بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم
مصرع أبي الفضل عليه السلام
ولما رأى أبو الفضل (عليه السلام) وحدة أخيه، وقتل أصحابه، وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله انبرى إليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق فلم يسمح له الإمام، وقال له بصوت حزين النبرات:
(أنت صاحب لوائي..).
لقد كان الإمام يشعر بالقوّة والحماية ما دام أبو الفضل فهو كقوة ضاربة إلى جانبه يذبّ عنه، ويردّ عنه كيد المعتدين، وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً:
(لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين، وأريد أن آخذ ثأري منهم..).
لقد ضاق صدره، وسئم من الحياة حينما رأى النجوم المشرقة من أخوته، وأبناء عمومته صرعي مجزرين على رمضاء كربلاء فتحرّق شوقاً للأخذ بثأرهم والالتحاق بهم.
وطلب الإمام منه أن يسعى لتحصيل الماء إلى الأطفال الذين صرعهم العطش
فانبرى الشهم النبيل نحو أولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة فجعل يعظهم، ويحذّرهم من عذاب الله ونقمته، ووجّه خطابه بعد ذلك إلى ابن سعد:
(يابن سعد هذا الحسين بن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قتلتم أصحابه وأهل بيته، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء، قد أحرق الظمأ قلوبهم، وهو مع ذلك يقول: دعوني أذهب إلى الروم أو الهند، وأخلّي لكم الحجاز والعراق..).
وساد صمت رهيب على قوّات ابن سعد، ووجم الكثيرون، وودّوا أن الأرض تسيخ بهم، فانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فردّ عليه قائلاً:
(يابن أبي تراب، لوكان وجه الأرض كلّه ماءً، وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد…).
لقد بلغت الخسّة، ولؤم العنصر، وخبث السريرة بهذا الرجس إلى مستوى ما له من قرار... وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتوّ القوم وطغيانهم
وسمع فخر عدنان صراخ الأطفال، وهم يستغيثون، وينادون:
(العطش العطش..).
ورآهم أبو الفضل قد ذبلت شفاههم، وتغيّرت ألوانهم، وأشرفوا على الهلاك، من شدّة العطش، وفزع أبو الفضل، وسرى الألم العاصف في محيّاه، واندفع ببسالة لإغاثتهم، فركب فرسه، وأخذ معه القربة، فاقتحم الفرات، فانهزم الجيش من بين يديه، واستطاع أن يفكّ الحصار الذي فرض على الماء، فاحتلّه، وكان قلبه الشريف كصالية الغضا من شدّة العطش، فاغترف من الماء غرفة ليشرب منه، إلا أنه تذكّر عطش أخيه، ومن معه من النساء والأطفال، فرمى الماء من يده، وامتنع أن يروي غليله، وقال:
يا نفس من بعد الحسين هوني **** وبعده لا كنت أن تكوني
هـــــذا الحــــسين وارد المنون **** وتشربين بارد المعين
تــــالله مــــا هــــذا فــعال ديني
ان الإنسانية بكل إجلال واحترام لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الفضيلة والإسلام وهي تلقي على الأجيال أروع الدروس عن الكرامة الإنسانية.
إن هذا الإيثار الذي تجاوز حدود الزمان والمكان كان من أبرز الذاتيات في خلق سيّدنا أبي الفضل، فلم تمكّنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان أن يشرب من الماء قبله، فأي إيثار أنبل أو اصدق من هذا الإيثار، …
واتجه فخر هاشم مزهواً نحو المخيم بعدما ملأ القربة، وهي عنده أثمن من حياته، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشرية التحاماً رهيباً فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى آل النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأشاع فيهم القتل والدمار وهو يرتجز:
لا أرهــب الـــموت اذ المـــوت زقا **** حـــتى أواري في المـــصاليت لقى
نفــسي لسبط المصطفى الطهر وقا **** إني أنا العــــباس أغــــدو بــالسقا
ولا أخــــاف الشــــرّ يـــوم الملتقى
لقد أعلن بهذا الرجز عن شجاعته النادرة، وأنّه لا يخشى الموت، وإنّما يستقبله بثغر باسم دفاعاً عن الحق، وفداءً لأخيه سبط النبيّ (صلى الله عليه وآله).. وأنه لفخور أن يغدو بالسقاء مملوءً من الماء ليروي به عطاشى أهل البيت.
وانهزمت الجيوش من بين يديه يطاردها الفزع والرعب، فقد ذكرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر، ومحطّم فلول الشرك، إلا أن وضراً خبيثاً من جبناء أهل الكوفة كمن له من وراء نخلة، ولم يستقبله بوجهه، فضربه على يمينه ضربة غادرة فبراها، لقد قطع تلك اليد الكريمة التي كانت تفيض برّاً وكرماً على المحرومين والفقراء، والتي طالما دافع بها عن حقوق المظلومين والمضطهدين، ولم يعن بها بطل كربلاء وراح يرتجز:
والله إن قــــطعــــتم يــــميـــني **** إنّـــي أحــــامي أبداً عــن ديني
وعـــن إمــــام صــــادق اليقين **** نجــــل الــــنبيّ الــطاهر الأمين
ودلل بهذا الرجز على الأهداف العظيمة، والمثل الكريمة التي يناضل من أجلها فهو إنّما يناضل دفاعاً عن الإسلام، ودفاعاً عن إمام المسلمين وسيّد شباب أهل الجنّة.
