وكان عليه السلام على جانب عظيم من الفضل والعلم والزهد والعبادة. وروي أن النبي (ص) قال لجابر بن عبدالله الأنصاري: ستدرك ولدي محمد الباقر فاقرأه عني السلام.
وكان الناس من الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين يرجعون إليه في علوم الدين والقرآن وروى عنه كثير من المحدثين، وكان (ع) كريما عابداً كثير الصيام والحج.
كنيته أبو جعفر. وألقابه ثلاثة: الباقر والشاكر والهادي. وأشهرها الأول. وجاء في تذكرة الخواص لابن الجوزي بعد أن فسر التبقر بالتوسع في العلم : إن الإمام محمد الباقر إنما وصف بهذه الصفة لتبقره في العلم. وقال ابن سعد في طبقاته: إنه كان عالما عابدا ثقة عند جميع المسلين، وروى هنه أبي حنيفة وغيره من أئمة العلم والمذاهب. وهو أشهر من أن يُعْرَفْ ويُوْصَفْ. كما قال الشاعر:
وإذا استطال الشيء قام بنفسه
وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا
من كلامه عليه السلام:
1- من صدق لسانه زكا عمله، ومن حسنت نيته زيد في رزقه، ومن حسن بره بأهله زيد في عمره.
2- إياك والكسل والضجر فإنهما مفتاح كل شر، من كسل لم يؤد حقاً، ومن ضجر لم يصبر على حق.
3- قولوا للناس ما تحبون أن يقال لكم فإن الله يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين، الفاحش المتفحش السائل الملحف ويحب الحي الحكيم العفيف المتعفف.
جامعة أهل البيت (ع):
أُطلق على الحلقات التي كانت تجتمع في مسجد المدينة إلى الإمام أبي جعفر الباقر اسم الجامعة، لأنها كانت تجمع بين الحين والآخر المئات من مختلف الأقطار لدراسة الفقه والحديث والفلسفة واللغة وغير ذلك من مختلف العلوم. وتخرج منها منذ أسسها الإمام محمد الباقر عليه السلام حتى آخر مرحلة من نموها وتكاملها في عهد ولده الإمام الصادق (ع) آلاف العلماء ومختلف المواضيع. ووصفها الأستاذ عبدالعزيز بقوله: وأرسلت الكوفة والبصرة وواسط والحجاز إلى جامعة أهل البيت أفلاذ أكبادها وتخرج منها كبار العلماء والمحدثين والرواة، وقد أدرك الحسن بن علي الوشا تسعمائة شيخ في مسجد الكوفة يتدارسون ويروون الحديث عن جعفر بن محمد وأبيه (ع)..
وهو القائل في حديث له مع بعض الصحابة: لقد أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلٌ يقول حدثني جعفر بن محمد، والحسن بن علي الوشا هذا قد عاصر الإمام الرضا (ع) وبينه وبين مدرسة الإمامين الباقر والصادق نحو ثلاثين عاماً.
كان عهد الإمام الباقر(عليه السلام) عهد الصراعات الفكرية التي انعكست على الحياة السياسية القائمة وهذه التيارات الفكرية في الأمة حصلت على تشجيع عام من السلطة الحاكمة وأنها جاءت استيراداً من بعض البلدان المفتوحة إسلامياً والتي كانت تتمتع بأفكار وفلسفات معينة وقد وجد الحكام في بعض هذه الأفكار ما يبرر انحرافهم الفكري والتواءهم السلوكي لذلك تمسكوا بها وأشاعوها، وأما حالة الأمة الإسلامية فكانت امتداداً للحالة السابقة في زمن الإمام السجاد(عليه السلام) حيث جراح المسلمين من واقعة الطف وما تبعتها من اضطرابات وانتفاضات وثورات مستمرة ودماء سيد الشهداء الحسين(عليه السلام) شاخصة أمام الأبصار تطالب بالثأر والانتقام إلا أن الظروف المحيطة بالإمام الباقر والإمام الصادق(عليهم السلام) ـ أيضاً ـ كانت بحاجة ماسة إلى إبراز الجانب الفكري والفقهي في الإسلام وإلى وضع الخطة الثقافية للرد على الدخيل من الأفكار الغازية والفلسفات المستوردة وبيان الحل للمعضلات الفلسفية التي أُثيرت آنذاك وهذا العمل الفكري الجبار قام به الإمامان الباقر والصادق(عليهم السلام) مستغلين الفرص المناسبة لنشر فكر أهل البيت ولفرض مدرسة أهل البيت الفكرية والثقافية في الساحة ولكي تظهر ـ بوضوح ـ التكاملية والشمولية لهذه المدرسة الإلهية ولا يعني هذا الكلام أن الإمام السجاد(عليه السلام) قد ترك هذا الجانب وتمسك بالجانب التربوي الروحي عبر وسيلتي الدعاء والتذكر بمصيبة الحسين(عليه السلام) لا وإنما الظروف النفسية والاجتماعية والسياسية للأمة الإسلامية هي التي تحدد نوعية البرنامج الذي يمارسه الإمام ليصب في نفس المسيرة بالنتيجة فكل إمام كان يؤدي دوره القيادي في الساحة مراعياً فيها المصلحة الإسلامية العليا معالجاً الخطورة المهددة للشريعة الإسلامية لردها والتحذير منها من جانب ومن جانب آخر مستغلاً الظرف السياسي والاجتماعي المتاح لهذا الأسلوب أو ذاك.
