوضح الحالة (وجود الدس) والعلاج (الارجاع الى القران) يقول العلامة الطباطبائي في الميزان ج1 ص 106 : فاعطى (أي الرسول صلى الله عليه وآله ميزانا كليا يوزن به المعارف المنقولة منه ومن اوليائه، وبالجملة فبالقرآن يدفع الباطل عن ساحة الحق قال تعالى: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) الانفال 7. ولا معنى لاحقاق الحق وابطال الباطل الا باظهار صفته.
((وبعض الناس وخاصة من اهل عصرنا سلكوا مسلك الاخباريين واصحاب الحديث والحرورية وغيرهم، مسلك الافراط والاخذ بكل رواية منقولة كيف كانت، مقابل من سلك من العلمانيين مسلك الرفض التام تاثرا بالمذهب المادي)).
ثم يقول : وكما ان القبول المطلق تكذيب للموازين المنصوبة في الدين لتمييز الحق من الباطل كذلك الطرح الكلي تكذيب لها والغاء وابطال للكتاب العزيز الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهو القائل جل ثناؤه: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الحشر 7. وقوله تعالى: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) النساء 64. اذ لو لم يكن لقول رسول الله صلى الله عليه وآله حجية او لما ينقل من قوله صلى الله عليه وآله الينا معاشر الغائبين في عصره و الموجودين بعد ارتحاله من الدنيا حجية لما استقر من الدين حجر على حجر، والركون على النقل والحديث مما يعتقده البشر ويقبله في حياته الاجتماعية قبولا يضطر اليه بالبداهة ويهديه الى ذلك الفطرة الانسانية، لا غنى له عن ذلك، واما وقوع الدس والخلط في المعارف المنقولة الدينية فليس ببدع يختص بالدين، كيف ورحى الاجتماع بجميع جهاتها وأركانها تدور على الاخبار الدائرة اليومية العامة والخاصة، ووجود الكذب والدس والخلط فيها ازيد وايدي السياسات الكلية والجزئية بها العب؟
ونحن على فطرتنا الانسانية لا نجري على مجرد قرع السمع في الاخبار المنقولة الينا في نادي الاجتماع بل نعرض كل واحد واحد منها على ما عندنا من الميزان الذي يمكن ان يوزن به فان وافقه وصدقه قبلناه وان خالفه وكذبه طرحناه وان لم يتبين شيء من امره ولم يتميز حقه من باطله وصدقه من كذبه توقفنا فيه من غير قبول ولا رد على الاحتياط الذي جبلنا عليه في الشرور والمضار.
هذا كله بشرط الخبرة في نوع الخبر الذي نقل الينا، واما ما لا خبرة للانسان فيه من الاخبار مما يشتمل عليه من المضمون فسبيل العقلاء من اهل الاجتماع فيه الرجوع الى اهل خبرته والاخذ بما يرون فيه ويحكمون به هذا.
فهذا ما عليه بناؤنا الفطري في الاجتماع الانساني، والميزان الديني المضروب لتمييز الحق من الباطل وكذا الصدق من الكذب، لا يغاير ذلك بل هو هوَ بعينه. وهو العرض على كتاب الله فإن تبين منه شيء اخذ به وان لم يتبين لشبهة فالوقوف عند الشبهة. وعلى ذلك اخبار متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله والائمة من اهل بيته .
هذا كله في غير المسائل الفقهية واما هي فالمرجع في البحث عنها فن اصول الفقه. الميزان ج1 ص 106. بتصرف.