ولم يبعد العباس قليلاً حتى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس البشرية وهو الحكيم بن الطفيل الطائي فضربه على يساره فبراها، وحمل القربة بأسنانه - حسبما تقول بعض المصادر -
وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت(عليهم السلام) وهو غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء وألم الجراح، وشدّة العطش، وكان ذلك حقّاً هو منتهى ما وصلت إليه الإنسانية من الشرف والوفاء والرحمة…
وبينما هو يركض وهو بتلك الحالة إذ أصاب القربة سهم غادر فأريق ماؤها، ووقف البطل حزيناً، فقد كان إراقة الماء عنده أشدّ عليه من قطع يديه، وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته، وهوى إلى الأرض، وهو يؤدّي تحيّته، ووداعه الأخير إلى أخيه قائلاً:
(عليك منّي السلام أبا عبد الله...).
وحمل الأثير محنته إلى أخيه فمزّقت قلبه، ومزّقت أحشاءه، وانطلق نحو نهر العلقمي حيث هوى إلى جنبه أبو الفضل، واقتحم جيوش الأعداء، فوقف على جثمان أخيه فألقى بنفسه عليه، وجعل يضمخه بدموع عينيه، وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزّقته الكوارث قائلاً:
(الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوي...).
وجعل إمام الهدى يطيل النظر إلى جثمان أخيه، وقد انهارت قواه، وانهدّ ركنه وتبددت جميع آماله، وودّ أن الموت قد وافاه قبله، وقد وصف السيّد جعفر الحلّي حالته بقوله:
فمـــشى لمـصرعه الحسين وطرفه **** بين الخــــيام وبــــينه متـــــقـــسم
ألـــــفاه محجــــوب الجـــــمال كأنّه **** بدر بمنـــــحطم الــــوشــــيج مـلثم
فأكــــب منــــحنياً عـــــــليه ودمعه **** صــــبغ البــــسيط كــأنّما هو عندم
قــــد رام يلـــــثمه فـــلم ير موضعاً **** لــــم يــــدمه عــــضّ السلاح فيلثم
نــــادى وقــــد مـلأ البوادي صيحة **** صم الصـــخور لهــــولها تتـــــــألّم
أأخــــي يــــهنيك النــــعيم ولم أخل **** ترضـــى بــــأن أرزى وأنــت منعم
أأخــــي مـــن يحــــمي بنات محمد **** إذ صــــرن يـسترحمن من لا يرحم
مــــا خـلت بعدك أن تشلّ سواعدي **** وتكف بـــاصرتي وظـــهري يقصم
لســــواك يــــلطم بـــالأكف وهـــذه **** بيــــض الــضبا لك في جبيني تلطم
ما بين مصرعك الفظيع ومصرعي **** إلا كــــما أدعـــــوك قــــبل وتـــنعم
هـــذا حســــامك مـــن يذلّ به العدا **** ولــــواك هــــذا مــــن بــــه يــتقدم
هـــونت يـا ابن أبي مصارع فتيتي **** والجــــرح يســـــكنه الـذي هو آلم
وهو وصف دقيق للحالة الراهنة التي حلّت بسيّد الشهداء بعد فقده لأخيه
ووصف شاعر آخر وهو الحاج محمد رضا الأزري وضع الإمام (عليه السلام) بقوله:
وهــــوى عــــليه مــــا هـنالك قائلاً **** اليوم بــــان عـــن اليمين حسامهـا
الـــيوم ســـار عــن الكتائب كبشها **** الــــيوم بــــان عـــن الهداة امامها
اليــــوم آل إلــــى التـــــفرق جمعنا **** اليــــوم حـــلّ عـــن البـنود نظامها
اليــــوم نــــامت أعيــــن بك لم تنم **** وتــــسهّدت أخــــرى فـــعز منامها
أشقــيق روحي هل تراك علمت أن **** غــــودرت وانــــثالث عـليك لئامها
قد خلت أطبقت السماء على الثرى **** أودكــــدكت فــــوق الربى أعلامها
لكـــن أهــــان الخــطب عندي انني **** بــــك لاحــــق أمـــراً قضى علامها
ومهما قال الشعراء والكتّاب فإنهم لا يستطيعون أن يصفون ما ألمّ بالإمام من فادح الحزن، وعظيم المصاب، ووصفه أرباب المقاتل بأنّه قام من أخيه وهو لا يتمكّن أن ينقل قدميه، وقد بان عليه الانكسار، وهو الصبور، واتجه صوب المخيّم، وهو يكفكف دموعه، فاستقبلته سكينة قائلة:
(أين عمّي أبو الفضل،..).
فغرق بالبكاء، وأخبرها بنبرات متقطّعة من شدّة البكاء بشهادته، وذعرت سكينة، وعلا صراخها، ولما سمعت بطلة كربلاء حفيدة الرسول (صلى الله عليه وآله) بشهادة أخيها الذي ما ترك لوناً من ألوان البرّ والمعروف إلا قدّمه لها أخذت تعاني آلام الاحتضار، ووضعت يدها على قلبها المذاب، وهي تصحيح:
(وا أخاه، واعبّاساه، واضيعتنا بعدك...).
يا لهول الفاجعة.
يا لهول الكارثة.
لقد ضجّت البقعة من كثرة الصراخ والبكاء، وأخذت عقائل النبوة يلطمن الوجوه وقد أيقن بالضياع بعده، وشاركهنّ الثاكل الحزين أبو الشهداء في محنتهنّ ومصابهنّ، وقد علا صوته قائلاً:
(واضيعتنا بعدك يا أبا الفضل…).
لقد شعر أبو عبد الله (عليه السلام) بالضيعة والغربة بعد فقده لأخيه الذي ليس مثله أخ في برّه ووفائه ومواساته، فكانت فاجعته به من أقسى ما مُني به من المصائب والكوارث.
وداعاً يا قمر بني هاشم.
وداعاً يا فجر كل ليل.
وداعاً يا رمز المواساة والوفاء.
سلام عليك يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حيّاً.
نقلته لكم من كتاب: العباس بن علي (عليهما السلام) رائد الكرامة والفداء في الإسلام