وبالفعل كان الظرف للإمام الباقر(عليه السلام) مناسباً لتأسيس المدرسة الإسلامية الثقافية والفكرية ومما لا يخفى أن هذه الأرضية الصلبة بالوعي والثقافة الحية هي التي تصلح للوقوف عليها للمقاومة والثورة والتحرير من كل التيارات الفاسدة فلسفياً وسياسياً وإلا كانت أقدام المسلمين تقف على رمال متحركة سرعان ما تغور أجسامهم أمام أبسط التيارات العاصفة ويتم استيلاء الباطل على الساحة.
وهذه الفكرة هي التي تجعلنا نؤمن قلبياً بأن أهل البيت(عليهم السلام) هم حماة الإسلام وهم الذين أعادوا الناس إلى الإسلام الصحيح بالرغم من الدسائس الخبيثة في الداخل والخارج ومن هذه الفكرة نرى أن الإمامة مشروع قيادي متكامل عينه الله سبحانه لإنقاذ الأمة ولاستمرار القيادة الشرعية للمسلمين والإمام الباقر(عليه السلام) جسد هذه الفكرة المباركة. .
ينقل لنا التاريخ أن الخليفة هشام بن عبد الملك أراد أن يذل الإمام فبعث برسول يطلبه فجاء هو وابنه الصادق إلى دمشق ودخلا عليه. . . لم يأذن لهما بالجلوس فغصب الإمام. . . فأذن لهما.
طلب من الإمام أن يتبارى معه بلعبة السهام وبالفعل سجل الإمام نصراً رياضياً كاسراً شوكته النفسية. . سأله مجموعة أسئلة منها على القيادة قال الإمام قول الله (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وقال(عليه السلام) (والأرض لا تخلو ممن يكمل هذه الأمور التي يقصر غيرنا عنها) فأحمر وجه هشام. . . ولما سأله عن علم الإمام علي(عليه السلام) أجابه الأمام: (. . . وأوحى الله إلى نبيه(صلى الله عليه وآله) أن لا يبقي في غيبه شيئاً إلا يناجي به علياً)
وبهذا استطاع الإمام أن يثبت الخلافة الشرعية في أئمة أهل البيت(عليهم السلام) أمام السلطان الجائر فهذه الثورة الفكرية من الإمام الباقر(عليه السلام) حيث بقر العلم بقراً هي التي أولدت الجيل المؤمن الواعي لأهدافه ومسؤولياته الشرعية وهذه المدرسة الفكرية انتشرت في بقاع العالم الإسلامي وينقل أن الحسن بن علي الوشا أدرك تسعمائة شيخ في مسجد الكوفة يتدارسون ويروون الحديث عن الباقر(عليه السلام).
وروى عن الإمام تلميذه محمد بن مسلم ثلاثين ألف حديث بقوله:
(. . حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث) ويقول البعض أن الإمام الباقر(عليه السلام) ترك تسعين ألف حديثاً في مختلف المجالات العلمية والفكرية والفقهية كما في رواية(بحار الأنوار) الجزء الثاني يقول جابر الجعفي حدثني أبو جعفر سبعين ألف حديث هذه الثروة الكبيرة تركتها لنا الإمام الباقر(عليه السلام) محدداً الإطار الفكري والثقافي والأخلاقي فكان يصف الشيعة ويبين أخلاقهم ليحدث الثورة الأخلاقية في النفوس فكان يصفهم بقوله(عليه السلام): (. . . إذا غضبوا لم يظلموا وإذا رضوا لم يسرفوا بركة على من جاورهم وسلم لمن خالفهم).
وبذلك ليكوّن الخلفية الثقافية لهذه الأمة المسلمة التي كثرت عليها المؤامرات عبر الاستعمار الثقافي المدبر من السلطة الحاكمة أو من الخارج فمثلا يقف الإمام متحدياً ومفنداً الأفكار التبريرية كأفكار المرجئة (وهم الجماعة الذين قالوا بأن الأفضل لنا أن لا ندين الرجال بمعنى أن لا نحدد موقفنا من الرجال السابقين ونرجئ ذلك إلى يوم القيامة والله سبحانه وتعالى هو المسؤول فقط فمعاوية والإمام علي تحاربا وذهبا إلى ربهما وهو الذي يحاكمهما فليس من وظيفتنا أن نحاكم أحدهما أو نحدد الموقف من الآخر ونقف إلى جانب أحد الطرفين. . . وهناك حركة القدرية التي بثها الحسن البصري والتي تقول بأن معاوية قد جاء إلى الحكم بأمر الله (أي جبراً) ونحن لا نستطيع أن نخالف أوامر الله سبحانه. . ولم يقتصر الأمر على الجانب السياسي إنما شمل كافة الأصعدة وخصوصاً أن عهد الإمام الباقر(عليه السلام) قد شهد أفكاراً متناقضة لأن الأمة وصلت إلى مستوى من الفوضى السياسية من جميع النواحي)(58).
وبذلك نلاحظ أن الإمام الباقر(عليه السلام) كان في ظرف حساس معين أمكنه أن يمسك خيوط التصحيح في الأمة فكرياً وسياسياً وثورياً وجهادياً وفقهياً أي كانت قيادته شاملة بشمول الحياة هذا ما ناسب الظرف الذي كان يعيشه، فهو المربي لزيد بن علي فتبلورت لديه الثورة في عهد الإمام الصادق(عليه السلام)، فإذا إن الإمام الباقر(عليه السلام) ورث الخط القيادي الشرعي لذلك فوّت الفرصة بل الفرص على المستغلين فنشر علوم أهل البيت في فرصة زمنية ذهبية لذلك كرّس مفاهيم الثقافة الواعية والثقافة الثائرة في الأمة فكان المكمل لدور الإمام السجاد والممهد لدور الإمام الصادق إضافة إلى تفجير الوضع ثورياً بثورة زيد بن علي